
نحو مشروع وطني سوداني ثلاثي الأبعاد من أجل السلام والانتقال المدني الديموقراطي النهضوي: ثانياً، إنهاء الحرب وبناء السلام المدني الديموقراطي(3-3)
بروفيسور إبراهيم أحمد البدوى عبد الساتر
الشكل 5: الولايات صارت مسرحاً للاستقطاب والصراعات القبلية/الاثنية
المصدر: الجزيرة نت (2022).
قد تختار النخب الحاكمة المراهنة على التنمية إذا ما رأت أن هناك خطراً وشيكاً على النظام القائم بسبب الركود الاقتصادي، كما كان الحال بالنسبة لنُخب الحزب الشيوعي الصيني الحاكم خلال ما بعد حقبة “الثورة الثقافية”. ففي عهد الرئيس دنغ شياو بينغ، الذي تولى السلطة بعد فترة وجيزة من وفاة الزعيم الأعلى ماو تسي تونغ في عام 1976، أعادت قيادة الحزب الشيوعي الصيني هيكلة أيديولوجية الحزب وسياسته العامة بشكل جذري وحوّلت الصين إلى معجزة تنموية هائلة. وفي حالات أخرى، مثل البلدان الخارجة من حروب أهلية مدمرة، يعتمد اختيار الرهان على التنمية على قدرة النخب على التعلم من الأخطاء والانخراط في مسار تصحيح المسار. فقد قررت النخب الإثيوبية الحاكمة بقيادة ميليس زيناوي إجراء تحول اقتصادي كبير في عام 2004 بعد عقد من تبنيها لنسخة ألبانية متطرفة من الماركسية. يكشف تحليل ديناميكيات النمو المقارنة في ظل نظامي الجبهة الديموقراطية الثورية في أثيوبيا والإنقاذ في السودان عن تجارب نمو متباينة للغاية، كما يلقي الضوء على الاختلاف الشديد بين النخب التي حكمت البلدين (البدوى وآخرون، 2023). فبينما شهد الاقتصاد السوداني ركوداً لمدة 15 عاماً، تضاعف الاقتصاد الإثيوبي أكثر من أربع مرات. وفي أقل من جيل واحد، تمكن الاقتصاد الإثيوبي من سد الفجوة التي كانت تفصله عن الاقتصاد السوداني في عام 2004، والتي تجاوزت 60 مليار دولار. وعلى نفس المنوال، بينما ظل دخل الفرد السوداني راكداً لمدة 15 عاماً، زاد دخل الفرد الإثيوبي بنحو ثلاثة أضعاف، مما سمح لإثيوبيا التي كانت أكثر فقراً بتقليص الفجوة في الدخل من خمس دخل الفرد السوداني تقريباً في عام 2004 إلى النصف في عام 2019. وبالفعل، حققت إثيوبيا نصف ما يسمى “بالمعجزة التنموية” ، إذ بلغ متوسط معدل النمو السنوي لدخل الفرد فيها نحو 7% على مدى 15 عاماً. على الجانب الآخر، كان النمو في السودان متواضعاً وغير مستقر، بل وحدث انهيارٌ اقتصاديٌ كبير بعد انفصال الجنوب.
عليه، نظراً لنجاحها الاقتصادي الواضح، قررت النخب الإثيوبية بناء “شرعية اقتصادية” كأساس لبقاء النظام في السلطة. وبدلاً من ذلك، اعتمدت نخب الإنقاذ على الزبائنية السياسية في ظل نظامها الكليبتوقراطي الممول بالنفط والذهب للتمسك بالسلطة. التجربة الأثيوبية هامة جداً بالنسبة لمقاربة الشق الاقتصادي للعقد الاجتماعي المستقبلي بالنسبة للسودان والتي سنطرق لدلالاتها في القسم الأخير من الورقة.
4.2 السردية الوطنية وهندسة المشروع الوطني السوداني
يتوقف نجاح المشروع الوطني الطموح المقترح على قدرة أهل السودان على إعادة تأهيل رأس المال الاجتماعي الفخيم الذي تشكل في بدايات ثورتهم المجيدة، والانتقال إلى توازن اجتماعي جديد يسع الجميع. ولتحقيق ذلك يجب أن يتوافق أهل السودان، في إطار حوار مجتمعي هادف وشفاف، على “عقد اجتماعي” شامل يحدد مفهوم “الشرعية السياسية والاقتصادية”. ومن شأن هذا العقد الاجتماعي بدوره أن يوفر “تقنية التزام” لتجسير وتنسيق الأهداف السياسية والاقتصادية المتباينة المرتبطة بالمصالح المتضاربة بطبيعة الحال في المجتمع السوداني المتسم بالانشطارات الهوياتية وكذلك الاستقطاب السياسي.
يجب أن تكون البداية هي التبادل الفعّال للأفكار. وهذا يحدد سوقاً سياسياً يعبر فيه الناس عن تطلعاتهم الوطنية في جانب الطلب، وتستجيب النخب بالأفكار والبرامج في جانب العرض (ديوان، 2022). في هذا السياق، فإن طلب الشعب السوداني لحياة أفضل في مجتمع آمن يعمل بشكل جيد من شأنه أن يستدعي عرض الأفكار حول أفضل السبل لتحقيق التطلعات. ويحدد التفاعل بين العرض والطلب في هذه السوق السياسية-الاقتصادية “التوازن الاجتماعي”. وتحدّد نوعية “العقد الاجتماعي” وشرعيته الشعبية نوع التوازن الاجتماعي الناتج عن ذلك. وبالتالي، فإن التوازن الاجتماعي التعاوني الذي يغرس الثقة والتعاون في المجتمع، وبالتالي تعزيز الديمقراطية المستقرة والمؤسسات القوية والتنمية التحويلية، يتطلب عقداً اجتماعياً واسع النطاق ومدروساً بصورة جيدة.
وانطلاقًا من التحليل أعلاه، نقدم (في الشكل 6) المكونات الرئيسة للعقد الاجتماعي المقترح، الذي يقوم على تلبية تطلعات المجتمع السوداني (الشباب، المجتمع المدني… إلخ) من قبل النخب السياسية التي ستلتزم بعقد اجتماعي يهدف إلى تلبية مطلب الحياة الأفضل الذي يتبناه الجمهور. ويتوقف النجاح على تعاون النخبة في تنفيذ العقد الاجتماعي، وإفساح المجال للقطاع الخاص للمساهمة في التحول الاستثماري، تحت سقف قيادة الدولة للمشاريع الاقتصادية الاستراتيجية الكبرى والتزامها بتحقيق الأهداف التنموية المستدامة بتوفير الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وتقديم الحماية الاجتماعية الشاملة. لتحقيق هذا المشروع لابد من تطوير خطاب وطني ملهم واستشرافي لغرس الثقة في المجتمع وتأمين استعداده للتضحية في المدي القريب وقبول كلفة الإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية الضرورية مقابل التوقعات بغدٍ أفضل في ظل العقد الاجتماعي المتفق عليه. وكما هو موضح في الشكل، فإن المشروع التحويلي هو تجربة تعليمية اجتماعية تفاعلية متبادلة بين الجهات الفاعلة الرئيسية: المجتمع والنخب المدنية السياسية والاقتصادية وكذلك العسكرية.
وأخيراً، فإن إطلاق المشروع الوطني وفق المقترح أعلاه يتطلب تحالفاً وطنياً واسعاً في شكل “جبهة وطنية عريضة” لوقف الحرب وبناء السلام المدني الديموقراطي المستدام. هذا الاستحقاق سيكون من أهم المحاور التي سنعرض لها في الخاتمة والتوصيات أدناه.
الشكل 6: كيف يمكن أن تؤدي التحولات الكبرى إلى بناء تسوية سياسية لمشروع النهضة الاقتصادية في السودان
5. الخاتمة والتوصيات
أجرينا في هذا المبحث تحليلاً منهجياً معمّقاً شمل ثلاثة قضايا رئيسة: اتفاقيات تقاسم السلطة بين الحكومات المتعاقبة وحركات المعارضة المسلحة كمنهج لبناء السلام وبينا نتائجها الكارثية؛ الدعم الخارجي كرافع لا غنىً عنه لمشروع وقف الحرب الحالية وبناء سلام مستدام في ظل ضعف القدرات المحلية وتآكل راس المال الاجتماعي من جراء الحرب؛ وملامح العقد الاجتماعي وسرديته الوطنية للانتقال المدني السلمي الديموقراطي النهضوي. إلا أن هذه الأجندة الوطنية تتطلب التوافق على بناء جبهة وطنية عريضة لاستعادة الوطن من كل مكونات المجتمع لا تستثنى أحداً يؤمن بخيار الشعب في الحرية والسلام والعدالة ومرجعية ثورة ديسمبر المجيدة، على قاعدة وقف الحرب وبناء السلام المدني الديموقراطي المستدام. عليه، علينا أن نبدأ بمعالجة هذا الاستحقاق قبل تناول التوصيات المترتبة على مقاربات هذه الورقة بشأن قضايا وقف الحرب وبناء السلام ومرتكزات المشروع الوطني المقترح.
هناك بعض المبادرات الوطنية المقدَّرة في الساحة لبناء توافق يمكن أن يؤسس لقيام الجبهة الوطنية المنشودة، نذكر منها على سبيل المثال “خبراء سودانيون ضد الحرب” و “الآلية الوطنية لدعم التحول المدني الديمقراطي”، إلا أن تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) – والتي عقدت مؤتمرها التحضيري في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في أكتوبر، 2023 وتتهيأ لعقد مؤتمرها التأسيسي أيضاً في نفس المدينة في أواخر مايو 2024- تظل المبادرة الأبرز وربما الأوفر حظاً للنهوض بهذا الاستحقاق الوطني العظيم، لكن هذا يتطلب تلبية شروط هامة سنعرض لها أدناه. فضلاً عن أنها تحظي بدعم دولي وإقليمي واسع، فقد أعدت التنسيقية رؤية سياسية ومشروعاً وطنياً شاملاً في سياق “البيان الختامي لإعلان تقدم” في 26 أكتوبر 2023 و”إعلان مبادئ إنهاء الحرب وتحقيق السلام وتأسيس السلام وانتقال مدني ديمقراطي مستدام ” الصادر في 29 نوفمبر 2023. يحتوي “مشروع خارطة طريق إنهاء الحرب وتحقيق السلام وتأسيس انتقال مدني ديمقراطي مستدام ” الذي اعتمدته (تقدم) بالتزامن مع إعلان المبادئ في 29 نوفمبر 2023م على ست خطوات (الصندوق 2).
رغماً عن أن “تقدم” تمتلك “قصب السبق” مقارنة بالمبادرات الأخرى إلا أننا نعتقد أنها ما زالت بعيدة عن توفير الإجماع المطلوب، حيث تواجه معارضة صارمة من قبل أهم أحزاب اليسار السوداني، إضافة إلى تحفظات أساسية من قبل حزب الأمة تتعلق بعدة قضايا محورية تشمل نسبة تمثيل الأحزاب السياسية، والتي خُصص لها ولحركات المعارضة المسلحة نسبة 30% مقارنة بنسبة 70% حُظيت بها قوي المجتمع المدني. يبدو أن مسألة نسب المشاركة وبعض التحفظات الأخرى قد تمت معالجتها بحسب بعض المصادر المأذونة، إلا أن هناك اختلافات عميقة بين قيادات حزب الأمة بشأن “تقدم”، بالرغم من أن الحزب ما زال يُعتبر، بحسب معظم المراقبين، الرافع الأهم للتنسيقية.
يُعتبر المؤتمر التأسيسي المرتقب لتقدم حدثاً محورياً لجهة إمكانية ارتقاء التنسيقية لمصاف “الجبهة الوطنية الجامعة” من عدمها. فبحسب قراءات لعينة عشوائية من عدة مقاربات في وسائل التواصل الاجتماعي توفرت لدي مساهمة أعتقد أنها الأكثر موضوعية للأستاذ عروة الصادق، الناشط السياسي والقيادي بحزب الأمة. برأيه أن المؤتمر يمكن أن يكون جامعاً للسودانيين من كافة القوى السياسية والمجتمعية والادارات الأهلية، وأن يعمل كمنصة لتوحيد الأطياف المختلفة في السودان وتسبيك الهوية الوطنية ومنعها من الانجراف في تيار التخبط والتمزق والعصبيات الجهوية. عليه، يمكن أن يساهم المؤتمر في تحقيق استقرار سياسي عبر التوصل إلى تصورات وملامح اتفاقيات تساعد في تجاوز الانقسامات السياسية والمدنية تدفع لتوسيع الكتلة المناهضة للحرب.
لتحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية الهامة على طريق بناء الجبهة المنشودة، يري أستاذ عروة أن على قيادة “تقدم” توفير إمكانية إجراء حوارات بناءة بين الأطراف المختلفة ليتسنى تحقيق توافق في الآراء حول القضايا الرئيسة، لا أن يكون المؤتمر نسخة معلبة جاهزة التصميم. في هذا السياق لابد أن يمثل المؤتمر فرصة لضمان تمثيل جميع الفئات والمهن والإدارات الأهلية في عملية صنع القرار، وليس تمثيلاً شكلياً صورياً. إضافة إلى ذلك، لابد أن يعكس المؤتمر التنوع الثقافي والعرقي والنوعي للمجتمع السوداني.
بالنظر إلى جسامة التحديات الماثلة أمام “تقدم” لتحقيق هذه الأهداف، تعتبر هذه الورقة أن الهدف الاسمي ببناء “الجبهة الوطنية الجامعة” مازال مشروعاً قيد الإنشاء حتى إشعار لآخر. مع ذلك نحسب أن التوصيات أدناه التي خلصت إليها هذه الورقة ضرورية لرفد المشروع الوطني للجبهة المنشودة عندما تصبح أمراً واقعاً في المدى القريب بإذنه تعالي.
5.1 ماذا يعنى المنهج “التشاركي” لبناء السلام لمنبر جدة والإيقاد والمبادرات الإقليمية الأخرى؟
لقد أبِنّا في سياق الاستعراض النقدي لتجارب اتفاقيات تقاسم السلطة إلى أن هذه الاتفاقات لم تفشل فقط في بناء السلام، بل أدت إلى نتائج كارثية، رغماً عن الدعم الإقليمي والدولي والذي تمثل في ثلاثة بعثات أممية/إقليمية. مثلاً، أفضت اتفاقية “السلام الشاملة” بين الحركة الشعبية ونظام الإنقاذ إلى تقسيم البلاد في نهاية المطاف، بينما لم تكن اتفاقية جوبا عملية سلام ذات قاعدة عريضة من شأنها تمكين المجتمع المدني في المناطق المتأثرة بالنزاعات في البلاد، بل كانت أقرب لصفقة شمولية للثورة المضادة. لهذا، أعاقت هذه الاتفاقية المسار الدستوري نحو الديمقراطية خلال الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر، الأمر الذي ساهم في التمهيد لهذه الحرب العسكرية الفصائلية الحالية. عوار هذه الاتفاقيات، والذي ساهم في إفشالها، أنها قد كانت محصورة على النخب العسكرية والجيوش المتحاربة تحت إمرتهم.
عليه، إن المغزى من الدروس المستفادة من قصة بناء السلام في السودان هو أن إنهاء الحروب وإعادة بناء السلام يجب أن تكون عملية “تشاركية” يكون المجتمع المدني السوداني والقوى الديمقراطية المدنية في قلبها. وبالنظر إلى الإرث الديمقراطي السوداني الثر، وإن تمت إعاقته مراراً بسبب الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، فإن توفير مساحة وصوت لأصحاب المصلحة المدنيين سيكون رافعاً لا يُستهان به لمشروع بناء السلام الديمقراطي المدني. وفى هذا السياق وكما هو معلوم فقد أعلن رعاة مبادرات السلام الحالية، والتي تمحورت الآن حول منبر جدة، بأن هناك ثلاث مراحل لعملية السلام تبدأ بإجراءات وقف إطلاق النار والفصل بين القوات؛ ثم فتح ممرات الإغاثة والعون الإنساني؛ وصولاً إلى ترتيبات الفترة الانتقالية وإصلاح المنظومة العسكرية-الأمنية. إلا أن نجاح مساعي السلام عبر هذه المبادرات الإقليمية يتوقف على توفير مساحة لأصحاب المصلحة المدنيين، مثل الأحزاب السياسية وتنسيقيات الشباب ومنظمات المجتمع المدني والمجتمعات المحلية، حيث يمكن أن يشكل ذلك عدة روافع هامة لنجاح عملية السلام:
• كطرف ثالث يقف على مسافة واحدة من طرفي الحرب العسكريين، يمكن لقوي مدنية ذات مصداقية أن تساهم في جسر الهوة الهائلة بين طرفي الحرب والتخفيف من حدة العداء بينهما
• القوى المدنية الديموقراطية كطرف فاعل في مبادرات السلام تستطيع أن تدفع في تشكيل سردية وطنية لتبني مفهوم ومنهج للإصلاح العسكري والأمني وفق المعايير العالمية القمينة ببناء جيش وطني وقوات نظامية حرفية، تحت إشراف سلطة انتقالية مدنية وإنهاء عسكرة السياسة والاقتصاد
• مشاركة القوى المدنية ستعزز اعتماد “المؤتمر القومي” الجامع كمنهج ومنبر لبناء السلام بديلاً عن اتفاقيات اقتسام السلطة والمحاصصة العسكرية الفصائلية، مما يقطع الطريق على أي ترتيبات محتملة تعيد البلاد لإرث الصفقات الشمولية وآثارها الكارثية.
بناءً على ما تقدم لابد من الإشادة بخارطة طریق “إنهاء الحرب وتحقيق السلام وتأسيس انتقال مدني ديمقراطي مستدام” لتنسيقية “تقدم”، والتي تضمنت ست مراحل وخطوات أساسية للوصول إلى هدف انتقال مدني ديمقراطي مستدام تشمل دوراً محورياً للقوى الديمقراطية المدنية وكافة أصحاب المصلحة المدنية، ما عدا قوي الثورة المضادة المعلومة. إلا أننا كما أشرنا أعلاه ببعض التفصيل، لكي تكتسب الشرعية والمصداقية من طرف الشعب السوداني والمجتمعين الدولي والإقليمي للنهوض بهذا الدور الجسيم، على “تقدم” على وجه الخصوص وسائر تشكيلات القوى الديمقراطية المدنية الأخرى عامة أن تعالج بعض القضايا العالقة من أجل التوصل إلى تشكيل “جبهة وطنية عريضة” لاستعادة الوطن من كل مكونات المجتمع لا تستثنى أحداً يؤمن بخيار الشعب في الحرية والسلام والعدالة ومرجعية ثورة ديسمبر المجيدة، على قاعدة وقف الحرب وبناء السلام المدني الديموقراطي المستدام، ومسترشدة بعقد اجتماعي متين.
5.2 لكن، لماذا تظل هناك حاجة إلى عملية أممية لبناء وحفظ السلام متعددة الأبعاد في السودان؟
وبالاستناد إلى نموذج “مثلث السلام” لدويل وسامبانيس، والأدلة المتينة المترتبة عليه، يجب على القوى السياسية وقوى المجتمع المدني السودانية معالجة تحدي ترميم رأس المال الاجتماعي الذي دمرته الحرب والقدرات المؤسسية المستنفدة، والتي تشكل ضلعي هذا المثلث. وهذا يتطلب بناء تحالف عريض القاعدة من أجل السلام المدني الديمقراطي، يتمثل في جبهة وطنية عريضة كما أشرنا سابقاً. ومع ذلك، وكما أفادت هذه الورقة، فإن حجم الدمار الذي أحدثته هذه الحرب والقتال المحتدم بين الجيشين، إضافة إلى الخطاب التصعيدي والأجندة الحربية المتطرفة التي تتسيد المشهد، فضلاً عن جرائم الحرب المروعة التي تحدث، لكل هذه الأسباب لا يوجد أفق لإنهاء هذه الحرب، ناهيك عن إعادة بناء سلام مستدام، دون دعم خارجي. عليه، يكتسب منبر جدة ومبادرات الاتحاد الأفريقي والإيقاد والدول الجوار أهمية خاصة.
لكن بالنظر إلى تهتك النسيج الاجتماعي المريع والانشطارات الهوياتية غير المسبوقة، فضلاً عن تجذُّر المصالح الاقتصادية-الريعية الفئوية لطرفي الصراع وارتباطها بعسكرة السياسة والاقتصاد، سوف لن تكون مجهودات بناء السلام سهلة حتى في ظل وجود جبهة وطنية وازنة وإرادة إقليمية قوية. عليه، نرى أن تأمين فرصة حقيقية للسلام قد يستدعي النظر في إسناد المبادرات الإقليمية الحالية بمشاركة أممية فاعلة، بحيث يتم رفد الضلع الثالث من مثلث السلام بعملية تحويلية، متعددة الأبعاد لحفظ السلام تقودها الأمم المتحدة، وبطبيعة الحال بمشاركة إقليمية. لن تساعد مثل هذه العملية المختلطة في فرض السلام وحفظه فحسب، بل أيضاً ستمكن أصحاب المصلحة السودانيين من المدنيين والعسكريين من تبني وتنفيذ الإصلاحات الأمنية القمينة بإعادة بناء قوات مسلحة غير مسيسة ومهنية بعيدة تماماً عن التعامل في الأنشطة التجارية أو أي شكل من أشكال المصالح الاقتصادية. لقد توصلنا إلى هذا الموقف من وجهة نظر نزعم بأنها تستهدي بدلائل إرث كبير من الأدبيات المتواترة عن تجارب بناء السلام، تحتوي على دراسات محكمة عن عمليات بناء السلام منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.
في هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن هناك مبادرات وطنية تدعو إلى تبنى الطلب إلى الأمم المتحدة بدعم مشروع إنهاء الحرب وبناء السلام. ففي بيانهم الصادر بتاريخ 16 نوفمبر، 2023 في العاصمة المصرية، القاهرة، دعا تجمع “خبراء سودانيون ضد الحرب” إلى قيام “الجبهة الوطنية لإيقاف الحرب”، مشددين على حقيقة أن:
“كافة أجهزت الدولة ومؤسساتها المعنية بإعمال العدالة وفرض النظام، إما انها تآكلت أو انها أصبحت طرفاً فاعلاً في الحرب مما يجعلها غير قادرة على تحقيق استتباب الأمن وغير مؤهلة لتحقيق النظام والقانون، وادراكاً لهذه الحقائق أكد المشاركون عل أن تحقيق السلام الدائم واستدامة الأمن وفرض الاستقرار والعدالة يستدعي قيام الشرعية الدولية ممثلة في الأمم المتحدة وميثاقها بمساندة الشعب السوداني وتمكينه من ممارسة حقه المشروع في الحفاظ على وحدة ترابه الوطني وصيانة استقلاله وممارسة سيادته الوطنية دون نقصان أو إفتئات، و أن السودان جديرٌ بهذا التضامن من الشرعية الدولية لكونه أسهم عل نحو فاعل منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين علي مساندة الأمم المتحدة في سعيها الدؤوب لإرساء السلم و الأمن الدولي و إقرار حق تقرير المصير للشعوب وتصفية الاستعمار في افريقيا و بقاع اخرى ف العالم.”
وفى رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 18 أكتوبر، 2023، دعا تجمعٌ سودانيٌ من 16 جزباً سياسياً وقويً نقابية ومدنية مجلس الأمن الي:
“الشروع فوراً لتأسيس عملية شاملة لدعم السلام المستدام تابعة للأمم المتحدة لفرض السلم والامن في كل أنحاء السودان وأن يُبقي المجلس المسألة قيد النظر الفعلي، للتأكد من امتثال طرفا الحرب لطلبات المجلس بشأن الاجراءات ذات الصلة باستدامة السلام وضمان الانتقال المدني الديموقراطي. كما إننا نحث مجلس الأمن، على إنشاء لجنة تحقيق دولية، تضطلع بالتحقيق في التقارير المتعلقة بجرائم الحرب وانتهاكات القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الانسان التي يرتكبها طرفا القتال وتحديد هوية مرتكبي تلك الانتهاكات لضمان محاسبة المسؤولين عنها. نحن نتطلع بأمل بالغ، ان يقوم سعادتكم بالاستجابة الفورية لدعوتنا، والطلب الي مجلس الأمن لعقد جلسة عاجلة لاتخاذ الإجراءات الفعلية اللازمة لإيقاف الحرب وإنهاء تداعياتها بالغة الخطورة على السلم والأمن الاقليمي والدولي.”
وفى مقالٍ له في صحيفة الراكوبة الاليكترونية (عدد 15 مايو، 2024)، حذر الأكاديمي المرموق بروفيسور مهدى أمين التوم:
“من أن ما أفرزته الحرب اللعينة القائمة، وما أثارته من أحقاد وبغضاء في نفوس أهل السودان ضد بعضهم البعض، وما نشهده ونحس به من عدم تَعَلُّم المدنيين الحزبيين والمهنيين المتصدين للعمل العام، يلقي بظلال قاتمة علي إمكانية إنقاذ أنفسنا و وطننا بقدراتنا الذاتية الماثلة”؛ الأمر الذي دفعه إلى القطع بأن، “إن الوصاية، أو الإدارة، الدولية المؤقتة قد تكون فعلاً فكرة مجنونة ومربكة لكثيرين.. لكن الدافع وراءها قناعة أن الوطن محتاج إلى (جَمَّة) مؤقتة من أبنائه، ومتعطش إلي آلية قوية و فَاعِلة لفرض وقف فوري للحرب اللعينة القائمة، و لإعادة ترتيب البلاد دستورياً و أمنياً و إدارياً، لينطلق الوطن من جديد علي هدىً و علي دراية..”؛ مشيراً إلى “إنه إختبارٌ صعبٌ، وإختيارٌ تاريخي، لن يكون متاحاً إذا فات أوانه، وتحولت بلادنا، بالإرهاصات الماثلة، إلى كنتونات قبلية أو جهوية متصارعة ومتناحرة في ظروف لا تمت للقرن الحادي والعشرين بصلة، ولا تليق بأمة تعود جذورها التاريخية إلى عدة حِقَبٍ وقرون..”
برأي، رغماً عن أن ما يجرى في بلادنا جراء هذه الحرب اللعينة يمثل تهديداً وجودياً مكتمل الأركان، إلا أن علينا تفادى الذهاب بعيداً لدرجة طلب “الوصاية الأممية”، على أمل أن تتمكن القوى الديمقراطية المدنية من التوافق على مشروع الحد الأدنى ليتسنى تشكيل جبهة وطنية جامعة. بالمقابل، استناداً إلى التحليل والأدلة التي أفادت بها هذه الورقة بشأن تهتك رأس المال الاجتماعي وانهيار القدرات المحلية، توخى الواقعية والأمانة الفكرية يجب أن تقود هكذا جبهة إلى الدعوة صراحةً إلى عملية حفظ سلام أممية محايدة متعددة الأبعاد. هذه البعثة ستكون مكملة لمنبر جدة والجهود الإقليمية الأخرى، والتي بدورها ستمهد السبيل للموافقة الأممية لإنشاء هكذا عملية، بالنظر إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي من المأمول أن يُنجز في إطار منبر جدة يُعتبر شرطاً لازماً للموافقة المنشودة.
دعونا نذكِّر ما أشرنا أليه في سياق نموذج بناء السلام، حيث بينا بأن عنصر الكفاءة الدولية يمكن أن يخفف من الآثار السلبية لارتفاع مستوى العداء وانخفاض القدرات المحلية. وعلى وجه الخصوص، فإن دور عملية بناء السلام متعددة الأبعاد التابعة للأمم المتحدة والمجهزة تجهيزاً كاملاً والمفوضة بشكل كافٍ سيكون حاسماً. ومن المناسب التشديد على أن العمليات التي نحن بصددها لا تسمح بالتدخلات الخارجية الأحادية غير المحايدة من جانب فرادى البلدان، حيث أن عمليات الأمم المتحدة المناسبة لبناء السلام تعمل بموجب ولاية صارمة للغاية تضمن الحياد والنزاهة والتبعية لسيادة البلد المعني. عليه، تتوافق عمليات الأمم المتحدة لبناء السلام مع مرجعية الجبهة الوطنية الجامعة التي تضفي الشرعية المطلوبة للبعثة المنشودة للمساعدة في إنهاء الحرب وفرض السلام، مما يسمح للأطراف الوطنية المعنية بإطلاق الإصلاحات الأمنية والحوكمة السياسية والاقتصادية المطلوبة من أجل وضع البلاد على مسار التجديد والسلام المستدام.
5.3 لماذا الحاجة إلى مشروع نهضوي للنمو لتحقيق السلام المستدام في السودان؟
من المؤكد أن المعونة الإنسانية وتمويل إزالة الألغام والتسريح وإعادة الإدماج، على سبيل المثال، أمران حاسمان للغاية لبناء السلام، خاصة على المدى القصير. ومع ذلك، وبحسب الأدبيات المتواترة ، فإن النمو الاقتصادي التحويليtransformative economic growth) ( يمكن أن يدعم بشكل فعال التعاون بين الهويات المجتمعية من خلال تعزيز التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي العابر للهويات على الصعيد الوطني؛ وبالتالي تهدئة العداوات ولجم الخطاب “ما دون القومي”، المثير للغرائز البدائية الهدامة. وعلاوة على ذلك، فإن النمو ليس محركاً رئيساً للسلام المستدام فحسب، بل هو أيضاً من أهم روافع الديمقراطية المستدامة.
يرتكز مشروع النمو النهضوي على تسوية سياسية قوية، تؤدي إلى انتقال مدني، سلمى، ديمقراطي. وفي المقابل، يجب أن ترتكز هذه الشروط السياسية المسبقة على تغييرات جوهرية، مثل إنهاء عسكرة السياسة والاقتصاد السوداني بشكل فعَال، وبناء قوات مسلحة موحدة غير مسيسة ومهنية. وينطوي ذلك على تنفيذ إصلاحات أمنية تتماشى مع المعايير الدولية التي يوصى بها عادةً للبلدان الخارجة من الحروب الأهلية. وتشرف على هذه الإصلاحات سلطة مدنية انتقالية. علاوة على ذلك، يتوجب عقد مؤتمر وطني للسلام يجمع كافة الأطراف المعنية المدنية والعسكرية لتعزيز المصالحة والوحدة. أيضاً، يستلزم مشروع النمو النهضوي وضع حدٍ للمتلازمة السودانية المدمرة والشروع في نهضة اجتماعية وسياسية واقتصادية شاملة، مسترشداً بعقد اجتماعي مستوحى من المبادئ “الأيقونية” لثورة ديسمبر “المجيدة”: الحرية والسلام والعدالة. وتتطلب ضرورات النهضة السلمية الديمقراطية أن يراعي العقد الاجتماعي المتوخى الشرعية الاقتصادية والسياسية على حدٍ سواء. ومن ثم، يجب أن تكون النخب الحاكمة في المستقبل مسؤولة عن تحقيق التنمية والازدهار، وليس فقط الفوز في المنافسة الانتخابية.
5.4 نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى نظام سياسي فيدرالي بديل؟
أوضحنا في سياق مقاربة الأجندة السياسية للعقد الاجتماعي ضرورة إعادة النظر في ديمقراطية “وستمنستر” المختلة في السياق السوداني والنظر في اعتماد نظام رئاسي برلماني مختلط مع مجلسين تشريعيين، وهو برأينا سيكون أكثر قدرة على تحقيق الاستقرار وتوفير الضوابط والتوازنات المناسبة لمشهد سياسي يعاني من الاستقطاب المثير للانقسام، مثل السودان.
أيضاَ، فإن معالجة الإرث الفيدرالي الكارثي لنظام الإنقاذ البائد تعتبر أيضاً من أهم استحقاقات الشق السياسي للعقد الاجتماعي، حيث كانت الولايات كما بينّا في هذه الورقة قاعدة للحكم الاتحادي على أساس الزبائنية السياسية بين مركز السلطة في الخرطوم والنخب القبلية في الولايات، مما جعلها بؤراً للاستقطاب والنزاعات القبلية في سياق الصراع من أجل النفوذ والريع المترتب عليه. في هذا السياق نوصي بناءً على التحليل الضافِ لهذه الورقة بضرورة إلغاء الولايات والعودة إلى نظام الحكومات الإقليمية الست الأصلية – دارفور وكردفان وشرق السودان والخرطوم والنيل الأزرق وشمال السودان، مع ترشيق المحليات وحصرها على المدن الكبرى وأريافها في كافة الأقاليم. لقد أوردنا أيضاً بعض الأدبيات الوازنة التي أفادت بأن نظاماً فيدرالية ذو ثلاث مستويات للحكم – اتحادية، إقليمية ومحلية حول المدن الكبرى- سيكون رافعاً هاماً لمشروع اقتصادي نهضوي يستند الى المدن المنتجة ومحاور النمو حولها لإنجاز تحولاً هيكلياً في القطاع الزراعي السوداني الغني والمتنوع، والذي كان ولا يزال الركيزة الأساسية للاقتصاد السوداني.
تأسيساً على ما تقدم بشأن النظام الفيدرالي، نقطع بأن هدف الانتقال من المركزية الزبائنية – الريعية، كما كان سائداً في عهد الإنقاذ، يتطلب إعادة تموضع الحوار المجتمعي حول مستويات الحكم في سياق الفيدرالية التنموية المنتجة، بعيداً عن الجهوية الزبائنية.
5.5 نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى حكومات وحدة وطنية لإنجاز المشروع النهضوي؟
وتشير الدروس المستفادة من تجربتي نظامي الجبهة الثورية الديمقراطية للشعب الإثيوبي ونظام الإنقاذ السوداني إلى أن “الاستبداد التنموي” لديه فرصة أفضل للبقاء من النظام الكليبتوقراطي الصريح. ومع ذلك، فإن الدروس المستفادة من فشل الأول في الحفاظ على السلام في إثيوبيا المنقسمة اجتماعياً بشكل كبير لا تقل أهمية، حيث تهدد الحرب الأهلية الأخيرة وعدم الاستقرار السياسي المستمر بالتراجع عن عقدين من الإنجازات الاقتصادية المذهلة.
أما السودان المنقسم اجتماعياً بنفس القدر، والذي لا يزال يترنح تحت تركة حكم كليبتوقراطي مدمر تمثلت في الانهيار الاقتصادي السحيق وعدم الاستقرار السياسي الحاد ومؤخراً الحرب العسكرية الفصائلية الحالية، فهو بحاجة ملحة إلى وقف الحرب وبناء السلام. ومع ذلك، كما أبنا أعلاه حتى هذا الإنجاز ليس كافياً لتحقيق انتقال مدني سلمى ديموقراطي مستدام. لبناء ديموقراطية متينة تحقق السلام والتنمية يجب على النخب الانتقالية والمنتخبة لاحقاً أن تختار “الرهان على التنمية” والسعي إلى “الشرعية الاقتصادية” وعدم الاكتفاء بـ”الشرعية السياسية” الانتخابية. ولضمان أن يكون لمعظم الفاعلين السياسيين، إن لم يكن جميعهم، حصة في نجاح النظام الديمقراطي واستقراره، فإن المؤسسة السياسية ستحتاج أيضاً إلى تشكيل حكومات وحدة وطنية لحقبة ما بعد الحرب، بما في ذلك الفترة الانتقالية وكذلك لفترة الحكومتين الديموقراطيتين اللاحقتين، بعد انتخابات مفتوحة وحرة. وبطبيعة الحال، ستعكس مثل هذه الحكومة الأوزان النسبية للمتنافسين في الانتخابات، ولكن لا ينبغي أن تقوم على أساس التنافس الانتخابي البحت.
كما أوضحنا في دراسات أخرى ، في ظل حكومات جبهة وطنية تمتد لما يقارب العقدين من الزمان، وتحت توافق وطني عريض على عقد اجتماعي متين، يمكن تحقيق مشروع تحول اقتصادي نهضوي عميق، يبدأ بإعادة الإعمار وصولاً لتحقيق معدلات نمو سنوية متواترة تقارب 10%، مما سيؤدى إلى مضاعفة الاقتصاد السوداني بحوالي ثمانية مرات خلال جيل واحد. سوف لن يؤدى هذا الإنجاز فقط إلى تحديث الطبقة الوسطى وبالتالي ترسيخ الديموقراطية بصورة عامة، بل سيكون فعالاً في تعزيز التعاون والاندماج الأثني والجهوي في المجتمع السوداني الذي ظل يعاني من الاستقطاب والانشطارات الهوياتية وتوظيفها سياسياً وعسكرياً من قبل النخب الشمولية.
5.6 نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى سردية وطنية فعالة لهندسة المشروع الوطني؟
هندسة المشروع الوطني تتوقف على قدرة القوي المدنية الديموقراطية وسائر أصحاب المصلحة في المجتمع السوداني المعبر عنها في سياق الجبهة الوطنية الجامعة على تطوير سوق سياسي مفتوح للأفكار من أجل رعاية حوار مجتمعي هادف وشفاف، يؤدي إلى “عقد اجتماعي” قابل للتطبيق لدعم المشروع الوطني. ومن الأدوات المهمة لتعزيز العقد الاجتماعي وجود “سردية وطنية“مقنعة وموحّدة. وتشير الأدبيات المتداولة إلى أن السرديات الوطنية تكون أكثر فعالية عندما تكون “محددة ثقافياً” و”ذات مصداقية”. وانطلاقًا من السياق الاقتصادي والسياسي السوداني، ناقشنا اللبنات الأساسية للعقد الاجتماعي، مع الأخذ في الاعتبار الأجندة الاقتصادية والسياسية لتعزيز التسوية السياسية والتجديد والبناء الوطني. ونؤكد على أن التنفيذ الناجح للعقد الاجتماعي يجب أن يكون عملية حية من التعلم الاجتماعي والتفاعل المتبادل بين الجهات الفاعلة الرئيسة: المجتمع والنخب السياسية –الاقتصادية والعسكرية أيضاً.
في هذا السياق، يمكن أن تكون الدروس المستفادة من تجارب الدول الأخرى مفيدة ليس لمحاولة استنساخها، ولكن من حيث فهم العمليات الكامنة وراء التحول الذي تمكنت تلك الدول من تحقيقه. وبغض النظر عن الاختلافات في الأيديولوجية السياسية، فإن العمليات الكامنة وراء التحول الاقتصادي الهائل في الصين مهمة جداً للنظر فيها والتعلم منها. وكما أوضح البروفيسور بول كولير، فإن “سقالات” الصين لتحقيق تحولها كانت لها أربع لبنات بناء (كولير، 2019: ص 6-7):
“كانت الأولى هي السردية الشاملة التي انتشرت بين السكان، وهي إعادة بناء صين مرموقة وفخورة. والثانية كانت القيادة السياسية التي شجعت التعلم الاجتماعي المكثف والسريع لفهم ما يمكن أن ينجح في السياق المحلي. والثالثة كانت تقييم أداء أولئك الذين شغلوا مناصب السلطة ومحاسبتهم على النجاح والفشل. والرابعة كانت اللامركزية التي استُخدمت لتعزيز المنافسة المعيارية عبر الأقاليم، مما شجع على أخذ المبادرات وإجراء التجارب على المستوى المحلي.”
ونحن كشعب سوداني في ظل هذه الحرب المأساوية علينا بادئ الأمر الغوص في أعماق شخصيتنا وقوامتها النفسية والاجتماعية وتراثها الديني والشعبي والتدبر في ذلك الذي حدث لنا وما دورنا نحن كمجتمع ونُخَب في صنعه. ولعل أبلغ تصوير لهذه الحالة ما جادت به عبقرية الأكاديمي والروائي الدكتور سامي حامد طيب الأسماء في روايته “أخت البداية”. لقد وصف المؤلف عبد الجليل، بطل الرواية الذي آثر الهروب إلى خارج البلاد بدلاً من مواجهة مصيره إثر جريمة ارتكبها بجهالة، رغماً عن أنه عُرف بالشجاعة والإقدام، عرفه بأنه ” لم يكن بدعاً في جيله”:
“أجيال أدمنت الهروب. أدرنا ظهورنا حتى أدار الوطن لنا ظهره والآن نجني ثمار هروبنا هذا الشتات الذي نعيشه والضياع الذي يحتوينا، لا نكاد نتفق على فكرة حتى نختلف حولها ولا نجتمع حول راية حتى نبحث عن غيرها. نعم أخت البداية رواية أو قصة بل قل حكاية نسجتها خيوط الخيال وألبستها جسد واقع مليء بالأحداث الجسام التي غيرت وجه التاريخ نتذكرها جيداً ولم نستفد منها شيئاً.”
وعلى المستوي الفكري ما فتئ الزعيم والمفكر الراحل الإمام الصادق المهدي من تحذير النُخب السودانية بعد ثورة ديسمبر المجيدة من خطورة الاستعلاء الفكري والسياسي وضرورة النهج التوافقي لنجاح الثورة، حيث كتب في سياق رؤية “لاستنهاض الوطن من دولة فاشلة الى مجدية ناهضة” (13 أغسطس، 2020):
“التعددية السياسية والفكرية جزء لا يتجزأ من النظام الديمقراطي. ولكن هنالك اتجاهات تقوم على نفي الآخر لا التعايش معه. هذه النظرة الإقصائية مرتبطة بمسألة الدين والدولة. إن لدى الحركة السياسية السودانية ذخيرة وافرة حول هذا الموضوع والمعادلة السلمية تتطلب ثلاثة أمور هي: كفالة المساواة في المواطنة، وكفالة حرية العقيدة، وحرية أصحاب المرجعية الدينية في الدعوة لمطالبهم مع الالتزام بحقوق المواطنة للكافة وبالنهج الديمقراطي. هنالك اتجاهات فكرية إسلامية وقومية عربية وأفريقانية وعلمانية وشيوعية تكفل لها حرية التعبير ولكنها ينبغي أن تراجع مواقفها لكي تسمح بقبول الآخر وإلا صارت خطراً على الديمقراطية ومدخلاً للفاشستية.”
السردية الوطنية أيضاً تتطلب مقاومة اليأس والاستسلام وألا نيأس من روح الله:
“يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” (يوسف، 87). صدق الله العظيم.
لهذا علينا التطلع للمستقبل والاحتفاء بعظمة ثورة ديسمبر المجيدة، فقد قال عنها أحد زعماء أفريقيا ممن قادوا مشروع الانتقال الديموقراطي في بلادهم:
“تجاوز الشعب السوداني النزعة الفردية والأنانيات الضيقة ليعانق السماء وليفتح لحكم الحرية والعدالة والسلام أرحب الآفاق، فإن كنا ننحي إجلالاً وتكرمة للحراك التاريخي فقد كنا مع ذلك نشفق على هذه الثورة من أن يجهضها القائمون عليها.” (بروفيسور عمر كونارى، رئيس جمهورية مالي الأسبق، مقتطفة من مقالة “هل من أمل” للدكتور إبراهيم الأمين).
أما عميد الصحافة السودانية وأحد أيقونات الوطنية السودانية السامقة، الأستاذ الراحل محجوب محمد صالح، فقد خاطب القوي الديمقراطية المدنية، نيابة عن المبادرة الوطنية: “العودة إلى منصة تأسيس ثورة ديسمبر المجيدة”، التي قادها آنذاك، خاطبهم عندما تعثر المسار خلال الفترة الانتقالية وبدأت نذر الفتنة تكتنف البلاد كقطع الليل المظلمة، برسالة مفعمة بالحكمة والأمل والرجاء:
“إنها فرصة تاريخية للعودة إلى الوحدة ونقطة التأسيس. للعودة إلى أمجاد الثورة، وللشعب أمله وثقته في مكوناته السياسية والمجتمعية، وإحياء تطلعه لغد يليق بالوطن، ويتناسب مع التضحيات التي بذلت والدماء التي سالت في ثورة ديسمبر المجيدة”.
وفى سياق التفاؤل بالمستقبل ولكن إذا حزمت الحركة الديمقراطية المدنية أمرها بالتوافق على الاستحقاقات الوطنية المطلوبة بإنجاز مشروع التحول السلمي المدني الديمقراطي النهضوي، فقد أشرنا في هذه الورقة، استناداً على دلائل متينة لدراسات وأبحاث محكمة عن الاقتصاد السوداني وموارده الزراعية الهائلة، إلي أن السودان في “ظل حكومات جبهة وطنية تمتد لما يقارب العقدين من الزمان، وتحت توافق وطني عريض على عقد اجتماعي متين، يمكن تحقيق مشروع تحول اقتصادي نهضوي عميق، يبدأ بإعادة الإعمار وصولاً لتحقيق معدلات نمو سنوية متواترة تقارب 10%، مما سيؤدى إلى مضاعفة الاقتصاد السوداني بحوالي ثمانية مرات خلال جيل واحد. سوف لن يؤدى هذا الإنجاز فقط إلى تحديث الطبقة الوسطى وبالتالي ترسيخ الديموقراطية بصورة عامة، بل سيكون فعالاً في تعزيز التعاون والاندماج الأثني والجهوي في المجتمع السوداني الذي ظل يعاني من الاستقطاب والانشطارات الهوياتية وتوظيفها سياسياً وعسكرياً من قبل النخب الشمولية.”
وأخيراً، لأن الإنجازات الكبرى التي تستحقها هذه الثورة العظيمة وشبابها الأبطال تتطلب من النُخبة السودانية وحدة الهدف ورص الصفوف للتوافق حول جبهة وطنية عريضة لإنهاء هذه الحرب اللعينة وبناء السلام واستعادة الوطن وسلامته ونهضته، دعونا مرة أخرى نتدبر في إحدى حِكَم الأمام الراحل التي أطلقها في سياق إعلان التأسيس الرابع لحزب الأمة الذي رفع فيه شعار “التقدمية المؤصلة”، حيث قال:
“فإننا سنسعى لنتحالف مع غيرنا لأننا حتى ولو كان لدينا سند 80% فإننا نسعى للتحالف مع غيرنا، من هم هؤلاء الغير؟ هنالك اليمينيون الذين يغلبون التأصيل على التحديث، واليساريون الذين يغلبون التحديث على التأصيل، نحن سنجمع الذين يوفقون بين التأصيل والتحديث” …. “وفي ذلك سنجمع إلى حد كبير بالتوافق والحوار مع كل الذين رفعوا السلاح لأننا لسنا ضد أهدافهم، ونعتقد أن أهدافهم كانت صحيحة، لكنا اختلفنا مع وسائلهم، فما دام هناك اتفاق على الأهداف، وهي: لا مركزية للولايات، قسمة عادلة للسلطة، قسمة عادلة للثروة، اعتراف بالتنوع الثقافي، واعتراف بحقوق الإنسان. فهي أشياء مطلوبة لهم ولنا، لذلك نقول لهم أول شيء بعد الحرب لا بد من وضع السلاح “أرضاً سلاح” فلا حاجة له الآن وكلنا متفقين على الاستجابة للمطالب”. (مقتطفات من خطاب الإمام الصادق المهدى، الجزيرة أبا، 6 يونيو 2019).
إذا التفَ حولَ الحقِ قومٌ فإنه يُصرِم أحداثَ الزمانِ ويُبرِم
المراجع العربية:
إبراهيم، عبد الله علي. 2021. “مفهوم النخبة: أتعثر حين أرى”. ورقة مقدمة في مؤتمر “التحول الديمقراطي في السودان والجزائر” (باللغة العربية).
البدوى، إبراهيم. 2024أ. “نحو مشروع وطني سوداني ثلاثي الأبعاد من أجل السلام والانتقال المدني الديموقراطي النهضوي: أولاً، نزع شرعية الحرب وإبانة آثارها الاقتصادية ومخاطرها الوجودية”، غير منشورة، مايو.
الأمين، إبراهيم .2024. “هل من أمل” غير منشورة.
المك، هنادى. 2024. “النزاعات والحروب وتداعياتها على إقليم النيل الأزرق،” المرصد السوداني للشفافية والنزاعات، تقرير الوضع الإقليمي رقم 4: https://sudantransparency.org/
جلال، صلاح. 2024. “حول – سيكولوجيا العنف وأبناء الفوضى – يعبدون الطريق للحرب الأهلية الشاملة”، غير منشورة، مايو.
الجزيرة نت. 2022. “نزاعات قبائل السودان.. من مناوشات “الحواكير” إلى احتكار مواردها”:
https://www.ajnet.me/politics/longform/2022/8/25/%D9%86%D8%B2%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D9%82%D8%A8%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D8%BA%D8%B0%D9%8A%D9%87%D8%A7-%D9%88%D9%85%D8%A7
المراجع الانجليزية:
Barro, Robert (2015), “Convergence and Modernization”, Economic Journal, Volume 125, Issue 585, pp. 911- 942, June.
Bormann, Nils-Christian and Ibrahim Elbadawi. 2021. “The Juba Power-Sharing Peace Agreement: Will It Promote Peace and Democratic Transition in Sudan?” ERF Working Paper No. 1490, Economic Research Forum, Cairo, Egypt, October.
Collier, Paul (2019). “Ideas, networks and jobs: rebasing growth in the Middle East and North Africa”, ERF Working Paper # 1331, Economic Research Forum, Cairo, Egypt, August: https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/17938120.2019.1664843?journalCode=rmdj20
Collier, Paul and Dominic Rohner. 2008. “Democracy, Development, and Conflict,” Journal of the European Economic Association. Vol. 6, No. 2/3, Proceedings of the Twenty-Second Annual Congress of the European Economic Association (Apr. – May, 2008), pp. 531-540.
Craze, Joshua and Kholood Khair. 2023. “The Remains of the JPA: The Unlearnt Lessons of the Juba Peace Agreement”. The Rift Valley Institute: https://riftvalley.net/wp-content/uploads/2024/01/The-Remains-of-the-JPA_Nov-2023-FINAL.pdf
Dercon, Stefan. 2022. Gambling on Development: Why Some Countries Win and Others Lose. Hurst & Company, London, UK.
Diwan, Ishac (2022), “Background to MENA Commission on Stabilization and Growth,” background paper, prepared for the ERF-FDL project on stabilization and growth, October.
Doyle, Michael W. and Nicholas Sambanis.2000. “International Peacebuilding: A Theoretical and Quantitative Analysis.” American Political Science Review, 94 (4):779- 801
Doyle, Michael W. and Nicholas Sambanis. 2006. “Making War and Building Peace: United Nations Peace Operations.” Princeton University Press.
Eissa, Nada and Hamid Eltgani Ali. 2022. “Rebuilding the State Fiscal Federalism in Sudan”, ERF Working Paper No. 1596, Economic Research Forum, Cairo: November.
Elbadawi, Ibrahim (2008). “Perspective article on the Challenge Paper: The Security Challenge in Conflict-Prone Countries”. Copenhagen Consensus 2008 Perspective Paper, March.
Elbadawi, Ibrahim and Federico Fiuratti. 2024. “Sudan Contrasting Economic Fortunes: The Perils of Ethnic War versus The Dividends of Civil Democratic Peace”, unpublished mimeo, Economic Research Forum, May.
Elbadawi, I., M. Amin, A. Elobaid, A. Alhelo, A. Osman and K. Suliman. 2023. “Post-conflict Reconstruction, Stabilization and Growth Agenda for Sudan,” ERF Working Paper No. 1662, Economic Research Forum, Cairo, Egypt, November.
Elbadawi, Ibrahim and Alzaki Alhelo (2022). “The Sudan Syndrome: State-Society Contests and
the Future of Democracy Post-September 2018 Revolution”, unpublished mimeo, The Economic Research Forum, Cairo, Egypt.
Elbadawi, Ibrahim; Abdelrazig Elbashir; Abdelrahman Osman; Amir Hamid Elobaid; Elfatih Eltahir; Alzaki Alhelo and Kabbashi M. Suliman. 2022. Sudan’s Challenges and Opportunities – A Renaissance Project for Sudan: From Poor Agriculture to Agro-Industrial Growth and Sustainable Development. ERF Policy Research Report No. 40, Economic Research Forum, Cairo: July.
Elbadawi, Ibrahim and Samir Makdisi (editors). 2016. Democratic Transitions in the Arab World. Cambridge University Press.
Elbadawi, Ibrahim and Samir Makdisi (editors). 2011. Democracy in the Arab World: Explaining the Deficit, Routledge, Ottawa & London (An Arabic version published by The Council for Arab Unity Studies, Beirut, Lebanon).
Epstein, David Lester and Bates, Robert and Goldstone, Jack A. and Kristensen, Ida and O’Halloran, Sharyn. 2005. “Democratic Transitions”. Available at SSRN: https://ssrn.com/abstract=920180 or http://dx.doi.org/10.2139/ssrn.920180
Lipset, Seymour. 1959. “Some Social Pre-requisites of Democracy: and Economic Development and Political Legitimacy,” American Political Science Review, 53.
Rodrik, Dani, and Romain Wacziarg. 2005. “Do Democratic Transitions Produce Bad Economic Outcomes?” American Economic Review, 95 (2): 50-55.
Sambanis, Nicholas. 2008. “Short- and Long-Term Effects of United Nations Peace Operations,” The World Bank Economic