
(قال الراوي.. البارحة أكملت لكم قصة الشاعر ماهر البدوي الذي تخفي في زي بائع الأمشاط والمرايا و وقف تحت شرفة حبيبته الأميرة فينوس بنت سلطان الجزر الأربع. نحن أيضاً كنا أربعة أشباح وخامسنا الليل حينما تكلم الراوي.. لقد قال: البحر كان يعلم ويبارك، والجزر الأربع والسماء، لكن الناس في تلك القلاع العائمة يكرهون الحب بل يكرهون حتى الشعراء.. وقالوا: قد أحبت شاعراً صعلوكاً لا يملك من حطام الدنيا غير خرج محشو بالكتب والكراريس. ,فهل عجزت الدنيا عن أن تلد غير الشعراء.. الشعراء فقراء.. كلهم صعاليك، رأسمالهم هذه البضاعة الفاسدة التي اسمها الحب.. وقال شيخ من بطانة السلطان: تجارة الشعراء كاسدة في البدء وبضاعتهم فاسدة منذ الأزل).
ما زالت الحكاية تشكل أساساً من أساسات السرد العربي، عبر فنون الكتابة الأدبية المعروفة، والمقصود هنا -تحديداً- فني كتابة القصة القصيرة والرواية حيث أن الحكاية -أصلاً- ارتبطت بنشأة الحياة العاقلة على وجه هذه البسيطة وتطوّرت -الحكاية- بتطوّر وعي الناس، وذلك قبل أن تكون اللغة، بأشكالها المتطوّرة، أي في زمنٍ كان التعامل فيه ما يزال قائماً بلغة الإشارة، وبتلك الطريقة الموغلة في القدم، كان أجدادنا الأقدمون يتناقلون أخبارهم وحكاياتهم.
فالحكاية إذاً هي الأصل، وهي البداية، ورواية (صاحب الحقيبة الحمراء) للكاتب السوداني الشاب (بُلّه آدم باشر) لا تخرج عن هذا السياق، حيث تنتظمها حكايتان ربما شكّلت أولهما مدخلاً للثانية، واختصار الحكاية الأولى يقول: إن شاعراً عاشقاً احب ابنة أحد السلاطين (سلطان الجزر الأربع)، ولأنه كان شاعراً، وتجارة الشعر بُعرفِ أهل تلك البلاد التي ينتمي إليها الشاعر وعشيقته، تجارة فاسدة وكاسدة، فإنه قد اضطر من أجل أن يتمكن من رؤية جيبته، لأن يتنكّر في زي رجل بعيد عن الشبهات، حتى لو كان هذا الرجل (بائعاً للأمشاط والمرايا). يتابع الشاعر العاشق -حسب الحكاية- مغامرته غير المأمونة العواقب، ويمضي حتى نهاية الشوط، حيث الفجيعة المتمثلة بمقتله (تحت شرفة الأميرة).هذه هي الحكاية الأولى التي يتكيء عليها الكاتب (بُلّه آدم باشر) في بداية نصه الروائي فهل استطاعت هذه الرواية أن تقدم شيئاً جديداً على صعيد الشكل أو المضمون لقارئها؟ وهل الرواية أصلاً مجرد حكاية أو أكثر؟ من جهتي أرى أنها -الرواية- تحاول تقديم شكل جديد، ربما كان غير مألوف لدى بعض قراء الرواية العربية التقليدية، وذلك من خلال اعتمادها على مثل هذه الحكاية البسيطة والتي ربما كانت تصلح أصلاً لقصة قصيرة، رغم ازدحامها بهذا الفيض من المخاطبات، والتساؤلات، والتداعيات، التي لا بد وأنها تشارك القارئ في نصوصها، عبر صياغات وتصورات ومواقف متأملة.كل ذلك جاء عبر تلك اللغة الأدبية المتعالية والمتأنقة.
الآن أودّ الدخول إلى الرواية، فتطالعنا العبارةُ: قال الراوي.. البارحة أكملت لكم قصة الشاعر ماهر البدوي..) هكذا تماماً تبدأ الرواية، وهي بهذا المفتتح تضعنا دُفعةً واحدةً إزاء تصوّر حالة (الروي) والتي تؤكد وجود (الراوي).. ذاك الذي يبدأ حديثه الآن، مستكملاً ما توقف عنده البارحة، حين أكمل قصة الشاعر (ماهر البدوي).. ومن جهة أخرى أرى أن العبارة (البارحة أكملت لكم قصة) تشكل تناصاً أو هي تذكر على الأقل بالعبارة: (اليوم أتممتُ عليكم نعمتي..)ودون الكثير من العناء يمكننا التعرّف على هوية هذا الراوي، حين يؤكد (نحن أيضاً كنا أربعةُ أشباح، وخامسنا الليل).. فالراوي إذاً: /شبحٌ واحدٌ من أصل أربعة أشباح/.. غير أن هذا السرد لا يتم على لسان “راو” واحد، بل أكثر، أي أن فصول الحكاية تتابع من (راوٍ) (لآخر) مثال: (ومضى الراوي يقصّ علينا الحكاية، ونحن ننصت خاشعين) ص6، السؤال الذي يطرح ذاته هو: لماذا هذه القدسية حتى يكون الإنصات بخشوع؟هناك “لازمة” تلفت الانتباه من خلال تكرارها ضمن الصفحة الأولى من الرواية والمتمثلة بالرقم “أربعة”. -الأميرة فينوس بنت سلطان الجزر الأربع)-(كنا أربعة أشباح، وخامسنا الليل)-(والليل لم يزل في أوله ونحن أربعة)-(والكون فقاعة كبيرة علمها عند علام الغيوب ونحن أربعة)-(وكذلك الجزر الأربع والسماء والبحر)هذه (اللازمة) لم تكن مثلبةً على النص في أية حال.وفي الصفحة الثانية من الرواية يطالعنا بيت عنترة: (ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي) وذلك دون أن يكون ضمن قوسين.إضافة إلى جملة جاءت على النحو التالي: (لقد طالما بثها لفينوس).. ربما كان الصحيح هنا: (لطالما بثها..) وعندما تنتهي حكاية الشاعر ماهر البدوي: (وفي نهر الطريق يسكن الليل، وعلى الرصيف غريب ينتظر، وتحت شرفة من شرفات المدينة يقتل ماهر البدوي) ص8 بهذه الطريقة الفاجعة “يقتل ماهر البدوي” ينقلنا الكاتب من حكاية إلى حكاية أخرى، حين نقرأ: (كان الشاعر المقتول غريباً، ومات بين غرباء هذا العالم الكبير، وأنا.. أنا أيضاً مسافر غريب، عبرت الصحراء مثلما عبرت البحر، لكنني تمردت على الصحراء فأحببت البحر، فكنت بذلك أول آبقٍ صحراوي تمرّد على أمه، لقد غضبت عليّ ولحقتني لعنتها، أنا البدوي المسافر وابن الصحراء العاق المحكوم عليه بالظمأ والحزن مدى الحياة) ص8.. في هذا المقطع وما يليه نصبح أمام (راوٍ) جديد، وحكاية جديدة، يخاطبنا جميعاً بضمير المتكلم (أنا) هذا (الراوي الجديد) هو المسافر والغريب وابن الصحراء والعاشق للبحر والمتمرد على أمه الذي لحقته لعنتها وغضبها، فحكم عليه بالظمأ والحزن مدى الحياة، هذا هو الذي يقدّم لنا نفسه بالقول: (أنا صاحب الحقيبة الحمراء أسعى كمعظم دراويش العالم أتسوّل لنفسي مكاناً أقف عليه في طوابير الجياع وفي الربع الخاليمن الكون.. فقدت بعيري وحملني السراب في تلك اللجة الحمراء، إلى حيث تستوي الحياة والموت، والأنوار والظلم، وعدوتُ في الفج العميق أطلب قطرة من ماء، رفعت عقيرتي المفجوعة إلى الطرف القصي من الكون أنادي.. وأنادي، لكن النداء ظل يتردد في تلك البقاع الموحشة من الكون..) ص9 بهذا (البيان)- إن جاز القول- يُعرّفنا (صاحب الحقيبة الحمراء) على نفسه وماذا يريد وإلى من ينتمي.
ومنذ هذه اللحظة تبدأ الرواية رحلتها لتنقل لنا مشاهدات ومكابدات وتساؤلات (صاحب الحقيبة الحمراء) عبر لغة قوية ومتماسكة، تحيل في مفرداتها كثيراً إلى الموروث الديني والفكري والتاريخي العربي. من خلال ما تشير إليه صراحة أو ضمناً، في تناصات تملأ صفحات الرواية دون أن تسيء إليها، ولا حاجة لإيراد الأمثلة عليها نظراً لوفرتها، وهذا ما يترك للقارئ. وعلى الرغم مما قلته قبل قليل عما يُميّزُ لغة هذه الرواية، إلا أنه يلاحظ عليها بعض (الهنّات اللغوية) وذلك من خلال اللجوء إلى (السجع) في غير موضع وكمثال على هذا السجع الذي لم أرَ له مبرراً، أقتبسُ ما يلي: (يا صاحب الحقيبة.. نحن جواري السلطان، في قصره المنيع ذي الأفنان، في دهاليزه المعتمة التي مات فيها الإنسان، وانتحل صورته الشيطان..)ص28.و: (الشباب الذين لا يعلمون، الذين لبطالتهم عابدون، وعلى السخافات عاكفون، على أرصفة المقاهي، وظلمة الحانات. هذا أوان أوبتهم، فهم مرهقون ولسوف ينامون)ص75.و: (فأنا أقرب إليك من كل الأقربين، الذين إلى جوارك يجلسون، ولأحاديثك العذبة ينصتون، وبعطرك الخمري يسكرون فينتشون، ويعربدون، وإلى طفولة وجهك ينظرون، فتبتسمين ويبتسمون..)ص83. ظن أن الكاتب الذي يمتلك هذه القدرة اللغوية الجميلة بشاعريتها وشفافيتها ليس بحاجة لسجعٍ من هذا القبيل، لأنه يؤثر سلباً على مستوى النص جمالياً أما من جهة أخرى فإن الرواية تنطوي على حالات إشراقية وصوفية تتجلى في تلك الحوارات العديدة.. (قال كن أنت ولا تكن غيرك، فغيرك ليس أنت، وأنت لست غيرك، كن أنت ولا تقتل نفسك في التشبة بالآخر، فذلك هو انتحار ذلك هو الموت. كن كما خلقك الله، فأنت الفرد الفريد، وأنت الشخص الوحيد، فلقد خلق الله قبل مولدك آلاف الملايين من البشر، ولسوف يخلق الله من بعدك آلاف الملايين من البشر، لكن واحداً لن يكون مثلك تماماً لا من قبل ولا من بعد، فأنت آية الله دلّ بك على قدرته وسعة ملكه.. قل فتبارك الله أحسن الخالقين..)ص87.(أيها الصاحب.. إني أنصحك بطلب العلم من كل شيء، حتى من الحجر الأخرس، فهو في الحقيقة ليس أخرسَ كما تظن. وتريث فيما تقرأ وتدبر، فإن الكلمات تحجب المعاني، ولا يقدر على كشفها إلا من أوتي صبراً على مقارعة الهوى، واطلب الحكمة فيما تسمع أو تقرأ أو تبصر، فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وحاكم نفسك في كل لحظة، وخلصها من آفة الجهل وجرثومة اللاعلم، فليس كالجهل مرض عضال يفتك بالإنسان) ص93.(قال إذا استطعت أن تطوف حول المجرات على بساط من الريح فافعل، فالحالمون هم ورثة العلم، والعلم مفتاح المعجزات وتمرّس بترويض عقلك كل يوم، وكابده، ولا تستسلم لمغريات الراحة وعبثية الجهل، فإنه متى ما أتاك طائعاً وأسلس لك القياد، انفتحت في وجهك سبل الحياة، وانهتكت أمامك بعض أسرار اللانهاية فأنت إذن بدأت تعرج نحو السماء ولربما تصل الإنسان لا يولد مرة واحدة، بل ثلاثمرات، مرة عندما يولد من رحم أمه، ويبعث من الغيب إلى الحياة، ومرة عندما يخرج من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة ومرة عندما يموت)ص95. وأصل الآن إلى ما كتب على الغلاف الأخير عن الرواية، وهو للناشر وليس للكاتب فاقرأ قوله: (نص أدبي يمتلك خصوصيته، وروحه المدهشة من خلال إبحاره في عوالم العرفانية والصوفية والشفافية الآسرة للإنسان الذي تخلى عن سطوة المادية وضروراتها، وعن النرجسية ودروبها، والقناعة بالتفرد دون الآخرين.. “الحقيبة الحمراء” نص له روح المخاطبات، والطواسين احتفاء بالتراث العربي الأصيل، كما له رشاقة التعبير وجمالية احتفاء بأسرار اللغة ومقاصدها النبيلة. نص جاذب للأرواح العطشى للتأمل، وللنفوس التي أتعبها الرهق والجولان في دنيا غدت بلا أبواب، بلا نوافذ أو أسيجة). أعتقد أن هذا الكلام يحمل صدقيته وإجادته في وصف هذا العمل الجميل. وختاماً أستشهد بهذا المقطع من ص96 من الرواية (قلت أوصني كيف أكتب؟ قال لا تحرك لسانك بما ليس في قلبك، فذلك من ترف الثقافة، وترف الثقافة كالتجشؤ يعقب الامتلاء والشبع، وهو ليس من الثقافة في شيء؟