بناء السلام وفض النزاعات

في ذكرى السلطان دينق مجوك.. زعامة المجد والمأساة(2-3)

أ. أتيم سايمون

استمر (دينق مجوك) في تسيير شئون القبيلة واحوالها خلال فترة حياة والده الزعيم (كوال اروب)، بعد أن تمت إقالته من المنصب. إلا أن قضية النزاع، والتنافس حول السُلطة لم تنته عند هذا الحد، إذ سرعان ما صعدت إلى السطح مجدداً، فالقضية كانت فيمن سيخلف (كوال اروب) في نهاية الأمر حال موته.

في تلك السنة التي تولى فيها (دينق مجوك) الزعامة، مرض (كوال اروب)، وتدهور وضعه الصحي، مما استدعى حضور أبنائه الذين كانوا خارج المنطقة، وقد وصل (دينق مجوك) اولاً، فأخذه إلى جانبه وهمس في أُذنه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. ولأن زعيم الدينكا لا يخلي مكانه إلا بموته، وعندما بدأت مراسم دفن الزعيم (كوال اروب)، هرع الناس نحو (دينق مكوي) منصبين إياه، وتركوا (دينق مجوك). وبعد يومين وصلت عشيرة (انييل)، التي كانت قد باركت والدة (دينق مجوك) لتنجب ولداً، وكانوا يرددون أغانيهم الروحية وهم يضربون طبولهم نحو بيت (دينق مجوك)، وقد أخذوا ثوراً وبقرة، وقاموا بسن قرونهما حتى أصبحت كالشوكة، ثم ذبحوهما، وقاموا برفع (دينق مجوك) إلى الأعلى نحو السماء، وأعلنوا قائلين (أنت الزعيم)، و(هذا ما يجب أن يكون). وقد حسمت الأزمة التي نشبت حول خلافة (كوال اروب) بعد وصول المفتش الانجليزي، وإقناعه من قبل بعض القيادات الداعمة لـ(دينق مجوك)، بأن السُلطة كانت في يد (دينق مجوك)، حتى قبل وفاة والده، وإنه لم يقترف أي ذنب، أو جريمة، تقود لعزله أو تنحيه. وأمر المفتش بتسليم الحراب المقدسة لـ(دينق مجوك). وبعد ذلك أخذت الحكومة (دينق مكوي)، ونفته إلى النهود، وبعد عامين سمحت له الحكومة بالعودة بوساطة من (دينق مجوك) الذي تصالح معه، وأعاد تعيينه كنائب له في ادارة شئون القبيلة (دينق2004:123).

قدم الدكتور (فرانسيس) استعراضاً مُفصلاً، بحسب شهادات الحضور، الذين شاركوا في مسالة تولى (دينق مجوك) لزعامة القبيلة، والطريقة التي حُسم فيها الصراع لصالحه، بحُكم مقدراته القيادية، التي أبرزها في سني حياته الباكرة. إلى جانب بقية العوامل الأُخرى، التي ساهمت في وصوله للسلطة، بتلك الطريقة. إلا إن الدكتور (لوكا بيونق دينق كوال اروب)، يرى أن ضياع فرص (دينق أبوت)، وعدم حصوله على الزعامة، كانت بسبب عدم رغبته في التحالف مع المسيرية، وبدلاً عن ذلك، قام أحد أبناء الزعيم (كوال اروب)، وهو (دينق مجوك)، بتدبير انقلاب سياسي على والده في العام (1942) بمُساعدة (الإدارة الانجليزية) المدعومة من ناظر المسيرية (بابو نمر)، وترقيته لناظر عموم (دينكا نقوك). ويعتبر (بيونق) أن موقف (دينق مجوك) الداعم للشمال، هو الذي عزز من صعوده السياسي على حساب اخيه المعارض للشمال (دينق أبوت) (Francis deng,luka boing, Daniel jok,2020:24)،

أما (فرانسيس دينق) فيرى أن ما قام به (دينق مجوك)، لايخرج عن كونه مؤامرة ضد والده الزعيم (كوال اروب)، من أجل تولي الزعامة، معتبرا (إن نجاح “دينق مجوك” في التآمر على والده، وإجباره على التقاعد، يجب ان يعتبر دليلاً على طموحه الكبير، وقوة شخصيته، وإدارته الممتازة كزعيم بمعايير جديدة للقيادة، والتي يتطلبها العالم الحديث، وليس انعكاسا لمقدرات “كوال اروب” كقائد لشعبه).(دينق 2004:131).

مُبيناً أن من كانوا يُفضلون “دينق مجوك”، كانوا يرون فيه الأكثر قدرة بين الأخوين.

كانت أكثر المسائل إثارة للجدل في حياة السلطان (دينق مجوك)، هي الجوانب المتعلقة بالقضايا السياسية  والدبلوماسية، وما اتخذه من قرارات حيال مصير ومستقبل شعبه خاصة خلال الفترة التي قرر فيها الانجليز مغادرة السودان، والدعوة التي قدموها لزعيم (دينكا نقوك)، للانضمام لمُديرية (بحر الغزال) في جنوب السودان، و التي كانوا قد نقلوهم منها في العام (1905). فبعد أن بدأت بعض المجموعات التي كان قد تم نقلها إلى كُردفان بالعودة في العام (1936)، ومنهم بالتحديد قبيلة (تويج)، ومجموعة (الدينكا رووينق)، وافق الإنجليز على ذلك الانفصال، بحُجة ان المنطقة كانت أكبر من أن تُدار بواسطة زعيم واحد، لذلك دفعت الإدارة البريطانية ببعض الزُعماء الجنوبيين لإقناع (كوال اروب)، والد السلطان (دينق مجوك)، الذي فضل البقاء في الشمال للالتحاق بهم. إلا أنه رفض الانضمام للجنوب، وقال للزعيم “قير ثيك”:( يا ابن أبي، ما قلته لى لم يكن جديداً، العربي لص، برغم وجودي بينهم أعرف إنه لص، واذا ما انسحبت منه سوف يُحطم ممتلكاتي، وحتى الأرض التي هي ملكي، ربما يدعي بأنها أرضه).(دينق 2004،256).

إن الأسباب التي دفع بها (كوال اروب) في حُجته للابقاء على منطقة (أبيي) داخل حدود مُديرية كردفان، كانت استراتيجية قائمة في تقديراته على الحفاظ على المصلحة الإستراتيجية لشعبه، خاصة في الجانب المتعلق بالأرض، لكن الحقيقة الأُخرى هي أنه اختار ذلك القرار، من أجل تعزيز مكانته وسُلطته كناظر عموم لـ(دينكا نقوك)، وبعد اتخاذه لقرار البقاء في كُردفان، عانى (كوال اروب) من العُزلة السياسية، بعد عودة مجموعات الدينكا الأُخرى لجنوب السودان، ووهنت سُلطته بدرجة كبيرة. (Francisdeng,lukaboing,Daniel jok,2020:24).

استمر الإبن (دينق مجوك) في ذات الخطوات التي اتخذها والده السلطان (كوال اروب) في ترسيخ وضع (أبيي) في كردفان، حيث اعتبر نفسه بمثابة الإبرة والخيط لرتق جزئي السودان، بالإضافة لتحقيق طموحاته الشخصية مع حلفائه من الشمال. وفي عام  (1951)، أعطت الحكومة (دينكا نقوك) مرة أُخرى خيار الانضمام إلى مديرية (بحر الغزال)، أو مديرية (أعالي النيل)، وقال البريطانيون أنهم يقدمون ذلك البديل، لأن الـ(نقوك) يختلفون عرقياً وثقافياً عن الغالبية العُظمى من السُكان، الذين يشاركونهم المركز والمُديرية، ورأوا أنه من الأجدى للـ(نقوك)، أن ينضموا لأقربائهم في الجنوب).(دينق، 2001:260). وذهب إليه بعض الزُعماء من مجتمعات الدينكا المجاورة، لإقناعه بالموافقة على العودة الى بحر الغزال. عقد (دينق مجوك) بعض المشاورات مع العرب، وغادر في جولة إلى عدة مناطق في إقليم بحر الغزال، وعندما عاد إلى (أبيي)، أعلن عن رفضه الانضمام إلى الجنوب، وذلك بحجة انهم اذا انضموا للجنوب، فإن قبائل السود سيتم غزوها، وستتضاءل إلى كيان أصغر، ويوماً ما ستحل الكارثة بهذا البلد.(دينق2004،250).

حاول (دينق مجوك) الحفاظ على استقلاليته داخل مديرية كردفان كزعيم لدينكا نقوك، حيث رفض ابتداءً أن تكون محكمته تابعة للدائرة القضائية الخاصة بالمسيرية بقيادة (بابو نمر)، وصارت له محكمته الخاصة التي تذهب استئنافاتها لمفتش المركز مباشرة. وكان يُصر دائماً على وضعيته الخاصة تلك، ففي أي وقت كان يشعر فيه بالاختراق، كان يلفت انتباه المسئولين إلى حقيقة أنه لايُعتبر عرقياً ولا ثقافياً جزءا من ادارة كردفان، وكان يقوم بلفت نظر الإدارة إلى أنه لايجب أن يُعامل باعتباره من نفس المجموعة الثقافية مثل القبائل الاخرى، وألا يكون مطلوباً منه الالتزام بثقافة الآخرين. لقد كان حازماً في مثل تلك الإمور، ولا يتنازل عن جوهر الهوية الثقافية للدينكا، ولا قيمهم.

ومع بداية اندلاع الحرب الأهلية الأولى في السودان (1955-1972)، بدات نظرة السلطان (دينق مجوك) للاشياء تتغير بشكل تدريجي، حتى صارت عدائية تجاه جيرانه الشماليين. وبرزت في هذا السياق هويته كجنوبي، وهي الفترة التي يطلق عليها (إدوارد لينو) في كتابه الأخير عن (دينكا نقوك و المسيرية)، بفترة العودة الى الذات. (LINO, 2020:27).

فعندما اشتدت الحرب، بدأ أبناء (دينكا نقوك) في الالتحاق بحركة (الأنيانيا)، و احتلوا فيها مواقعاً قيادية مُتقدمة، ومع تسارع وتيرة الحرب بدات الاحتكاكات بين المسيرية والدينكا، حتى وصلت ذروتها في أحداث نقوك (1965)، حيث اندلعت الحرب في أرض نقوك الذين ثأروا لمقتل أحد شباب الدينكا بصورة مُهينة، ونتيجة لذلك عانى الدينكا من الموت في مناطق بابنوسة والميرم بطريقة بشعة. وفي إحدى مؤتمرات الصُلح التي أقيمت في المنطقة، بحضور وزير العدل الذي حكم على الدينكا بالتحرك جنوباً  إلى منطقة كير، رد عليه دينق مجوك بغضب قائلا: ( إذا حدث صراع بين صاحب الأرض والضيف، فمن عليه ان يغادر المكان، صاحب الأرض أم الضيف؟) وقد أنهى سؤال (دينق مجوك) البليغ هذا الموضوع، فنقوك هم أصحاب الأرض بلا شك، وعرب المسيرية يرعون فيها.

ظل قرار الإبقاء على أبيي ضمن حدود مديرية كردفان يمثل واحدة من أوجه النقد الرئيسية الموجهة للسلطان (دينق مجوك)، وقد اعتبر عدد من الكتاب والمثقفين الجنوبيين أن (فرانسيس دينق) كان ميالاً للإحتفاء بتلك الحجج التي كان يسوقها جده ووالده في علاقتهما مع المسيرية، كقيادات وزعماء لدينكا نقوك، وتحديداً في إشاراته المتكررة إلى أن الأدوار التي لعبوها قد ساهمت في تجسير العلاقات بين الشمال و الجنوب. وفي أحايين كثيرة بين العالمين العربي والأفريقي. ويرى (بونا ملوال) أن الزعيم (اروب بيونق) من وجهة نظره، قد تصرف بذكاء بالغ، فبدلاً من إذكاء الحرب بين الدينكا و المسيرية، خاصة إن مسالة توغلهم في اراضيه لامهرب منها، فإنه فضل أن يكون في حدود إدارية واحدة مع المسيرية(MALWAL, 2017:4)، والنظر إلى تلك المواقف التي تم اتخاذها في الماضي على ضوء المواقف السياسية والتطورات الحالية، يتطلب تبيان السياقات والمُعطيات التي قادت الى ذلك، ولكل جيل طريقته في التعامل مع المشكلات، لكن العديد من القادة السياسيين يلقون باللوم على القيادة التقليدية لمنطقة (أبيي)، متناسين القرارات التي سبق وأن اتخذها الساسة و الإدارات الأهلية من جنوب السودان في مؤتمر (1947)، حينما قرروا الوحدة مع الشمال. فقرار القيادات الأهلية لـ(دينكا نقوك)، كان مبرراً أكثر من الذين قرروا الوحدة مع الشمال، ذلك لأن قيادات (نقوك) التقليديين، كانوا يتخوفون من فقدان أراضيهم، وتعرض شعبهم لأعمال عدائية، إذا ما قرروا الالتحاق بالجنوب وقتها”(Francis deng,luka boing, Daniel jok,2020:97).

وتاسيسا على تلك العلاقة التي نشأت بين السلطان (كوال اروب)، وابنه (دينق مجوك)، مع أسرة ناظر المسيرية الحمر (نمر على الجلة)، وضع الدكتور (فرانسيس دينق) أطروحاته الأكاديمية في بحوثه ودراساته المتعلقة بقضايا الهوية، والوحدة، والتكامل القومي، ونزاعاتها المستمرة في السودان. يقول (فضيلي جماع) في مقال له عن كتاب (رجل يدعى دينق مجوك): ( يأخذ المؤلف فكرة عن أبيه “دينق مجوك”، حين يقدم لنا قبيلة “نقوك” على أنها القنطرة التي تربط بين ثنائيتي الشمال و الجنوب في السودان، فهم قبيلة نيلية من الجنوب السوداني، إلا أن زعمائها الذين تؤول اليهم السلطة عن طريق التوارث “الحراب المقدسة”، أقاموا ولعدة قرون علاقات دبلوماسية مع زعماء القبائل العربية في الشمال وتعاونوا معهم لتاكيد السلام والأمن في حدودهم القبلية شديدة الحساسية. ويؤكد المؤلف ما اثبته الرواة و الوثائق من أن السلطان “دينق مجوك”، لعب الدور الأكبر في تأكيد هذا التعايش السلمي).(جماع، 2020:109).

وقد صدرت معظم أعمال (فرانسيس دينق) خلال تلك الفترة التي أعقبت ماساة رحيل والده السلطان (دينق مجوك)، وبداية تراجع العلاقات بين مجموعتي الدينكا والمسيرية، والتي تزامنت مع اشتداد أوار الحرب الأهلية التي شارك فيها أبناء (دينكا نقوك)، وفي مقدمتهم أبناء (دينق مجوك)، مما جعل كتابات (فرانسيس) عن علاقات التواصل و التعايش السلمي بين الدينكا و المسيرية محصورة في التاريخ الشخصي لاولئك القادة و الزعماء دون سواهم، وحتى أطروحة الوحدة و التكامل التي قدمها على ضوء تلك العلائق تعرضت لاهتزازات كبيرة جداً بسبب الأبعاد السياسية التي اكتسبها النزاع ما بين (دينكا نقوك) و(عرب المسيرية)، والذي أصبح جزءاً من الأزمة السياسية بين الشمال والجنوب في الفترات اللاحقة. وقد بدا واضحاً إن حالة التقارب التاريخي بين الأُسر الزعامية في (دينكا نقوك) و(المسيرية الحمر)، لم تكن لتسري على بقية مكونات مجتمعات المنطقتين، بناءً على التغيرات الكبيرة التي حدثت على صعيد السياسة، والتطور الاجتماعي الكبير الذي أحدثه التعليم الحديث، تحديدا في مجتمع (دينكا نقوك).

في جميع كتاباته عن (الدينكا) و(المسيرية) دأب (فرانسيس دينق) على إفراد مساحة مُقدرة للدور الذي لعبته عائلته من أجل تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة، منذ أيام الجد الأكبر (اروب بيونق). ففي كتابه الأخير عن ذكرى السلطان (دينق مجوك)، خصص جزءاً كبيراً منه بعنوان (جسر للتواصل بين الشمال و الجنوب)، وفي كتابه (دينامية الهوية أسس للتكامل الوطني في السودان)، أفرد الفصل الرابع الذي حمل عنوان (علاقات الدينكا نقوك و المسيرية الحمر، تجربة في التوافق وصراع المصالح)، لمُناقشة العلاقة التي تجمع بين المجموعتين المتجاورتين منذ الفترات التي سبقت الاستعمار البريطاني، وصولاً إلى مرحلة مابعد الاستقلال، وخروج المستعمر. وفي القسم الرابع من كتاب (صراع الرؤي، نزاع الهويات في السودان)، والذي جاء تحت عنوان (شمال جنوب عالم مصغر)، تحدث الدكتور (فرانسيس دينق) عن (زعامة الخيط والابرة)، وعن الدور الكبير الذي لعبه كلاً من الزعيم (كوال اروب)، وابنه الناظر (دينق مجوك) في ترسيخ وضع أبيي في كردفان، وجعلها رمزاً للوحدة الوطنية، مُعتبراً أن منطقة (نقوك)، قد أصبحت مثالاً مصغراً للسودان، بنفس القدر الذي يعتبر به السودان مثالاً مُصغراً لإفريقيا. أما في كتاب (رجل يدعى دينق مجوك ،سيرة زعيم ومجدد)، والذي خصصه الدكتور (فرانسيس دينق) لتوثيق السيرة الذاتية لوالده، فنجد أنه قد ناقش في الجزء الرابع الذي حمل عنوان (الدبلوماسية)، الدور الذي لعبه السلطان دينق مجوك في (ربط الشمال و الجنوب)، والحفاظ على التوازن مابين الجنوب الأفريقي والشمال العربي. ويعزي فرانسيس دينق السلام الذي كانت تنعم به هذه المنطقة الحدودية الصعبة إلى علاقات دينق مجوك النزيهة مع الطرفين (دينق2004:247). وفي الكتاب الذي وضعه الدكتور (فرانسيس دينق) لتوثيق سيرة زعيم المسيرية الحمر الناظر (بابو نمر على الجلة)، فقد أفرد فرانسيس الجزء الثالث من الكتاب، والذي حمل عنوان (دينق مجوك .. الجار الصديق)، لشهادة الصديق الشخصي و الحليف الرئيسي لوالده عن شخصية الناظر دينق مجوك، وطبيعة الخصوصية التي امتازت بها العلاقة بينهما (دينق 2019:79).

لقد حاول فرانسيس دينق تعزيز تصوراته بناء على تلك العلاقات التاريخية كحقائق برزت خلال فترة حياة أولئك الزعماء التقليديين، ولم تتجاوزهم إلى مجتمعاتهم الكبيرة في السودان وجنوب السودان، مثلما أن التجربة لم تمتد إلى الفترات التي أعقبت غيابهم، والذي ترتبت عليه العديد من الماسي بعد فترات المجد في أجياله الأربعة بين الدينكا والمسيرية تقريبا. والأدهى في الأمر هو أن النظرية التي حاول الدكتور (فرانسيس) أن يضعها في تحليل وتفسير العلاقة بين الدينكا و المسيرية، والتي برزت في سياقها مصطلحات مثل (التعايش السلمي)، كان ينظر إليها كما لو أنها تمثل عبارة خاصة بالدينكا دون سواهم، وتم توظيفها لاحقاً بوعي سياسي كسردية تعني التسليم بالواقع، في مقابل عدم مناقشة القضية الرئيسية المتعلقة بوضعية شعب (نقوك)، وملكية الأرض التي يقصدها المسيرية لرعي قطعانهم بشكل موسمي في فصل الجفاف. كون الشعوب تتعايش دائماً على أراضيها، مثلما أن خصوصية أي شعب تحدد بانتمائه للأرض كوجود سابق للجغرافيا التي تاتي لاحقاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى