
دولة (56): في العلاقة بين التشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، والحروب والثورات عقب الاستقلال: حرب 15 أبريل نموذجا(3-3)
أ. الطيب علي حسن عيسي
(4)-دولة (56): آليات إنتاج الحروب والثورات: حرب 15 أبريل نموذجا
لعل أول ما يمكن أن نستنتجه من تحليل التشكل الاستعماري للدولة السودانية الحديثة في السودان، وفحص طبيعة أو بنية المؤسسات التي فرضتها القوى الاستعمارية وطبيعة السلطة ونظام وأساليب الحكم فيها، إضافة إلى تتبع التحولات الجذرية على مستوى علاقات السلطة والاقتصاد داخل الاجتماع-السياسي السوداني، وكذلك تتبع التطور التاريخي للقوى الاجتماعية السودانية في علاقتها بمؤسسات الدولة الاستعمارية ، يكشف أن حالة عدم الاستقرار السياسي التي انتظمت البلاد عقب الاستقلال، والتي تمظهرت في عدد لا يحصى من الحروب والثورات والتمردات، هي نتيجة مباشرة لما اسميناه بالدولة الاستعمارية وسياساتها، وإعادة انتاجها في دولة (56)، وهنا نشير إلى أن حرب 15 أبريل تأتي ضمن سلسلة حروب طويلة ومتتالية حيث أن السودان كما يشير تقرير بعثة تقصي الحقائق (the Independent International Fact-Finding Mission for the Sudan) التابعة مجلس حقوق الإنسان (Human Rights Council-HRC)التابع للامم المتحدة (United Nations-UN) الصادر عقب سنة ونيف على حرب 15أبريل، ” في دوامة من العنف والتشظي منذ الاستقلال، والذي كان عنفا مؤسسياً ومتواصلا حتى في أوقت السلام” ، ولعل دوامة العنف والحروب التي دخل فيها السودان عقب الاستقلال، تشير إلى وجود مشكلات بنيوية في مؤسسات الدولة،خاصة وأنها حروب وتمردات وثورات كانت دائما ما تنشأ نتيجة المظالم التاريخية ذات الصلة بالتهميش الاجتماعي والتطور غير المتكافئ بين القوى الاجتماعية ذي الصلة بمؤسسات وسياسات الدولة الاستعمارية، حيث أن السودان اختبر أزمنة متطاولة من الصراعات المسلحة،والمعاناة السياسية والحروب التي تمخضت عن توقيع “أكثر من 46 اتفاقية للسلام، تعاني جميعها من نقطة ضعف مشتركة، وهي التركيز على إنهاء الصراع دون معالجة جذوره ومحاسبة المسؤولين من الانتهاكات الواسعة،” وبغض النظر عن فشل كل هذا الكم من اتفاقيات السلام، إلا أن كل هذه الحروب التي تستدعي هذا العدد الكبير من اتفاقيات السلام، تشير إلى وجود آليات ودينميات تاريخية تؤدي إلى إنتاج هذه الحروب والثورات. وفي هذا القسم من البحث، سأحاول بحث الارتباط الوثيق بين إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية في دولة (56)، والحروب والثورات التي انتظمت تاريخ السودان، وأيضا، تحديداً آليات إنتاج العنف والحروب والثورات المتجذرة في التشكل الاستعماري لدولة (56)، وعلاقة كل ذلك بحرب 15 أبريل الحالية، ونواصل هنا أيضا تكملة النموذج التفسيري الذي نفسر عبره الصراع الاجتماعي في السودان، وهذه الحرب أيضا.
في البدء، نقرر هنا، أن إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية في دولة (56) وهيمنة القوى الاجتماعية النهرية الاحتكارية على الثورة السلطة، جعل الصراع الاجتماعي في السودان ذو مستويين، الأول: هو المستوى الداخلي للصراع على السلطة، حيث تتصراع النشكيلات السياسية الحديثة فيما بينها -أشرنا إلى تكونها الحصري من القوى الاجتماعية النهرية- في المركز، وتتنافس الهيمنة على بيروقراطية الدولة وجهاز السلطة، أما المستوى الثاني: فهو المستوى الخارجي للصراع، حيث تتصراع القوى الاجتماعية النهرية التي تحتكر السلطة والثورة في المركز والقوى الاجتماعية التقليدية في الهامش “دارفور وكردفان والشرق” وتشكيلاتها السياسية والعسكرية، ذلك أن الدولة التي لها نظام حكم هجين مثل دولة(56)، وتهيمن فيها قوى اجتماعية بعينها على جهاز السلطة، تخلق وبشكل مؤسسي مظالم تاريخية وبالتالي شروطا اجتماعية للتمرد على جهاز الدولة المحتكر، حيث أن سيادة علاقات سلطة تقليدية على بيروقراطية الدولة، يجعل مؤسسات الدولة، كما يقرر دي وال وبريتون، تعمل بشكل مؤسسي على “طرد المعارضين عوضا عن استيعابهم، مشكلة السبب الرئيسي في ظهور المعارضة المنظمة” ، وباختصار هنا نقول: إن إعادة انتاج الدولة الاستعمارية في دولة (56) واستمرار السياسات ونظم وأساليب الحكم الاستعماري، هي الدليل الأهم على الممارسة السياسية للنخبة السياسية لدولة (56) تاريخيا، لم تكن تسند إلى قيم ديمقراطية أو وطنية أو قومية راسخة، وليس هذا فحسب، بل إننا نحاجج هنا على أن استمرار الطبيعة الاحتكارية لجهاز السلطة الإستعماري، يجعل نظام الحكم في دولة (56) في تناقض مع الديمقراطية كنظام حكم، ذلك أن نظام الحكم الديمقراطي يقوم على قيم حديثة مثل المواطنة والمشاركة السياسية، المساواة أمام القانون، كما أنها تفرض ممارسة سياسية تقوم على توسيع قاعد المشاركة في السلطة والثورة، وعلى إدراة الصراع الاجتماعي بشكل سلمي: وهي الخصائص التي تجعل الديمقراطية في تناقض جذري مع الإمتيازات التاريخية الموروثة للقوى الاجتماعية النهرية. وبهذا المعنى فإن الديمقراطية لابد أن تكون ضد الطبيعة الاحتكارية لجهاز السلطة ذي الطبيعة الاحتكارية لدولة (56) وضد مصالح نخبتها السياسية المهيمنة، التي لم تحتكر السلطة فقط، بل حتى التنافس عليها في السودان، وكانت بذلك تجعل الصراع الاجتماعي على السلطة في السودان ذي مستويين، داخلي وخارجي.
جدير بالذكر هنا أيضا، أن كون الصراع الاجتماعي ذو مستويين داخلي وخارجي، يشير إلى أن هنالك نوعين من المعارضة للسلطة، النوع الأول “المعارضة الداخلية” التي تتكون من نفس القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة على بيروقراطية الدولة وخاصة جيشها، والنوع الثاني: “المعارضة الخارجية” التي تتكون من التشكيلات السياسية والعسكرية للقوى الاجتماعية في الهامش، كما أن هذين المستويين من الصراع يشيران أيضا، إلى وجود نوعين من التناقض داخل الاجتماع-السياسي السوادني بين القوى الاجتماعية التي تتصارع على السلطة في السودان، هي: التناقض الثانوي، الذي يتركز بشكل أساسي بين المعارضة الداخلية والتشكيلات السياسية الحاكمة تاريخا لدولة (56)، ونعرفه على أنه تناقص ثانوي نظراً للتطابق من حيث القوى الاجتماعية وبالتالي المصالح الاجتماعية، بين كل من التشكيلات المعارضة في المركز والتشكيلات الحاكمة تاريخيا لدولة (56)، وهنالك أيضا، النوع الثاني من التناقض والذي نعرفه على أنه، التناقض الرئيسي داخل الاجتماع-السياسي السوداني، والذي يوجد بشكل رئيس بين التشكيلات السياسية\العسكرية للقوى الاجتماعية في الهامش والتشكيلات السياسية\العسكرية الحاكمة تاريخيا -القوى الاجتماعية النهرية- لدولة (56)، وهو تناقض رئيسي نظرا للاختلاف من حيث القوى الاجتماعية وبالتالي المصالح الاجتماعية، حيث أن مصلحة القوى الاجتماعية في الهامش تتركز بشكل أساسي في إنهاء الحكم الاحتكاري للقوى الاجتماعية النهرية وبالتبع مؤسسات الدولة الاستعمارية التي تمت إعادة إنتاجها في دولة (56)، هذا في حين توجد مصلحة القوى الاجتماعية النهرية في تواصل حكمها الاحتكاري وهيمنتها على جهاز الدولة. نشير في هذا السياق أيضا، إلى أن أهم ما يؤكد وجود هذين المستويين، -الخارجي والداخلي- للصراع الاجتماعي على السلطة داخل الاجتماع-السياسي السوداني، هو دخول المؤسسة العسكرية التي تهيمن عليها القوى الاجتماعية النهرية -ضمن المؤسسات استعمارية الطابع التي ورثتها عن القوى الاستعمارية- خاصة قيادتها العليا: كفاعل سياسي رئيسي في المشهد السياسي السوداني، وبالتالي خروجها عن أن تكون مؤسسة عسكرية مهنية منذ وقت باكر على الاستقلال، حيث يشير منزول أبو عسل إلى ذلك قائلا، “إن تورط الجيش في الأنشطة السياسية الاقتصادية يعود إلى السنوات الأولى من الاستقلال” .
أيضا، إن وجود هذين المستويين (الداخلي والخارجي) للصراع الاجتماعي في السودان، وكذلك وجود هذين النوعين من التناقض (الثانوي والرئيسي)، يمكن أن يدلل عليه أيضا، عبر قدرة المعارضة الداخلية وتشكيلاتها السياسية العالية تاريخيا، على تغيير الأنظمة الحاكمة لدولة (56) بواسطة المؤسسة العسكرية ، ويكفي لإثبات ذلك مراجعة العلاقة التاريخية بين التشكيلات السياسية الحديثة التي نشأت في المركز والانقلابات العسكرية، فعلى سبيل المثال كان الانقلاب الذي قام به الجنرال عبود (1958-1964) بتخطيط من حزب الأمة القومي وطائفة الأنصار، حيث ” ابتدأ عبد الله خليل، والذي كان رئيسا للوزراء وأيضا وزيرا للدفاع وضابطاً رفيعاً سابق في قوة دفاع السودان -الجيش، قبل أن يدخل السياسة، مشاورات مع قيادة الجيش حول إمكان انقلاب عسكري” بحزب الأمة القومي وأيضا كان الانقلاب العسكري الذي أسس ما عرف تاريخيا بنظام مايو (1969-1985) بقيادة جعفر نيمري بالتخطيط مع الحزب الشيوعي، وكان الانقلاب العسكري الذي أسس ما عرف بنظام الانقاذ (1989-2019) بقيادة الجنرال عمر البشير بالتخطيط مع الجبهة الإسلامية القومية، وهذه هي، الانقلابات التي شكلت أكثر من ثلثي فترة الاستقلال، هي الانقلابات الناجحة فقط، فهنالك عشرات الانقلابات العسكرية الحزبية التي فشلت والتي لا داعي لذكرها هنا، ونحن نربط هنا أيضا، بين سيطرة المؤسسة العسكرية على معظم تاريخ الحكم في البلاد عقب الاستقلال، وبين الطبيعة الاستبداية لجهاز السلطة الاستعماري، حيث يمثل الحكم العسكري الوطني إمتدادا لضرورة عسكرة جهاز السلطة الاستعماري في الحقبتين الأولى والثانية، وهي الضرورة التي تفرضتها حماية القوى الاجتماعية النهرية لحكمها الاحتكاري مثلما كانت تفرضها سابقاً ضرورة حماية الحكم الاحتكاري للقوى الاستعمارية كما ذكرنا في الأقسام السابقة، وهو الأمر الذي يؤدي بالنهاية إلى تشكل قوى عسكرية الطابع نتيجة المظالم التاريخية المرتبطة بالحكم العسكري الاحتكاري من القوى الاجتماعية في الهامش، ونقرر استناداً إلى ذلك أن الارتباط الوثيق بين الحكم العسكري الاحتكاري الأمر ونشوء الحركات المسلحة من القوى الاجتماعية في الهامش، ولعل ما يجب تأكيده هنا استنادا إلى هذه الملاحظات، أن الممارسة السياسية الاحتكارية للنخبة السياسية لدولة (56) كانت دائما وأبدا تخلق مقاومة داخلية اصلاحية (داخل دائرة التشكيلات السياسية للنخبة السياسية\العسكرية لدولة (56)) ومقاومة خارجية ثورية(التشكيلات السياسية\العسكرية للقوى الاجتماعية في الهامش)، حيث نجد أن الممارسة الإقصائة للنخب السياسية عقب الاستعمار، كانت العامل الرئيس في ظهور المعارضة المنظمة في الهامش، ذلك أنه “كلما اكتمل حرمان المعارضة الخارجية من الفرص الاقتصادية والمشاركة السياسية، كلما زادت قوة دوافع لمعارضة النظام القائم” وهي مقاومة أتخذت أشكالا مختلفة، عسكرية ومدنية، ولكنها في المجمل إما انتفاضات سلمية في المركز أو انتفاضات مسلحة في الهامش.
جدير بالذكر هنا، أن التمييز الذي نخطه بين مستويي (الداخلي-الخارجي) الصراع الاجتماع في السوداني، نؤكد أن ضعف القوى الاجتماعية في الهامش، أو المعارضة الخارجية وعدم قدرتها على تهديد الحكم الاحتكاري للنخب العسكرية\السياسية لدولة(56) تاريخياً، يعود إلى أن تواصل أساليب الحكم المورثة من الاستعمار، خاصة القاعدة الاستعمارية “فرق تسد” والتي ظلت تتخذها النخبة السياسية لدولة (56) كأسلوب مركزي للحكم: حيث أنها وعقب الاستقلال، أصبحت تتخذ من التلاعب بالنظم الاجتماعية في الهامش وفي التركيبة الاجتماعية لمجتمعاته، أداة مهمة لتقسيم مجتمعات الهامش وجعلها غير قادرة على التنظيم بشكل يجعلها قادرة على تهديد الحكم الاحتكاري للقوى الاجتماعية النهرية ، ونشير هنا إلى أن ذلك، كان ذلك كان دائما ما يتم عن طريق التلاعب ببن السلطة التقليدية في الهامش، عبر ما سنسميه بسياسة “المليشيات” التي برعت فيها هذه النخبة، حيث كانت تستخدم سياسة المليشيات هذه من قبل النخبة السياسية لدولة (56)، لضمان تبعية بعض المجتمعات من القوى الاجتماعية في الهامش، لجهاز السلطة في المركز، واستخدامها كأدوات لتأجيج الصراعات والنزاعات بين القبائل والجماعات والمجتمعات في الهامش، وأيضا كأدوات لقمع التشكيلات الثورية في الهامش: ومن الضروري أن نؤكد هنا،أن سياسة المليشيات هذه رفقة المظالم التاريخية، كانت تفاقم حدة الصراع الاجتماعي في الهامش، ذلك أنه وفي حين كانت تتزايد فعالية مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية في المركز والجغرافيا التاريخية لنخبة دولة (56) عقب الاستقلال، كانت تتشكل تدريجيا وبالتوازي مع ذلك في الهامش تشكيلات سياسية وعسكرية ذات طابع تقليدي في الهامش كفعال رئيس في الحياة الاجتماعية لمجتماعات الهامش وهي تشكيلات سياسية\عسكرية تشارك الدولة شرعيتها ووظائفها الحيوية، بعضها ثوري، والآخر تابع للسلطة، الأمر الذي فاقم حدة الصراع الاجتماعي في الهامش. ونجد هنا أيضا، أن سياسة المليشيات هذه، هي السياسية المسؤولة بشكل مباشر عن الكثير من الحروب في تاريخ السودان ، خاصة حرب 15 أبريل الحالية، حيث أن قوات الدعم السريع (Rapid Support Forces-RSF) أحد أطراف الحرب 15 أبريل يعود جذرها إلى سياسة المليشيات هذه.
إننا نوصف سياسة المليشيات هذه، كأحدى أهم آليات إنتاج الحروب والثورات والتمردات في دولة (56)، نظرا لأنها تخلق -كما حدث تاريخيا جهات أخرى غير المؤسسة الأمنية والعسكرية الرسمية للدولة، وبالطبع حالة من تعدد الجهات التي تحتكر العنف الشرعي داخل الاجتماع-السياسي السوداني، وهي الحالة التي تشكل تهديداً مباشراً للدولة، خاصة وأن هذه المليشيات التي تنشئها الدولة، غالبا ما تتكون من جماعات أو مجتماعات مهمشة، وفي هذا السياق يشير بياتريس أونامو وإسرائيل نيابوري نياديرا إلى أن خطورة سياسة المليشيات على الدولة، تكمن في أن هذه المليشيات نشأت أصلا كوسيلة للعنف وبديلاً للطرق الدبلوماسية في حل النزاعات، ومن هنا يربطان بين قدرتها العالية على تغيير الأنظمة وبين المرونة الناتجة عن أنها جهة موازية للدولة في ممارسة العنف الشرعي، حيث يؤكدان “أن قدرتها على التصرف بشكل مستقل مع الاحتفاظ بالارتباط بهياكل السلطة الرسمية تجعلها عوامل قوية لتغيير الأنظمة، وهو ما يترتب عليه في كثير من الأحيان عواقب وخيمة على الاستقرار الوطني والحكم.” وهنا نلاحظ أن المجتمعات العربية في الهامش، والتي تم تجنيدها في عدة مليشيات، ونظرا لأنها مجتمعات مهمشة وبالتالي في تناقض رئيس مع الدولة، كانت قد تمردت عدة مرات على الدولة، حيث يشير أونامو ونياديرا أيضا. إلى أنه “ومنذ عام 2006 فصاعداً، كانت هناك حالات ملحوظة من عدم الولاء والمواجهات بين الميليشيات والقوات النظامية، وخاصة في دارفور” .ـ ويضيفان “أظهر العرب في كردفان ودارفور مقاومة متزايدة لتعبئة الميليشيات لقمع التمردات…. وبذلت الحكومة جهوداً متضافرة لاستعادة السيطرة على الميليشيات العربية في دارفور التي أصبحت غير مخلصة على نحو متزايد.”. ، وهنا نؤكد أن إمكان تمرد القوى الاجتماعية العربية الرعوية في الهامش على الدولة، يكمن في وجود التناقض الرئيس بينها وبين القوى الاجتماعية النهرية الذي وصفناه سابقاً، خاصة وأن سياسة المليشيات هذه، تربتط بدولة (56) وبنيتها، وليس بنظام محدد من بين النظم السياسية التي توالت على حكمها عقب الاستقلال ، حيث ” تعود أقدم مظاهر هذه الجماعات إلى الحرب الأهلية السودانية الأولى (1955-1972)” ، وهي الحرب التي كانت صراعاً بشكل رئيس بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية المركزية، وهنا نشير أيضا. إلى أن سياسية المليشسات أصحبت سياسية رسمية للدولة عقب الاستقلال مباشرة، وتعززت خلال الحرب الأهلية السودانية الثانية (1983-2005)، حيث نلاحظ أن النظام الإسلامي (1989-2019) تحت إدارة عمر البشير اعتمد على قوات شبه نظامية، مثل قوات الدفاع الشعبي (People Defend Forces-PDF) لتعزيز قدرة الجيش ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان (Sudan People Liberation Movement- SPLM)، ومن ثم قامت نفس الإدارة بإنشاء عدة مليشات في دارفور، كان الهدف من تشكيلها مواجهة التمردات التي تشنها الجماعات غير العربية في دارفور، …. حركة العدل والمساواة (Justice and Equality Movement- JEM) وجيش تحرير السودان (Sudan Liberation Army- SLA)) ، ونستنتج هنا فيما يتعلق بالصراع الاجتماعي في السودان عقب الاستقلال، أن سياسية المليشيات هذه، هي السياسة التي تفسر تحول زعماء القبائل في الهامش إلى قادة عسكريين ، وتحول بعض القبائل والعشائر إلى مليشيات قبلية، وكذلك تحول الزعماء التقليديين إلى أمراء حرب في السودان، ذلك أنها كانت العامل الرئيس الذي يسهل نجاح النخبة السياسية والعسكرية لدولة (56) في تقسيم القوى الاجتماعية في الهامش، عبر عسكرة بعض الجماعات القبلية في مليشيات مسلحة، ونشير هنا، إلى أن النخبة السياسية \العسكرية لدولة (56) كانت تنجح في عسكرة مجتمعات الهامش، عن طريق “تلاعب جميع أطراف الصراع بالأعراق واحتداد التمايزات العرقية بتصوير الصراع بوصفه «حرب » إبادة ضد «الأفارقة »” ، وبالتالي تنجح أيضا في تحويل الصراع من صراع اجتماعي على الثورة والسلطة إلى صراع عرقي، وما يجب أن نستنتجه من ذلك، أن هيمنة القوى النهرية على السلطة وفرضها للعروبة والإسلام، كانت الدافع الرئيس لإصطفاف المجتمعات غير العربية وغير المسلمة التي نسميها بالقوى الاجتماعية الافريقية في تشكيلات سياسية وعسكرية تطالب بالعدالة ورفع المظالم التاريخية، وهذا هو السبب التاريخي لتعريف النخبة السياسية والعسكرية لدولة (56) الصراع على السلطة في السودان، على أنه صراع (أفارقة ضد عرب) أو صراع (مسلميين ضد مسيحيين)، كما أن التلاعب بالنسيج الاجتماعي في الهامش عبر سياسات المليشيا أيضاً، كان دائماً ما يدفع القوى الاجتماعية العربية الرعوية، للتشكل في عدة تشكيلات عسكرية موالية للدولة، حيث يؤكد جولي فليب، “إن الإبالة -رعاة الإبل- الذي شكلوا رأس الحربة في حملة الحكومة لمكافحة التمرد في سنة 2003 كانوا عموما أكثر فقراً وتهميشاً من غير العرب الذين قادوا التمرد” وعلى ذلك فهذه السياسية كانت تعمل وبشكل أساسي على خلق تشكيلات عسكرية من المجتماعات العربية في الهامش موالية للسلطة في دولة (56)، ولعل النتيجة النهائية لها كانت تفاقم حدة الصراع والعنف في الهامش، وتصاعد كذلك من حدة الاستقطاب العرقي بين القوى الاجتماعية في الهامش من جهة، وبينها وبين القوى الاجتماعية النهرية من جهة أخرى، وكل ذلك كان يتمظهر بشكل رئيسي في تطور نوعين رئيسيين من القوى الاجتماعية في الهامش، المجتمعات ذات الجذر الأفريقي، والمجتمعات ذات الجذر العربي.
في سياق التمييز الذي نطرحه بين مستويين للصراع الاجتماعي على السلطة في السودان أيضا، نشير إلى أن الأسباب التي أدت الي فشل النخب السياسية لدولة (56) تاريخيا في إنجاز التحول الديمقراطي، ترتبط بشكل وثيق بمقولتي التناقض الثانوي والتناقض الرئيس، حيث نلاحظ أن إعادة انتاج الدولة الاستعمارية عبر علاقات السلطة العشائرية\الجهوية التي تهيمن القوى الاجتماعية النهرية من خلالها على بيروقراطية الدولة، يجعل مؤسسات الدولة، “تميل إلى خلق نخبة متماسكة دفاعياً داخل الدولة، فضلاً عن مجموعة محتملة من الزعماء البدلاء خارج الدولة” كما يقرر دي والي وبريتون، وهو الأمر الذي يجعل التناقض بين التشكيلات السياسية داخل القوى الاجتماعية النهرية تناقضا ثانويا، ذلك أن المعارضة الجذرية نتيجة الطبيعة الاحتكارية لسلطة دولة (56) ستكون من الهامش، حيث أن هنالك تناقضا رئيسيا بين القوى الاجتماعية في الهامش والقوى النهرية التي تهيمن على بيروقراطية الدولة في المركز. وبعبارة أدق، يرتبط فشل النخب السياسية لدولة (56) في إنجاز التحول الديمقراطي، بالتطابق من حيث القوى الاجتماعية بين التشكيلات السياسية الحديثة التي حكمت السودان تاريخيا عقب الاستقلال والتشكيلات السياسية المعارضة لها (المعارضة الداخلية) في المركز ، حيث أن هذا التطابق، يجعل الصراع على السلطة داخل القوى الاجتماعية يستند إلى تناقض ثانوي، ومن هنا النزوع الإصلاحي للتشكيلات السياسية الحديثة في المركز، فكما يلاحظ دي وال وبريتون أن الصراع السياسي في الدول ذات النظم السياسية التي تسودها علاقات سلطة تقليدية “يبدأ كنتيجة لظهور نخبة جديدة من خارج دائرة النخبة القديمة” ،ذلك أن المعارضة الداخلية للنظام دائما ما تكون “أكثر ميلاً إلى اتخاذ موقف على أسس مصالحية في الصراعات على الغنائم” ، وهذا ما حدث تاريخيا في السودان، ذلك أن سيناريو تعثر التحول الديمقراطي دائما ما كان واحداً في حقب مختلفة، فبمجرد صعود المعارضة الداخلية للنظام الحاكم في المركز للسلطة عقب ثورة شعبية سلمية، حتى تفارق الممارسة الديمقراطية، لتواصل نفس السياسات الموروثة من المستعمر، وهذا الجزء الأول من السيناريو. أما الجزء الثاني فهو أن هذه التشكيلات السياسية الحديثة ونتيجة الخلفات في ما بينها، دائما ما تلجأ إلى الاستعانة بالمؤسسة العسكرية التي أخرجتها الثورة أو الإنتفاضة من السلطة، في إسقاط الحكومات الشرعية التي أدت عقب انتخابات شعبية ديمقراطية، وهذا ما حدث تاريخ في الانقلابات الثلاث المذكورة آنفا، لينشأ تحالف جديد بين المؤسسة العسكرية والتشكيلات السياسية من المعارضة الداخلية لاستئناف الحكم الاحتكاري الذي يخدم مصلحة القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة على دولة (56)، وهذا ما نسميه بسيناريو فشل التحول الديمقراطي في السودان.
في سياق سيناريو فشل التحول الديمقراطي في السودان، نشير إلى أن التطابق من حيث القوى الاجتماعية، بين التشكيلات الحديثة المعارضة في المركز والتشكيلات الحاكمة تاريخاً، كان دائماً، ما يكشف نزعتها الإصلاحية التي أشرنا إليها أعلاه، وهذا ما حدث تاريخاً في كل من ثورة أكتوبر (1964) وثورة أبريل (1985) ثورة ديسمبر (2018) التي كان جميعها ثورات شعبية أسقطت نظم عسكرية احتكارية، وتلتها إنقلابات عسكرية، وسنقتصر تحليلنا هنا على ثورة ديسمبر نظراً لارتباطها الوثيق بحرب 15 أبريل التي تتبع جذورها في هذا البحث، ونشير هنا، إلى أنها كانت ثورة شعبية، شاركت فيها كل من القوى الاجتماعية الحديثة في المركز، إضافة إلى القوى التقليدية من الهامش. ولعل اتساع القاعدة الاجتماعية لثورة ديسمبر هذا، هو الذي جعل مطالب الثورة جذرية، وتتمثل بشكل رئيس في تغيير جذري في بنية السلطة وإنجاز التحول الديمقراطي في السودان، وبالتبع نهاية الحكم الاحتكاري للقوى الاجتماعية النهرية والدولة الاستعمارية ومؤسساتها، كما أنه أيضا، السبب الرئيس في نجاح الفعل الثوري للقوى الاجتماعية الحديثة في المركز والقوى الاجتماعية التقليدية في الهامش، بعد عدة أشهر من إندلاع الثورة، من الاطاحة بالنظام الإسلامي الحاكم، ولكن ونتيجة للاختلاف التاريخي من حيث التطور بين القوى الاجتماعية في السودان، فإن القوى الاجتماعية النهرية الأكثر تطورا، والتي توجد بشكل رئيسي في المركز، وتشكيلاتها السياسية الحديثة التي تشكل المعارضة الداخلية للنظام الحاكم، كانت هي الأقدر على افراز القيادة السياسية التي ستقود الثورة، وهنا وكما في سيناريو فشل التحول الديمقراطي في السودان الذي وصفناه، نلاحظ أن تحول المعارضة السياسية الداخلية للنظام: من موقع المعارضة إلى موقع السلطة الحاكمة، وذلك في أعقاب سقوط النظام الإسلامي شكليا في 11 أبريل (2019)، كان إعلانا بتحولها من تبني الموقف الثوري الداعي إلى تغيير جذري في بنية السلطة: إلى تبني موقف إصلاحي: ويتضح ذلك في المفارقة الآتية: في الحين الذي كانت فيه “ثورة ديسمبر (2018) ثورة شعبية وجذرية المطالب، وقعت قوى الحرية والتغيير التي تمثل القيادة الفعلية للثورة، الوثيقة الدستورية في 4 اغسطس (2019) والتي أسست للشراكة السلطوية بين الأحزاب السياسية المعارضة للنظام الإسلامي والمؤسسة العسكرية التي تتكون من القوات المسلحة السودانية ((Sudanese Armed Forces-SAF، ,وقوات الدعم السريع ((RSF وهنا يقول منزول أبو عسل “لقد بدأت ثورة ديسمبر في الهامش الريفي، لكنها سرعان ما استخدمت من قبل شباب الطبقة الوسطى في الخرطوم، مستخدمين وسائل التواصل الاجتماعي” . وبالنظر إلى التطور التاريخي لهذه الأحزاب المعارضة الداخلية للنظام الحاكم)، ومشاريعها وبرامجها السياسية، فسندرك أن التطابق من حيث القوى الاجتماعية بينها وبين القوات المسلحة السودانية والنظام الإسلامي الذي يهمن على قيادتها، هو الذي جعلها تقبل الصيغة السياسية لبقاء المؤسسة العسكرية في السلطة، وهو الأمر الذي “يؤكد النموذج طويل الأمد الذي كان يتم بواسطة تحويل مسار التغيير السياسي بواسطة الطبقات الوسطى الحضرية، ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وحتى في ظل حدوث احتجاجات في مدن مثل عطبرة والفاشر قبل الخرطوم، إلا أن هذه المدن لا يمكن أن تمثل الفاعلين الريفيين” وعلى هذا فإن الممارسة السياسية لتشكيلات المعارضة التي أصبحت حاكمة بموجب الوثيقة الدستورية أدت إلى تفريغ الثورة من مضمونها الشعبي، وهو ما يفسر كذلك التناقص التدريجي لمشاركة القوى التقليدية في الهامش في الفعل الثوري، إلى أن أصبح الفعل الثوري يتركز بشكل أساسي في المدن، أي في الطبقات المدينية، وبالتبع التحول التدريجي لقيادتها السياسية من المطالبة بتغيير جذري في بنية السلطة، إلى ممارسة سياسية تتركز حول تغييرات اصلاحية، ذلك أنها قيادة الثورة وقواها الفاعلة انحصرت بشكل رئيس، عقب الوثيقة الدستورية في الطبقات الوسطى، وهنا باختصار، كما يؤكد منزول “كان فشل الحكومة المدنية راجعًا إلى مشاكل في الوثيقة الدستورية، ونفوذ المكون العسكري في مجلس السيادة، والافتقار إلى الانسجام بين أعضاء قوى الحرية والتغيير والتخريب النشط من قبل الموالين للبشير ” وما نود أن نقرره هنا، أن فشل الانتقال الديمقراطي عقب الثورات الشعبية في السودان، كان دائما يعود إلى قدرة الطبقات الوسطى على الهيمنة على الثورات الشعبية، الأمر الذي يعني تفريغها من النزوع الثوري، ذلك أن الطبقات الوسطى وتشكيلاتها السياسية توجد بشكل أساسي في المركز وتشكلت تاريخيا وتطورة بشكل حصري من القوى الاجتماعية النهرية المستفيدة من الدولة تاريخيا، ومن هنا النزوع الإصلاحي للمعارضة الداخلية في المركز ، حيث أنه لم يكن من مصلحتها دائما، حدوث تغيير جذري في بنية السلطة، ذلك أنها السلطة التي تحقق عبرها مصالحها وتفضيلتها المجتمعية، وتهيمن على بيروقراطية الدولة بواسطتها.
إنه لابد من التأكيد هنا أيضا، أن ثورة ديسمبر (2018) كانت لحظة فارقة في تاريخ الاجتماع-السياسي السوداني، ذلك أنه وبغض النظر عن تحولها إلى ثورة طبقة وسطى بالنهاية وتفريغها من مضمونها الشعبي نتيجة هيمنة الطبقات الوسطى على قيادتها، وفشلها في إنجاز التحول الديمقراطي: إلا أنها غيرت التحالفات السياسية المشكلة للسلطة تاريخا، والتحالفات بين كل بين القوى الاجتماعية المختلفة في كل من الهامش والمركز، وبين كل من التشكيلات السياسية والعسكرية التي ترتبط بهما، ذلك أن التحالف الذي شكل الفترة الانتقالية، كان تحالفا بين قوى سياسية ذات مصالح اجتماعية متناقضة، فالمؤسسة العسكرية تتكون من شقين، شق هو القوات المسلحة السوادنية(SAF) التي تحتكر قيادتها القوى الاجتماعية النهرية، والتي كانت تاريخيا بمثابة جهاز قمع دولة (56)، أما الشق الآخر فهو قوات الدعم السريع (RSF) التي تتكون بشكل أساسي من المجتمعات العربية بدارفور وكردفان أي القوى الاجتماعية الرعوية “بدو غرب السودان” وهي التشكيلة العسكرية التي نشأت بواسطة الجيش لتشمل كل التشكيلات العسكرية التي أنشئتها الدولة لمواجه تمرد المجموعات الأفريقية بدارفور وكردفان في فترات مختلفة، وهي كذلك التمظهر الأهم لسياسة المليشيات، حيث كما يؤكد أونامو ونياديرا “بلغت هذه التطورات ذروتها في إنشاء قوات الدعم السريع في منتصف عام 2013، وهي وحدة شبه عسكرية مطورة. تم تجنيد المجندين الأوائل لقوات الدعم السريع من القوات القائمة، وخاصة حرس الحدود. ” ، ونشير إلى أن قوات الدعم السريع (RSF) وفي خضم المتغيرات التاريخية تحولت قوات الدعم السريع إلى قوى عسكرية فعالة في حرب دارفور، كما أنها أكتسبت بعد ثورة ديسمبر ثقلا سياسيا، بعد أن اصبح قائدها الرجل الثاني في المؤسسة العسكرية في الحكومة الانتقالية.
بالعودة إلى مستوي الصراع الاجتماعي في السودان، نشير واستناد إلى ملاحظاتنا السابقة حول سياسات المليشيات وصلتها بتطور تشكيلات عسكرية موالية للسلطة في المركز ،إلى ملاحظة مهمة ذات صلة بحرب 15 أبريل الحالية، وهي أن قوات الدعم السريع، حتى وإن كانت تتبع المؤسسة العسكرية وإنشئت كقوات مساندة لها لمواجهة التمرد بإقليم دارفور، إلا أن تكونها بشكل أساسي من بدو غرب السودان يجعلها ممثلا لمصالح قوى احتماعية مهمشة، وهنا يكمن إمكان تمرده على الدولة كما ذكرنا سابقا. وفي هذا السياق أيضا، وحتى نفهم الجذور التاريخية البعيدة لحرب 15 أبريل، نؤكد أن تكون قوات الدعم السريع بشكل أساس (قيادة وجنودا) من القوى الاجتماعية العربية الرعوية في الهامش (بدو غرب السودان) والتي تمثل تاريخيا القوى الاجتماعية الرئيسية في الثورة المهدية، والذين تم تهميشهم بشكل منهجي من قبل المستعمر لارتباطهم بالثورة المهدية كما أشرنا سابقا، والذين تمت عسكرتهم من قبل النخب السياسية\العسكرية لدولة (56) بغرض جعلهم دروع بشرية تحمي بها جهاز سلطتها من تمرد القوى الاجتماعية الأفريقية الثائرة في الهامش، كان يجعلهم من أكثر المجتمعات تهميشا، وبالتالي قوى اجتماعية في تناقض رئيسي مع الحكم الاحتكاري للنخبة السياسية لدولة (56)، وبهذا المعنى، تمثل قوات الدعم السريع مصالح قوى اجتماعية في تناقض تاريخي رئيسي مع القوى الاجتماعية النهرية، حيث يمكن أن نفهم قبولها العسكرة في مليشيات تحمي الدولة من تمرد القوى الاجتماعية الأفريقية في الهامش رغم تناقضها الرئيس مع الدولة وقواها الاجتماعية، كتحالف مرحلي ضد القوى الاجتماعية الافريقية التي نشأت هذه القوات نتيجة الصراع الاجتماعي معها في الهامش. أيضا، وحتى نفهم الجذور التاريخية لحرب 15 أبريل، نشير هنا، إلى أن القوى الاجتماعية الأفريقية والتي نشأ الدعم السريع لمواجهتها في دارفور وكردفان، والتي تتكون بشكل أساسي من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا في أغسطس (2020) كانت قد تحالفت مع الأحزاب السياسية المعارضة للنظام الإسلامي عقب ثورة ديسمبر، مشكلة الشق الثاني من الحكومة الانتقالية رفقة قوى إعلان الحرية والتغيير، وهي التشكيلات السياسية\العسكرية التي لعبت دورا كبيرا في إفشال التحول الديمقراطي، حيث يشير منزول إلى أن هناك جانبان رئيسيان يفسران مشاكل الحكومة الانتقالية، ” أولاً، انحياز بعض الموقعين على اتفاقية جوبا للسلام إلى المكون العسكري، هي حركة العدل والمساواة برئاسة جبريل إبراهيم؛ وحركة تحرير السودان برئاسة مني مناوي – ونظمت اعتصام القصر (أوائل أكتوبر 2021) كذريعة للانقلاب العسكري” ، وأما الجانب الثاني فهو ” كان الجيش يخرب الحكومة المدنية من خلال السيطرة على الاقتصاد ورفض التخلي عن السلطة للمكون المدني” ولعل رفض الجيش التخلي عن السلطة ووئده للتحول الديمقراطي عقب كل الثورات، يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا، من أنه الأداة التاريخية لمنع حدوث أي تغيير جذري في بنية السلطة، ذلك أن هيمنة القوى الاجتماعي النهرية على القيادة العليا للجيش تاريخيا، حوله إلى الحامي التاريخي لاستمرار الدولة الاستعمارية وسياساتها وهيمنة القوى النهرية على بيروقراطية الدولة ومواردها، وهنا نؤكد أن سياسة المليشيات التي إنشئت قوات الدعم السريع بواسطتها، لم تكن إلا سياسة من سياسات الجيش التي تهدف إلى استمرار الدولة الاستعمارية المقنعة، ونحن هنا نربط بشكل مباشر بينها وبين حرب 15أبريل.
نشير هنا إلى ملاحظة ذات صلة بفهم السياق التاريخي لحرب 15 أبريل، خاصة أنها يمكن أن توصف كتتويج نهائي لفشل التحول الديقراطي في السودان عقب ثورة ديسمبر 2018، وهي أن ثورة ديسمبر (2018) كانت لحظة اختراق التشكيلات الثورية(الحركات المسلحة) والسلطوية (الدعم السريع) للقوى الاجتماعية في الهامش، وكسرها لدائرة التنافس الاحتكاري (الدائرة الداخلية للصراع) بين النخب السياسية لدولة (56)، ذلك أن نتيجة لهذه الثورة، فإن هناك قوى اجتماعية جديدة من خارج المستوى الداخلي للصراع الاجتماعي على السلطة في السودان، قد أصبحت تحوذ فعالية سلطوية داخل جهاز سلطة دولة (56) وهي بشكل رئيس الحركات المسلحة حركة العدل والمساواة (JEM) وحركة جيش تحرير السودان (SLM\A)الموقعة على اتفاق سلام جوبا-أغسطس 2021 (Juba Peace Agreement) وقوات الدعم السريع (RSF)أو القوى الاجتماعية الافريقية والقوى الاجتماعية العربية الرعوية، وهو الأمر الذي كان يعني أن هنالك قوى إجتماعية في تناقض تاريخي مع النخبة السياسية لدولة (56) قد اكتسبت فعالية سلطوية تمكنها من تحقيق مصالحها، التي تتناقض جذرياً مع مصالح القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة على السلطة، ونتيجة لذلك فإننا نقرر أن ثورة ديسمبر كانت لحظة تحول الصراع الاجتماعي على السلطة والثروة في السودان إلى مستوى جديد: ذلك أنها أحدثت تغييرا جذرياً في بنية التحالفات العسكرية والسياسية المؤسسة للسلطة في تاريخ السودان، حيث نلاحظ أنه وعقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 تحولت الأحزاب وكل التشكيلات السياسية الحديثة(المعارضة الداخلية لدولة (56)) إلى المعارضة باسم قوى إعلان الحرية والتغيير المجلس المركزي، وتحولت الحركات المسلحة وبعض التشكيلات السياسية\العسكرية الثورية للهامش(المعارضة الخارجية لدولة (56) ) إلى التحالف مع القوات المسلحة(SAF) في انقلابها الذي تقف خلفه الحركة الإسلامية، هذا في حين خرجت قوات الدعم السريع من هذا التحالف عقب إعتذاره قائده عن مشاركته في انقلاب 25أكتوبر، وما نشير إليه هنا، أن موقف قوات الدعم السريع من انقلاب 25 أكتوبر ومن الاتفاق الإطاري، جعله في تناقض سياسي وعسكري مع القوات المسلحة، وبالتالي كشف التناقض الرئيس بين كل من القوتين، وهو التناقض الذي كان يخفية الخطر الوجودي المشترك الذي كان يهدد القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة على السلطة ويهدد كذلك القوى الاجتماعية العربية في الهامش، والمتمثل في التشكيلات العسكرية للقوى الاجتماعية الأفريقية، والذي كانت تخفيه قدرة الدولة على التحكم في بدو غرب السودان عبر الإدارات الأهلية والسلطة التقليدية وسياسة المليشيات، ولابد من تأكيد أن لحظة تحول الدعم السريع إلى تبني موقف سياسي مختلف عن القوات المسلحة خاصة عقب الاتفاق الإطاري-مارس 2023( (the Framework Agreement كانت لحظة تحول الدعم السريع إلى مهدد لدولة (56) ذلك أن التناقض الرئيس بين القوى الاجتماعية النهرية والقوى الاجتماعية العربية الرعوية قد انكشف، وفي هذا التناقض الذي فجرته ثورة ديسمبر 2018 ، تجد حرب 15أبريل جذرها التاريخي القريب .
في هذا السياق، يضع منزول أبو عسل، أسباب حرب 15 أبريل على النحو التالي “إن الصراع الذي يدور بين قوات المسلحة وقوات الدعم السريع، والذي يوصف عادة بأنه صراع بين جنرالين البرهان ودقلو على السلطة، يمكن أن يعزا لجذور وعوامل مثل غياب الحكم التشاركي والديقراطي، وعدم المساواة الكبيرة، واحتكار السلطة والثروة، إضافة إلى تهميش مجتمعات متعددة وشيوع الافلات من العقاب” ، وبغض النظر عن من الذي بدأ الحرب بين الأطراف المتصارعة، إلا أن كل المعطيات تشير إلى أن أسباب هذه الحرب تجدر جذورها بعيدا في الحقبتين الاستعماريتين وفي الطبيعة الاحتكارية لدولة (56) ومؤسساتها ونخبها السياسية وقواها الاجتماعية، وأن حرب 15 أبريل متجذرة في التناقض الرئيس بين القوى الاجتماعية التي تتصارع الآن، وفي التفاوت من حيث نسب المشاركة السياسية ومن حيث التنمية، وفي عمليات العسكرة والتهميش الذي تعرضت لها مجتمعات (بدو غرب السودان)، وباختصار هنا، تجد حرب 15أبريل جذورها التاريخية في التشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، حيث يشير منزول إلى أن حرب 15 أبريل تأتي كحرب ضمن، “سلسلة من الصراع الطويل الأمد في السودان، ولذلك يتطلب السعي الي إنهاءها معالجة أسباب الصراعات طويلة الأمد والاضطرابات الدائمة التي تميز تاريخ السودان بعد الاستقلال” ، ولعل أهم ما يؤكد أن حرب 15 أبريل ذات جذور تاريخية بعيدة أيضا، وأنها كذلك إعلان النهاية لدولة (56) ومؤسسات استعمارية البنية، هو الانقسام الاجتماعي الحاد الذي يتمظهر في الاصطفاف الجهوي حول أطراف الحرب، ذلك أن القوات المسلحة ونتيجة للملاحظات التي ذكرناها سابقا حول طبيعتها الجهوية وقاعدتها الاجتماعية الضيقة التي تتركز في الوسط والشمال، أصبحت تستقطب وتجند للحرب في امتدادتها الاجتماعية شمالا ووسطا ومن القوى الاجتماعية في الجغرافيا النهرية أو الجغرافيا التاريخية لسنار أو سلطنة الفونج حيث الوجود التاريخي للقوى الاجتماعية النهرية: هذا في حين ونتيجة ارتباطها التاريخي أيضا بالقوى الاجتماعية العربية الرعوية (بدو غرب السودان) فإن قوات الدعم السريع أصبحت تمدد وتجند بشكل أساسي في دارفور وكردفان، أي في الجغرافيا التاريخية لوجود هذه المجتمعات هو الأمر الذي يؤكد أزمة المواطنة التي أشرنا إليها سابقا، ذلك عدم تمديد الجهاز الخدمي للدولة وتطور رابطة المواطنة داخل الاجتماع السياسي السوداني، يجعل الحرب تهدد بتفكك النسيج الاجتماعي الهش أصلا بسبب أن سياسات الدولة الاستعمارية أعاقت تطور الحس القومي\الوطني، وأنتجت لنا تعدداً في الجهات الشرعية التي تحتكر العنف كما أشرنا سابقا، وهو الأمر الذي يجعل كل من القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، مؤسستين شرعيتين في نظر القوى الاجتماعية السودانية في غرب السودان وشماله، ويفاقم من حدة الانقسام الاجتماعي بالطبع، وإلى ذلك يشير منزول قائلا: “يهدد الاستقطاب الاجتماعي بتمزيق نسيج الاجتماعي، وخاصة في مناطق مثل دارفور التي لم تتعاف بعد من 20 عامًا من الحروب المدمرة” ولعل النتائج الكارثية لحرب 15أبريل خاصة أثرها على الحس القومي الهش نظر للاستقطاب الحاد الذي تبعها، وكذلك فشل كل مبادرات السلام في ايقافها، وتمددها المتسارع لتشمل معظم أقاليم السودان،وكذلك سقوط معظم وليات إقليم غرب السودان (كردفان، ودارفور) تحت سيطرة الدعم السريع، وبقاء سيطرة الجيش على وشمال وشرق السودان، كلها مؤشرات تؤكد: أن حرب (15) أبريل 2023 ما هي إلا لحظة الإعلان الرسمي لنهاية دولة (56) وعدم مقدرة مؤسسات على استيعاب الصراع الاجتماعي نتيجة تصاعد التناقضات داخل الاجتماع-السياسي السوداني إلى مستوى غير مسبوق، مستوى أعلى من تستوعبه مؤسسات الدولة الاستعمارية التي تم إعادة إنتاجها في دولة (56)، ومن هنا عودة التقسيم التاريخي للسودان القديم إلى البروز نتيجة سيطرة الدعم السريع على معظم دارفور وكردفان، وبقاء سيطرة الجيش في الجغرافية التاريخية لسنار.
إننا نوصف حرب 15أبريل على أنها لحظة الانهيار التاريخي لدولة (56) نظرا إلى عدم وجود صيغة للتسوية بين أطراف الصراع، ذلك أنه ليس صراعا بين مجرد مؤسستين عسكريتين، وإنما بين قوى اجتماعية، ولعل كونها بين قوى اجتماعية أكثر من كونها بين مجرد مؤسستين عسكريتين، يفسر ذلك الاصطفاف الجهوي من قبل مجتمعات وقبائل السودان المختلفة مع أطراف الحرب، ونشير هنا إلى الطابع الجهوي\الإثني للاصطفاف حول كل من قوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع يعود إلى التركيبة الجهوية لكل القوات العسكرية المتقاتلة في هذه الحرب ، والتي باتت واضحة بعد الحرب في كل مؤسسات الدولة: بحيث أصبحت الدولة في تناقض وعداء مع بعض المجتمعات التي توصف بأنها “الحواضن الاجتماعية” للتمرد أو قوات الدعم السريع. أيضا، لعل أهم ما يؤكد أن حرب 15 أبريل هي لحظة الانهيار التاريخي لدولة (56) أن التناقضات داخل الاجتماع-السياسي السوداني الحديث وصلت نقطة اللاعودة، حيث “إن استمرار الحرب من شأنه أن يزيد من انقسام المجتمعات، الأمر الذي سيجعل العودة إلى الحياة إلى طبيعيها أمرًا صعبًا للغاية عندما تنتهي الحرب.” ومن هنا نقرر أن الاجتماع-السياسي السوداني وعند لحظة حرب 15ابريل أصبح أمام خيارين لا ثالث لها، الأول، هو تتفتت وتفكك الدولة السودانية إلى دويلات ذات سيادة كل في إقليمه أو أماكن سيطرته، والعودة بالتالي إلى السودان القديم حيث كل أقليم يشكل دولة، مثلما حدث مع جنوب السودان الذي انفصل ليعود خارج جغرافيا الدولة السودانية الحديثة في العام (2011) بعد حروب طويلة ومريرة مع الدولة المركزية. أما الخيار الثاني فهو تأسيس “الجمهورية السودانية الثانية.، وما يجب أن نؤكد عليه هنا، أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا عبر عقد اجتماعي جديد مكان العقد الاجتماعي الاستعماري لدولة (56)، يؤسس للدولة السودانية الثانية التي تقطع مع مؤسسات الدولة الاستعمارية التي أعادت إنتاجها النخبة السياسية\العسكرية لدولة (56)، والقطع بالتبع مع الحكم الاحتكاري والتهميش الاجتماعي والفوارق التنموية والتطور غير المتكافئ وكل السياسات التي ترتبط بالتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان،ونؤكد أيضا، أنه وبدون هذا العقد الاجتماعي والتأسيس الدستوري الجديد للدولة السودانية، فإن السودان سيمضي في نفس المسار القديم الذي وصفناه هنا، والذي أدى سابقا إلى انفصال جنوب السودان في (2011) ويمكن أن يؤدي إلى انفصالات أخرى، ف “بدون جيش موحد، لا يمكن أن يكون هناك أمل في السودان الموحد.” ومن هنا نعرف حرب 15 أبريل على أنها لحظة النهاية لدولة (56) وبداية السودان الجديد، والذي يعتمد توحده على قدرة القوى الاجتماعية في الهامش والمركز سويا، على التوافق على شكل جديد من الدولة والممارسة السياسية التي تضمن مصالح الجميع، وهذا لا يمكن أن يتم إلا في ظل حكم ديمقراطي تشاركي، ذلك أنه وفي حال فشلها في الوصول إلى صيغة الحكم التي تضمن حقوق جميع القوى الاجتماعية داخل الاجتماع-السياسي السوداني، فإن السودان الجديد سيكون دولتان في أحسن الفروض، أو عدة دول في أسوئها.
المصادر:
التونسي ، محمد أبن عمر ، تشحيذ الأذهان في سيرة بلاد العرب والسودان. القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1965.
القدال، محمد سعيد، تاريخ السودان الحديث(1820-1955)، الخرطوم: مركز عبد الكريم ميرغني، 2002.
أمبده صديق ، قلم التعليم وبلم المتعلمين: مقالات في التعليم والتمية. الخرطوم: مدارك للطباعة والنشر والتوزيع، ، 2017.
حاج حمد، محمد ابو القاسم ، السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل بيروت: دار ابن حزم للطباعة والنشر، 1996، ج1.
فيليب، جولي، ما بعد الجنجويد: فهم مليشيات دارفور. سويسرا: مشروع مسح الأسلحة الصغيرة، 2009.
مرزوقي، حسين، بلاد السودان في كتب الجغرافيين والرحالين العرب والمسلمين، (تونس: المجمع الأطرش للكتاب المختص، 2018.
وفد السودان 1946: عن مآسي الانجليز في السودان، الخرطوم: شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، 2006. ط2
English References:
-Books:
Mises, Ludwig von. Nation, State, and Economy Translated to English edition by Leland B. (New York University Press. 1983.
Assal, Munzoul A. M, War in Sudan 15 April 2023: Background, Analysis and Scenarios, International Institute for Democracy and Electoral l Assistance, Stockholm, 2023.
Scientific Papers:
Badmus, Isiaka Alani, Contesting Exclusion: Uneven Development and the Genesis of the Sudan’s Darfur War- Journal of Alternatives in the Social Sciences: 2011, Vol 3.
Bratton, Michael ; Van de Walle, Nicolas . Neo-patrimonial Regimes and Political Transitions in Africa, World Politics, Vol. 46, No. 4 (Jul. 1994), 453-489.
URL: http://links.jstor.org/sici?sici=0043-8871%28199407%2946%3A4%3C453%3ANRAPTI%3E2.0.CO%3B2-K
Kraushaar, Maren and Lambach Daniel: Hybrid Political Orders The Added Value of a New Concept ACPACS Occasional Paper Number 14. December (2009)
Onamu, Beatrice, Nyadera N., Israel. (2024), “Paramilitary Forces, Domestic Politics and Conflict: A Case of the Sudan Crisis.” Obrana a strategie 24, no. 1: 143-158.
Ylönen, Aleksi, Institutions and Instability in Africa: Nigeria, Sudan Reflections from Mises’s Nation, State and Economy. New Perspectives on Political Economy Volume 1, Number 1, 2005, pp. 38-60
Ylönen, Aleksi, On Sources of Political Violence in Africa The Case of “Marginalizing State in Sudan, Politica y Cultura, núm. 32, 2009, pp. 37-59.
Clements, Kevin P., Volker Boege, Anne Brown, Wendy Foley and Anna Nolan 2007. State Building Reconsidered: The Role of Hybridity in the Formation of Political Order, in: Political Science, 59, 1, June 2007, 45-56.
Abdel-Rahim, Muddathir, Changing Patterns of Civilian-Military Relations in the Sudan (Sweden, Uppsala Offset Center AB, 197.
Reports:
(HRC) Independent International Fact-Finding Mission for the Sudan Report, 5 September 2024,