
المدن ليست مجرد مساحات معيشية أو مادية، بل أيضًا هي مساحات للتمثيل ومساحات للخيال. إن كيفية تصور المدن لها تأثيرات، عند المصممين والمخططين الحضريين أفكار حول الشكل الذي يجب أن تبدو عليه المدن وكيف تعمل، وكيف تعيش و يتم ترجمتها إلى خطط و بيئات مبنية، يتم تمثيل المدن في النصوص الفنية والأدبية والسينمائية وهذه أيضًا لها آثارها. إن الخيال العام حول المدن يتكون في حد ذاته جزئيًا من تمثيلات وسائل الإعلام بقدر ما يتكون من ممارسات معيشية. الأفكار حول المدن لا تتشكل ببساطة على مستوى واعي؛ لكن هي نتاج لرغبات و تخيلات غير واعية، يبدأ الرفيق بتخيلات المدينة هذه لتوضيح قوة الخيال والأفكار والتمثيلات والرؤى في التأثيرعلى طريقة تشكيل المدن وعيشها.
هناك موضوعين ينظمان التفكير في العلاقة بين الخيال والمدينة: وهو كيف تؤثر المدينة على الخيال وكيف يتم تخيل المدينة، على الرغم من وجود روابط واضحة بين هذين الأمرين إلا أنها طريقة مفيدة للتفكير في تخيل المدن. إن تأثير المدينة على الخيال يحتوي على توتر بين ظروف المدينة المحفزة أو المقيدة للخيال؛ من ناحية المدن مبدعة، وأماكن تشجع الخيال، ومواقع تحفيز يجتمع الأشخاص ذوي الأفكار المختلفة معًا في المدن، وتتكون شبكات الترابط و تبادل المعرفة والأفكار الخاصة بهم منتجة بشكل إبداعي. ولهذه للأفكار آثار مادية – في شكل ابتكار اقتصادي (على سبيل المثال في التصنيع)، وأرباح من بيع الأفكار في الابتكار كالاقتصاد المعلوماتي. إن فكرة المدينة باعتبارها بوتقة للأفكار والابتكار لها تاريخ طويل – يعود في الواقع إلى أصول التمدن ذاتها، و يمكننا بأن نجادل بالتأثيرات المحفزة للتجمعات الحضرية (ما يتم تسميته التآزرية¹)؛ أدت إلى ابتكارات في الزراعة ، بدورها أدت إلى الثورة الزراعية . وهنا تشجع الظروف التفاعلية للمدينة الأفكار النيرة على التغلب على طرق التفكير المستقرة.
يمكن أن تكون طرق التفكير المستقرة بمثابة أعمال خيال قوية في حد ذاتها، قد تعمل المدن على تقييد الخيال أو تعزيزه؛ في الخيال الجماعي باعتباره تقليدًا و سلطة. المدن مثل الدول يمكن أن تكون مكان المجتمعات المتخيلة، ويمكن الحفاظ على هذا الخيال الجماعي من خلال ممارسة السلطة والانضباط.
إذا نظرنا إلى الخطابات الحضرية للمدينة كمصدر للسلطة و الندم والقمع، نجد هذه التأثيرات بمثابة سلاسل للخيال، ومن ناحية أخرى يمكن لمثل هذه المدينة الاستبدادية أن تكون مصدرًا للهوية والأمن.
في العديد من المدن غير الغربية ـ وعلى نحو متزايد في العديد من الغربية ـ يعد الخيال الديني أو الروحي موضعًا رئيسيًا للهوية وتأثيراته على الشكل المبني للمدينة؛ حيث تعمل شخصية السلطان كمركز قوي للخيال حول مواضيع مثل (يوجياكارتا) هذه المدينة الكونية يمكن أن تتعارض مع الخيال الحضري السائد في الغرب. وهو تصور تراكم رأس المال، وهذا أيضًا يتحدى وجهات النظر الغربية التقليدية حول الحداثة والمدينة وحول علمنة المجتمع وأشكال الاغتراب الفردي . إذا تم تسهيل التمدن الغربي من خلال النزعة الفردية التي جاءت مع خيبة الأمل من العالم، فإن تفاعل الرأسمالية مع الخيال والتمثيلات الجماعية الأخرى (مثل تلك القائمة على الإيمان الديني) يعطي مزيجًا لا يمكن التنبؤ به من المواجهة أو استمالة رأس المال والرأسمالية الثقافة والعكس صحيح.
من الواضح أن أشكال الخيال الجماعي يمكن أن تكون إيجابية وسلبية على حد سواء؛ وإن التخيلات المتحيزة عن (الآخر) هي مصدر للعنصرية. وتعمل الهيمنة غير المقيدة لبعض التخيلات الجماعية على استبعاد الآخرين ـ كما تشير الأدبيات المزدهرة حول ما بعد الاستعمارـ وبالمثل فإن مفاهيم المجتمع تفترض تجانس السكان و يمكن أن تنطوي على فكرة التطهير؛ حيث يصبح أولئك الذين تم تصنيفهم بالخارج موقعًا للتحيز والفصل. تكشف الكتابة النسوية وما بعد الاستعمارية عن الدرجة التي كانت بها التخيلات الغربية للمدينة والآخر مرئية بطبيعتها (النظرة الاستعمارية، المتسكع المتفرج). يوضح أنتوني فيدلر إلى أي مدى كان هذا صحيحًا بالنسبة للمساحة المُتصورة للمدينة في الهندسة المعمارية والتخطيط الغربيين: كان خيال لو كوربوزييه يتغذى من خلال رحلات الطائرات فوق باريس.
إن سرعة النمو ومشكال رأس المال والثقافة في المدن غير الغربية تتحدى الخيال البصري من خلال الحس المواكب للمدينة، وأهمية الحواس الأخرى ما يجعل المدن غير عادية هو أنها تحتوي على مواقع تقصف الحواس ويمكن قراءتها كمصدر للمتعة: سوق التوابل في إسطنبول، أو أسواق الشوارع في هانوي؛ أو الاستياء، كما هو الحال في أماكن ساعة الذروة في محطات مترو الأنفاق.
يمكن أيضًا اعتبار المدينة في تعقيدها ووفرة البيانات الحسية بمثابة الفضاء الذي يساهم في إحساسنا بالذاتية المجزأة أو الحمل الزائد في استكشاف يميل للعلاقة بين الحياة الداخلية للموضوع والمدينة. نشير إلى أنه في المدينة الحديثة يصبح الفرد مشبع المحفزات: “لا توجد ظاهرة نفسية محجوزة دون قيد أو شرط، المدينة باعتبارها الموقف اللامبالي”؛ ومع تأثير ما بعد-الاستعمار، لقد تغير الفكر الحداثي لمفهوم الذوات والحياة والتعقيد المنقسم، من كونه مجازًا سلبيًا إلى مجاز أكثر إيجابية.
ولقد كانت فكرة المدينة كموقع للتحفيز الزائد والمشاعر الزائدة تم استبداله بخيال المدينة على أنها نابضة بالحياة ومثيرة حيث يمكن الاحتفال واستكشاف لعبة الحواس و المتع الجسدية. ربما تكون الخطابات المعاصرة حول المدينة باعتباها مواقع للمتعة، أحد الأسباب العديدة التي جعلت كتابات بنيامين تحظى بالكثير من الاهتمام الحديث من قبل المتحضرين. أما بالنسبة له المدينة وجماهيرها رائعة و مبدعة ومنتجة؛ في حين يُنظر إلى ثقافة السلع في القرن التاسع عشر على أنها عالم الأحلام. كانت المدينة الحديثة بالنسبة لبنجامين هي الموقع الرئيسي لأوهام الحداثة والمظهر الجديد للأسطورة؛ وهو ما يتضح بشكل خاص في كتاباته عن أروقة التسوق المغطاة في باريس والتي تم بناؤها على نسق المشغولات الحديدية المعقدة والزجاج الذي أشرق وتألق فيها من عالم الأحلام واللاوعي للبرجوازية، بأحلامها بالوفرة والتقدم والرغبة في المتعة والاستهلاك، الذي يتجسد في الهندسة المعمارية والسلع والأزياء في المدينة.
لكن المدينة بالنسبة لبنيامين هي أيضًا مكان “غامض³ “، فهي مغرية و مهددة في الوقت نفسه، باريس باعتبارها تشكيلًا اجتماعيًا هي صورة مضادة لما يمثله فيزوف كتكوين جغرافي: كتلة خطيرة وحضيرة ولكن مثلما أصبحت منحدرات ” فيزوف² ” ، بفضل طبقات الحمم البركانية التي تغطيها، بستانًا فردوسيًا، كذلك هنا من حمم الثورة، يزدهر الفن والموضة والوجود الاحتفالي بشكل لا مثيل له في أي مكان آخر بنامين كتاباته ليست استكشافًا للذاكرة في حد ذاتها، والمدينة ليست مجرد مساحة يتذكرها بنيامين؛ بل إن الذاكرة متشابكة بشكل معقد مع مواقع معينة تشكل الذاكرة المدينة في نفس الوقت الذي تتشكل بها.
- مراجع
- شارع ذو اتجاه واحد ” فالتر بنيامين “
- « The Dawn of Everything: A new History of Humanity» للمؤلّفين ديفيد غريبر و ديفيد وينغرو
- التآزرية¹ ” التداخل بين عاملين أو أكثر ، بحيث يكون تأثيرها مجتمعة، أكبر من مجمو تاثيراتها ” .
٤ – فيزوف ² ” جبل فيزوف بركان نشط في المدينة الحضرية لنابولي، إيطاليا ” – ويكيبيديا