كتب

الصفح: ما لا يقبل الصفح وما لا يتقادم، لــــــجاك دريدا

عرض وتلخيص: عطا برشم

           مؤكد أن تاريخ السودان حافل بالانتهاكات التي طالما مارستها الدولة ضد مجتمعاتها المختلفة التي ثارت ضد النظم المركزية؛ ديكتاتورية كانت أم ديمقراطية. اتخذت من العنف وسيلة تتعاطي بها مع كل من خرج ضدها، مارست الدولة أبشع الجرائم مثل القتل التنكيل والنفي المادي والمعنوي، مما خلف عدد لامحدود من الضحايا الذين مافتئوا ينادون ويحلمون بالعدالة في ظروف تتعاضد وتتعقد بشكل يومي، إلى أن وصلنا لمرحلة الصراع الشامل، والانهيار التام للدولة، التي نأمل أن نستعيد فيها تأسيس الدولة  بشروط جديدة وعقد اجتماعي يتساوى فيه الجميع على أسس المواطنة والحقوق المتساوية، وستكون المسائلات التاريخية، هي المدخل السليم، لتأسيس هذة الحقوق والسبيل الأمثل لتحقيق ذلك هو رفع الوعي الإجتماعي، عن طريق بث المعارف وإعادة قراءة وتأويل التجارب.

المؤلفات التي تعين علي تحقيق هذا الهدف واعتقد أبرز مايمكننا، إستنطاقه هو الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، عبر مؤلفة “الصفح مالايقبل الصفح مالا يتقادم” وهو عبارة عن محاضرات جرى إلقائها في جامعتي كراكوفيا وأثينا في عام 1997م وجامعتي ويسترن كاب وكيب تاون والقدس 1998م وهو مايطابق السمنار الذي ألقى فيه دريدا أفكاره الأولي في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية 1997م ـ 1999م.

يبتدر دريدا النص بتحديد وضبط مصطلح الصفح؛ واشتقاقاته اللفظية ويتتبع تجلياتها في اللغات الاتينية البرتقالية؛ الإسبانية والايطالية؛ الانجليزية التي تحيل عادة إلى العطاء والهبة؛ ورغم هذه الإحالة الدائمة إلى الهبة إلا أنه يرفض عدم الانقياد إلى هذ÷ الإحالة دائماً؛ التي لا تتجاوز سياقات الزمن وصيرورته؛ فتتجدد دلالتها باستمرار؛ ويرئ دريدا أن الانسان مذنب على الدوام وعليه أن يطلب الصفح؛ وبين طلب الصفح ووهبة هناك السيادة والرغبة؛ وبين الثلاث مصطلحات هذه تكون هناك هوه يجب تجاوزها وتفاديها؛ فلا هبة دون صفح ولا صفح دون هبة؛ وأن هذا الربط موجود في اللغتين الألمانية والإسبانية؛ ثم ينتقل إلى الاستعمالات السيمانطيقية للصفح ويحاول وضعها في سياقها الدلالي؛ من الاعتذار كشكل بسيط للصفح إلى إشكالها الأكثر تعقيداً؛ ليخلص إلى السؤال الجوهري هل هنالك مفهوم واحد للصفح؟

فقد تختلف دلالة مفهوم الصفح كاشتقاق معجمي عن ما يفهم من الصفح ديناً وأخلاقاً؛ وسياقاً اجتماعياً؛ ويختلف كذلك حين يطلب الصفح فردياً وجماعياً؛ ويزيد كذلك من ضبط الدلالة وتعقيدها، وينتهي إلى أن الصفح لا يمكن أن يكون إلا فردياً وجهاً لوجهة، وأن هذا المشهد مانع للصفح الجماعي؛ المطلوب نيابة عن الطائفة، الكنيسة، المؤسسة، الهيئة؛ فإن هيئة الصفح الجماعي تجعله غريب من مملكة القانون؛ التقدير القضائي الجزاء العقوبة. فالصفح كمفهوم ديني يرتبط بالخطيئة ويتجاوز المنطق الجنائي؛ ايضاً يتعرض دريدا لتمظهرات الصفح في التاريخ السياسي خاصة بعد جرائم الحرب العالمية الثانية، وبروز ما يعرف بالجرائم ضد الانسانية، وهي الجرائم التي تستهدف ماهية الإنسان كانسان، وهنا يتعرض لجانكيلفتش في “الصفح” ” مالايقبل التقادم” وهما نصان حاضران في نقاشات الفرنسيين التي جرت في 1964م حول لاتقادم الجرائم النازية، وأن جانكليفلتش يميز بصرامة بين الصفح؛ التقادم والنسيان عندما يتسأل هل حان وقت الصفح او علي الاقل وقت النسيان؟* ويركز دريدا علي نقاش حجتان اساسيتان في طرح جانكلفيتش هما:

1.لايمكن الصفح اذا كانت الجريمة في غاية الشناعة لان ذلك يتجاوز ماهو إنساني والصفح ينبقي أن يكون في حدود الإنسانية*

2.لايمكن الصفح أو علي الأقل لايمكن تخيل إمكانية منحة إلا إذا كان الصفح مطلوباً بطريقة صريحة أو ضمنية**

وبعد الإستطراد في نقاش هاتين الحجتين؛ ينتقل دريدا ليستقراء الصفح في التاريخ الديني والسياسي والقانوني، القانون الذي يقيد الصفح بالحق في العفو؛ وهو حق ثيولوجي ـــ سياسي مازال قائم في جمهوريات ديمقراطية علمانية كفرنسا؛ وشبة علمانية كالولايات المتحدة***، وهو حق يضع العفو فوق القانون، حيث يشكل هذا الإستثناء موضوع تأمل دائم لجاك دريدا، لينتهي بإقرار منح هذا الحق فقط للضحايا، بل يستبعد حتي وجود طرف ثالث يتابع هذة العملية ويشترط قيامها بين طرفين ضحية ومذنب، ويسقط هذا الحق عن الموتي.

وفي إطار إشكالية الصفح الهيجلية يدرس التماثل مع الآخر من ثلاث جوانب؛ جانب الصافح والمصفوح عنة وتاريخية الصفح؛ الذي ينبقي ان لايتجاوز لحظتة التاريخية والا سيكون غير أصيل وغير مشروع وملتبس وسيصير حِداد علي الصفح ذاته.

ويطرح أراء جانكلفيتش حول جرائم النازية وإستهداف اليهود؛ حتي صار وجود الفرد جريمة في ذاتة؛ يجب التكفير عنها، وإذا كانت الجريمة جريمة وجود فإن الإثم اصلياً ومقيداً منذ الولادة، فإذا كان الخطأ متعلق بالوجود فإن الموت وحدة من يضع حداً لذلك؛ وهي النظرة التي شرعن بها الألمان جرائم النازية حسب جانكليفتش؛ وان تاريخ الصفح قد توقف بهذا الشر المطلق، وأن الصفح والمصالحة إن حدثت ستكون إصفاحاً غير حقيقي بل أعراض للنسيان؛ وسيستمر التاريخ علي خلفية إنقطاع التاريخ.

ويستطرد دريدا في تبيين تناقضات جانكلفيتش وأحكامة التي يطلقها علي جرائم الالمان خاصة بعد اقراره بخطيئة الوجود واستحالة الصفح في هذة الحالة؛ الي أن يطرح السؤال الاهم هل الصفح امر إنساني؛ خاصية إنسانية أم هو مختص بالرب؟**** وبهكذا سؤال يفتح مفهوم الصفح الي أفق يتجاوز ماهو إنساني ليكون النقاش عن الصفح هو نقاش عن هذا الحد أو اجتيازة، ومن هذا التساؤل ينبثق تساؤل أخر فرعي يميز من خلالة بين نوعين من الصفح، صفح لامشروط خالص؛ وبين أشكال متعددة من الصفح المشروط والموسوم بالعذر؛ الحسرة؛ التقادم؛ العفو، وغيرها من الإشتراطات القانونية والسياسية، فالصفح غير المشروط يمنحنا فرصة التفكير في ماهية الصفح، فبهذا التمييز يحاول أن يضيف دريدا بعداً اخر لمفهوم الصفح لننتقل من الصفح المشروط المدنس؛ الي الصفح غير المشروط ليطلب الصفح لذاتة لاتلوثة او تفسدة مقايضة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*صفحة 29

**صفحة 30

***صفحة30

****صفحة65

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى