
استهلال: لا يمكن بأي حال الاتفاق على علاقة ثابتة ومستقرة بين المثقف والسلطة في نظر إدوارد سعيد. وذلك لا يعود إلى الطابع العلائقي المتحول والمجهري للسلطة وغزوها المكثف والمداهم لجل المجالات التي يتحرك ضمنها الانسان وإنما يرجع الى غموض الدور الذي يؤديه المثقف والاشتباك اليومي الذي يجريه مع الواقع والأهمية الكبيرة التي تمثلها الأفكار والمؤهلات التي حصل عليها وتجعله يمارس نوعًا من الوظيفة الحيوية في الوجود الاجتماعي والمجال السياسي. لقد اشتهر إدوارد سعيد بنظريته عن الثقافة والإمبريالية وفكرته عن الاستشراق والمفاهيم الغربية للشرق وأطروحته تقول: “إننا نستطيع أن نفهم الجوانب الجوهرية لنظرية المستشرق الحديث وعلمه، لا باعتبارها معرفة موضوعية أصبحت متاحة عن الشرق، بل باعتبارها مجموعة من الأبنية الموروثة من الماضي، بعد أن قامت بعد المباحث العلمية بإكسابها صبغة علمانية” [2]. بيد أن إدوارد سعيد قد ترك التعريفات الكلاسيكية للمثقف جانبًا ونظر إلى هذا الخير من زاوية موقعه من السلطة والاستراتيجية التي يمارسها بها وحاول تمثل الصورة التي رسمها لذاته والصفة التي يمثلها والأشخاص الذين ينوبهم والشريحة التي يتكلم باسمها والطبقة الاجتماعية التي يعبر عنها. وقام بتفريق المثقف عن المتعلم والمفكر والمربي والأكاديمي والسياسي والخبير ورجل العلم والمعرفة. فهو ليس ذلك الشخص الذي ينتمي إلى طبقة فاعلة ومميزة بالتفكير النقدي والمتعالي ويحوز على مهارات عقلانية وحقق منجزات قيمية تسمح له بامتلاك طموح سياسي والمشاركة في الصراع والحلم بالمشاركة في صنع القرارات المصيرية للشعب وفي الدفاع عن الأمة وصيانة ثوابت هويتها، ولا هو ذلك القائد الذي يؤثر في الناس ويحرك الجماهير ويوجه الرأي العام وينفذ إلى قاع المجتمع ويحرك الشارع ويكون بارعًا في استعمال مجموعة من الرموز والرؤى لأغراض الهيمنة والنفوذ. على خلاف ذلك، “المثقف هو الشخص الملتزم والواعي اجتماعيًا بحيث يكون بمقدوره رؤية المجتمع والوقوف على مشاكله وخصائصه وملامحه وما يتبع ذلك من دور اجتماعي فاعل من المفروض أن يقوم بتصحيح مسارات مجتمعية خاطئة” [3]. فأي صورة للمثقف عند إدوارد سعيد؟ هل هو هاوي أم محترف؟ ما هي خصائص السياسة الثقافية؟ كيف تتميز علاقته بالسلطة؟ ماهو الدور العام للمثقف؟ لماذا يتعرض إلى التهميش والاغتراب والهجرة؟ كيف يصمد أمام إغراءات السلطة؟ وماذا يحدث للشعوب والمجتمعات حينما يخون المثقفون رسالتهم زمن المحن والانكسار والأزمة؟ أليس المثقف هو الجانب الآخر من الحقيقة ومصدر استشراف الطاقة التي تدخرها الشعوب وتذود بها عند الأوقات الصعبة؟ وهل المثقفون فئة بالغة الكثرة أم فئة ضئيلة ولا تضم الا عدد محدودًا ومنتقى بعناية شديدة؟ وهل يمثل حركة ثقافية تفعل سياسيًا أم يسهر على التوعية للثقافية للشعب؟ ما يراهن عليه سعيد هو تفادي تدجين المثقف وإلغاء دوره في المجتمع من قبل السلطة وتشجيعه على صون استقلاليته وتحمل مسؤوليته عند الشداد والقيام بدوره الثوري في الثقافة التي يمثلها.
“إن محاولة تحديد اللوم والمسؤولية في مثل هذه الفوضى صعب جدًا إن لم يكن مستحيلًا إلا لتسجيل نقاط حوارية” [1]
1- – صورة المثقف:
“دور المثقف في الحياة العامة يعتبر اللامنتمي أو الهاوي الذي يعكر صفو الحالة الراهنة” [4]
المثقف عند سعيد ليس الممثل représentant الذي ينوب شريحة اجتماعية معينة في مكان اتخاذ القرار على غرار البرلمان ويكون صوت من انتخبه ومن أعطاه توكيلًا بل هو Intellectuel رجل الثقافة والفكر ويختص بالذهن والذكاء والمنطق والتجربة ويمتلك مهارة الحوار العقلاني ويضم الوعي السياسي والتحضر إلى الالتزام الاجتماعي والممارسة النقدية والتربية الانسانية. اذا كانت صورة المثقف متعددة في الوجود الاجتماعي وتتوزع على جميع مستويات الحياة وبالخصوص علاقة الإنسان بنفسه وبغيره وبالعالم الذي يعيش فيه، فإن المثقف الحق حسب إدوارد سعيد هو الشخص الذي تمسك بقيم عليا مثل العدالة وحقق استقلاليته التامة عن السلطة، “بمعنى عدم الارتباط بقيود تحد من تفكيره أو توجه مسار أفكاره مهما تكن تلك الأفكار” [5]. بعبارة أخرى المثقف ليس السياسي المحترف ولا الخطيب البارع الذي يستميل السامعين وإنما الشخص الذي يمثل الفئات الشعبية والأغلبية الصامتة في مقاومة استبداد السلطة وظلمها وتعسفها. علاوةً على ذلك، يرفض المثقف أن يدافع عن مصالح ضيقة وأغراض جزئية مثل الربح السريع والسلوك الأناني ولا يقتصر على تمثيل غيره مما لا يمثلهم أحد في دوائر السلطة ويكرس حياته للدفاع على قيم إنسانية كلية ولذلك يفضل أن يكون هاويًا وتصدر عنه أفعاله باقتناع وعن حب وليس بإكراه أو تحت ضغط الحاجة أو خدمة أي طرف أو طمعًا في جزاء. هكذا يحرص المثقف على تنمية قدراته الذهنية والجسمانية وتهذيب ملكاته النفسية والعقلية وينتصر للحرية والتفكير وينبذ القيود والعبودية والوصاية ويعوِّل على نفسه في العناية بذاته. إذا ألصقنا بالمثقف صفة المفكر الذي يقيم في برجه العاجي ونسقه النظري المجرد فإنه يصبح مثيرًا للسخرية ومدعاة للاستهزاء والتهكم، أمَّا إذا ألصقنا به صفة النضال والمقاومة والثورة والحركية والنشاط والانتماء والالتزام والعضوية والكفاح والانحياز إلى الفقراء والتعاطف مع المهمشين والمتبني للقضايا العادلة والمدافع الشرس عن حقوق الإنسان وحرية الشعوب والأقليات المضطهدة في تقرير مصيرها بنفسها فإننا نكون قد أنصفناه ورفعنا عنه الضيم. لقد ألصق المثقف بنفسه صفات الوعظ والتبشير والتخصص والاحترافية وأصبح يبحث عن الشهرة والكسب ويخامره الطموح إلى ممارسة السلطة والصعود إلى الحكم وصار موظفًا لدى شركة عالمية ووكيلًا تجارًيا للعولمة المتوحشة ونائبًا عن حزب ومواليًا لقناعات ومتعصبًا لجهة. والحق أن المثقف لا يقبل الأوضاع على ماهي عليه بل يحتج و يتمرد ويسعى إلى تغييرها ولذلك يجد نفسه في عزلة ويعيش الغربة ويعمل على لفت أنظار الجمهور إليه ويكسب ود الناس ودعمهم في صراعه ضد خصومه ومواجهة السلطة المقدسة والقدر المحتوم ويعمل على بناء حركة اجتماعية تعتمد على تشكيل ثقافي مختلف وتسعى إلى تخليص الإنسان من قيوده والارتقاء به. اللافت أنَّ سعيد نبَّه إلى قرب انتهاء وظيفة المثقف وتهشم صورته بفعل العولمة. “يلوح لي خطر اختفاء صورة المثقف، أو احتجاب مكانته، في خضم هذه التفصيلات الكثيرة، أي النظر إلى المثقف باعتباره أحد المهنيين وحسب، أو مجرد رقم نحسبه في حساب التيارات الاجتماعية.” [6] وآيته في ذلك هو أن وظيفة المثقف في الحياة الاجتماعية تدحرجت إلى مرتبة الحضيض واختزلت صورته الرسالية إلى صورة مهني مجهول الهوية ومجرد فرد كفء. جدير بالملاحظة أن الأفكار الأساسية التي تدور حولها أطروحة سعيد في علاقة المثقف بالسلطة هي التالية: وظيفة المثقف في المجتمع لا يقوم بها عامة الناس وطبقة المثقفين ليست كثيرة العدد وإنما هم قلة من الناس ينتمون إلى النخبة ويؤدون دورًا طليعيًا ووظيفة تنويرية للحشود. المثقف التقليدي يشارك بطريقة سلبية ويحافظ على الوضع القائم بينما المثقف المنسق يشارك بطريقة إيجابية في النشاط الاجتماعي ويناضل في سبيل تغيير الأفكار وتنمية البنى والمؤسسات. يتميز المثقف الأصيل بالحركة الدائمة وغزارة الإنتاج ويتحلى بروح الابتكار والموهبة الفائقة والخلق الرفيع والمناداة بالمعايير الخالدة للعدالة والمساواة والمحبة والاختلاف والتعايش. توجد فئة من المثقفين تخون شعوبها حينما يتخلون عن رسالتهم ويفرطون في مبادئهم في سبيل الحصول على بعض المنافع المادية أو نتيجة الخوف من العقاب السلطوي. المثقف الأصيل لا ينشد متعة نظرية في برج عاجي ولا يفرط في التحاليل النظرية للحياة العلمية ولا يغرق في التأملات الميتافيزيقية للعالم الآخر وإنما يمتلك أهدافًا عملية وأقرب إلى الواقع ويشعر بالأغيار ويعايش الوضعيات الصعبة عن قرب ويقاسم المهمشين مأساتهم. صورة المثقف في الزمن ما بعد الكلياني لم تبقَ خلابة وناصعة وإنما غطتها الكثير من الأقنعة والنماذج التي تتسم بالمحافظة والرومانسية الحالمة. دور المثقف الشرقي هو ضروري في نقد الاستشراق وتمثيل نفسه والبرهنة على أن الثقافة الشرقية ليست مجالًا للغزو والتخيل بالنسبة للغرب، وإنما هي قد شاركت في صنع الكونية وحقل مستقل وغني من الرموز والخصوصيات التي يمكن أن تفيد البشرية.
2- – الافتتان بالسلطة:
“هناك عدد كبير من الناس لا يزالون يشعرون بحاجة للنظر الى الكاتب-المثقف كشخص ينبغي أن يُصغى إليه كمرشد للحاضر المربك وكقائد زمرة أو جماعة تنافس من أجل قوة ونفوذ أكبر” [7]
خيانة المثقفين تبدأ حينما تظهر عليهم علامات حب الربح السريع والبحث عن المناصب والسلوك الانتهازي والانتفاعية وذلك بتغييب الالتزام والتعصب للمعتقدات والأفكار والسقوط في التبرير والشخصنة وتغليب المشاعر الفئوية الضيقة على الوعي النقدي والاستهتار بالقيم التقدمية والكونية وتدنيس الحياة وبلوغ حالة الإفلاس الأخلاقي الكامل. لكن من هو المثقف على وجه التحديد؟ هل يمكن اعتبار كل الناس مثقفين أم فئة خاصة فحسب؟ وكيف يمكن تمييزها عن غيرهم من المتعلمين؟ وهل كل متعلم هو مثقف؟ من المعلوم أن سعيد يقسم المثقفين إلى نوعين: “الأول: يضم المثقفين التقليديين مثل المعلمين والكهنة والإداريين وهم الذين يستمرون في أداء ذلك العمل نفسه جيلًا بعد جيل، والثاني: يضم من يسميهم المثقفين المنسقين، وكان غرامشي يرى أنهم يرتبطون مباشرة بالطبقات التي تستخدم المثقفين في تنظيم مصالحها، واكتساب المزيد من السلطة والمزيد من الرقابة”. [8]
يظهر المثقف حينما وجد البعض الفرصة للتعبير عن آرائهم بحرية ولما اختار البعض الآخر مجادلة كبار الساسة والمفكرين ورجال الصحافة والإعلام ومقارعتهم بالحجة. من حيث الظاهر يزعم المثقفون أنهم يمثلون وزنًا اعتباريًا لجمهورهم وقيمة مضافة لشعبهم فإنه من حيث الباطن يمثلون أنفسهم لأنفسهم ويسعون للوصول لتحقيق مآربهم وهم الأقل نفعًا للناس والأكثر ضررًا للمصلحة المشتركة ولا يزنون شيئًا في العموم. من أجل ذلك يسعى المثقف إلى ممارسة السلطة وذلك بالتحالف مع رأسمال وبالتغلغل داخل جهاز الحكم والانتماء الحزبي والنقابي وبالتقرب من رجال الدين، وبالتالي يمكن التمييز بين المثقف العلماني الذي ينتصر للدولة المدنية والمثقف الداعي الذي يحبذ الدولة الدينية. على هذا النحو تبدو رسالة المثقف كما ضبطها سعيد متمحورة حول ادعاء امتلاك القوة والتضحية بالنفس عند المحن والاستعداد للمواجهة وإتقان فن المجادلة ومنطق التفنيد ولذلك فإن المثقفين “لا بدَّ أن يكونوا أفرادًا يتصفون بالكمال ويتمتعون بقوة الشخصية وقبل هذا كله، عليهم أن يكونوا دائمًا معارضين للوضع الراهن في زمانهم وبصورة دائمة” [9]. علاوةً أنَّ الصورة الأصلية للمثقف هي أن يكون فردًا قويًا مميزًا قادرًا على أن يصيح بالحق في مواجهة السلطة وأن ينتقدها كلما لزم الأمر بالكلمة العلنية والتحريض عليها. إذا كان جان بول سارتر قد نظر إلى المثقف العالمي الذي يحرر الشعوب ويدافع عن العدل أينما وجد الظلم والاستغلال، فإن ميشيل فوكو ينظر إلى المثقف المتخصص الذي يمثله الأكاديمي الذي يقوم بشغله داخل مخبره بإتقان وقادر على إفادة غيره إذا ما احتاج إليه. والحق أنه كلما قامت معارضة أو تفجرت ثورة إلا وكان المثقفون من يقف وراء ذلك لأنهم الأكثر قدرة على إلهاب مشاعر الجماهير وتحفيز الهمم وتحريك السواكن، “فلم يحدث أن قامت ثورة كبرى في التاريخ الحديث دون مثقفين وفي مقابل ذلك لم تنشب حركة مناهضة كبرى للثورة دون مثقفين، فلقد كان المثقفون آباء الحركات وأمهاتها” [10]. هكذا يطرح المثقف على بيئته التقليدية أسئلة محرجة ويرفض الجمود الفكري ويفصح عن قناعاته الغريبة ويتخذ موقفًا مختلفًا عن الرأي العام ويرفض استقطاب السلطة. من الضروري التوقف عند تمييز سعيد بين الاستشراق السافر والاستشراق الكامن واعتباره المستشرق هو مثقف سلطوي يسمح للثقافة الغربية بأن تمارس هيمنة على الثقافة الشرقية وتصدر بشأنها مجموعة من الأحكام المسبقة وتشرعنها باسم العلمية ويشير إلى اختطاف المستشرق لورنس للثورة التي قام بها العرب وتوجيهها لمصالح القوى الغربية الاستعمارية. “ولا تكتسب الثورة العربية معناها إلا حين يتولى لورنس تدبير معنى لها… وهنا يصبح المستشرق الصوت الذي يمثل الشرق وينوب عنه” [11]. فأي دور يضطلع به المثقف زمن الثورة؟ وكيف يتحرر من النظرة الاستشراقية؟
3- المثقف بين الالتزام والمخاطرة:
” أتحدث عن المثقف أو المفكر باعتباره شخصية يصعب التكهن بما سوف تقوم به في الحياة العامة ويستحيل تلخيصها في شعار محدد أو في اتجاه حزبي معتمد أو مذهب فكري جامد”[12].
يرفض المثقف الانزواء والانعزال والالتجاء الى الصمت والتجاهل ويكره الارتداد الى الوراء والنكوص النفسي والاستبعاد الاجتماعي ويأبى الجلوس على الربوة والتمتع بالفرجة كما يفعل البعض ويبادر بالتنديد والمعارضة والمواجهة ويتبنى خيار الاستماتة والثبات وموقف الممانعة عندما يتعرض الى التضييق والتوجس ويسعى إلى كسر الجدران العازلة المضروبة حوله وتخطي الحواجز وإبداء الرأي والمخاطرة بقول الحق والشهادة على العصر ونصرة المظلومين والمنبوذين وإثارة الحرج وإحداث الإرباك في النسق العادي والاستياء في الوعي المطمئن.
اذا ربطنا المثقف بالكاتب واعتبرنا مثقفًا كل من يسمي نفسه كاتبًا ويقول إنه كذلك فإننا نختار لفئة الكتاب طبقة المثقفين ونجعل المثقفين يشكلون جزءًا من الفئات الشعبية ونسمح للكتاب بان يضعوا خبراتهم على ذمة أصحاب رؤوس الأموال ومديري الشركات وندخل الثقافة عصر الخصخصة. في عصر الأزمات والتصحر الثقافي يتحول أنصاف المتعلمين إلى مفكرين ويتم الخلط بين الأكاديمي والكاتب ويتحول عدد كبير من الناس إلى مثقفين ومحللين سياسيين وتختار الدولة من الأنتيلجنسيا بعض الخبراء والمثقفين لتسويق إيديولوجيا والمشاركة في الدعاية والبروباغندا لها.
كما ينتج عن الرغبة في الجاذبية الساذجة والبحث عن الامتيازات المغلوطة السقوط في التبعية والاغتراب والنفاق والرعونة وإضفاء المشروعية وحجب الحقائق والتغطية على الوضع البائس.
يجد المثقف نفسه في وضعية قصوى فهو مطالب من جهة بالخروج عن الصف والصراع ضد مصالح وتوحش السلطة واستعمال كل الوسائل المنفرة والمشاركة في الحوارات الملغومة ولكنه مهدد بالفشل ومعرض الى الاحتواء والدمج والإسكات والإخماد والانقراض والطاعة الهادئة.
لا تقتصر مهمة المثقف بإعادة تجميع مكتسبات الماضي وإنتاج الأنساق المجردة بشكل فردي واختراع التصورات والبدائل وإنما بالتدخل الفعّال في الحركة المناوئة للسائد والمشاركة الفعلية في تحسين الأوضاع ومعارضة المألوف وتأجيج النزاعات المربحة بالنسبة للفئات المسحوقة.
“المواقف الرمزية التي يقفها المثقف أو المفكر بمعنى قدرته على التعبير للمجتمع عن قضية ما أو فكرة ما، لا ترمي في المقام الأول إلى تدعيم ذاته أو الاحتفاء بمكانته، ولا هي مقصود بها أساسًا خدمة الأجهزة البيروقراطية القوية لدى أصحاب العمل الأسخياء، بل إنَّ هذه المواقف الفكرية تعتبر في ذاتها نشاطًا مستقلً ، يعتمد على نوع من الوعي الذي يتشكك فيما حوله، ويتميز بالالتزام، ويكرس عمله دائمًا للبحث العقلاني والأحكام الخلقية، ومن شأن هذا أن يلفت النظر إليه ويعرضه الى الخطر معًا.”[13] لكن هل يقف المثقف مكتوف الأيدي أمام المحن التي يبتلى بها؟ وما العمل اذا ما تحول المثقف إلى أجير أو موظف في إحدى الشركات أو الأجهزة السلطوية؟ بماذا يتغلب على وضعية التهميش والشعور بالعجز والاحساس بالضياع والغربة في مجتمعه؟
4- مقاومة المثقف:
“يجب دائمًا على المرء أن يبدأ مقاومته من وطنه ضد السلطة كمواطن يمكنه التأثير”[14]
دور المثقف هو الإخلاص للمبادىء والتمسك بالمنهج والوفاء للحقيقة وضبط معايير الصدق والكذب والتصدي لواقع الشقاء والظلم ومقاومة مظاهر العنف وقوى اللاّتسامح والتعصب. من هذا المنطلق ليس مهمة المثقف تشكيل الرأي العام وقيادة الجماهير بل الانشقاق عن السلطة والتحريض على الفعل السياسي والنقد العلمي وفضح كل أشكال الاغتراب وتعرية كل مظاهر الاستغلال ومساعدة الناس على إيجاد الطرق الكفيلة بالانعتاق والوسائل اللازمة للتحرر والنماء. صحيح أن ظروف وجود المثقف صعبة وأوضاع عمله مضطربة ولكنه لا يتصرف بطريقة عشوائية ولا يتبنى الفوضوية كنمط للوجود في العالم وإنما يحمل مشروعًا مضادًا للسائد ويقوم بتنظيم عمله بطريقة عقلانية وممنهجة ويضع نصب عينه تفكيك السلطة المستبدة كهدف أولي. غاية المراد أن إدوارد سعيد يدعو إلى خيانة الخيانة التي يقترفها المثقفون تجاه قضايا أمتهم وذلك بعدم الاكتفاء بوصف تضاريس الساحة السياسية والقول بوعورة المشهد الاجتماعي وصعوبة الخروج من الأزمة والتأهب للاندماج مع القوى المنتفضة والاشتراك الفعال في المعركة واتخاذ موقف صائب تجاه الأحداث والتحلي بالشجاعة الكافية والصبر الضروري لإتمام ابلاغ الرسالة. “بالنسبة لنا، اعتبارنا الأخلاقي الأول الآن هو بذل كل طاقتنا لنؤكد أننا مستمرون رغم المعاناة الهائلة والدمار الذي فرضته الحرب الاجرامية علينا”[15]. بناء على ذلك لا يقتصر المثقف على التفهم الصحيح للواقع الاجتماعي المعقد ورؤية الأمور كما تتبدل من طور الى آخر والكشف عن القوانين التي تحرك التاريخ وإنما مقاومة السلطة التي تتحكم في مجرى الأحداث وتمنع التقدم والسماح لأسلوب غير تقليدي للحياة بأن يولد والزهد في تحقيق الأهداف الشخصية والحرص على إنجاح الانعتاق الجماعي من المعاناة ولذلك يرفض الموافقة والاستقرار ويعشق الترحال والاقامة في التخوم والهوامش ويخلخل المركز ويفكر خارج النسق ويتخطى الحدود ويحاول إدخال الاضطراب والزعزعة في الأنظمة المعرفية الثابتة والأطر الاجتماعية الناعمة. هكذا كانت الرسالة العلمية التي يجب أن يبلغها المثقف الأصيل عند إدوارد سعيد هو أن يبين للعالم الغربي خاصة والبشرية جمعاء أنَّ “الشرق ليس أعجوبة وحسب، أو عدوًا، أو فرعًا من فروع الغرائب، بل إنه واقع فعلي سياسي يتميز بثقل وزنه وأهميته الكبرى”[16]. عندئذ يدعو سعيد إلى الكف عن تصور العرب بأنهم قومية لا تجيد التفكير ومعادية للعقلانية وتمثل الآخر الهمجي وموضوع إشباع الرغبة المتخيلة وتبديل النظرة الى الإسلام فهو ليس دينًا لاإنسانيًا وعنيفًا وثقافته ليست عاجزة عن التجدد و بل يستطيع تطوير نفسه بنفسه[17]. كما ينادي بتغيير سياسة العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب وإحداث نقلة نوعية من الهيمنة والإلحاق والاحتواء إلى الاعتراف المتبادل والاحترام وإرساء تقاليد جديدة من الحوار العقلاني والتثاقف التوليدي وتبادل الخبرات العلمية وإجراء الدراسات الميدانية وتبني النظرة الموضوعية بحق. لكن كيف يسهم مجهود المثقف في تنظيم العمل السياسي بطريقة عقلانية؟ وأليس الكل مسؤول عن تحرير العقول والتسلح بالأمل؟ من أين يستمد المثقف التفاؤل والقدرة على التقدم إلى الأمام؟ خاتمة: يعتقد إدوارد سعيد أنَّ الثقافة والسياسة بالمعنى العام هما نفس الشيء وعلى اتصال كبير ويتبدلان الخدمات، إذ يمكن النظر إلى السياسة كثقافة والتعامل مع الثقافة كسياسة، فالأعمال السياسية هي أعمال فنية عظيمة وتؤدي وظيفة جمالية للشعب، والأعمال الثقافية هي أفعال سياسية وتؤدي وظيفة تربوية ومهمة نضالية في تدبير الشأن العام وتنظيم العلاقات بين الأفراد. ولكنه بعد ذلك يميز بينها بالمعنى الخاص ويعتبر الثقافة شكل في الحياة يغلب عليها الطابع الأرستقراطي والبرجوازي يمكن أن تفسده السلطة السياسية وينظر إلى السياسة على أنها ظروف وأحداث وتوافقات تميل معظمها إلى الواقعية واليسار الاجتماعي وتكرس شجاعة القول وتفاؤل الإرادة. رأس الأمر أن المثقف الأصيل هو الشاهد على العصر الذي يستخدم أسلوبًا سهلًا ولغة واضحة ويستند على معلومات دقيقة وأرقام صحيحة وقرائن ثابتة وذلك بعد تحرره من الأوهام وتبحره في العلم وتوجهه نحو إيقاظ الوعي الديمقراطي عند المواطنين وتحسيسهم بأهمية المشاركة في إدارة شؤون مدينتهم والتدخل في الفضاء العام والتنديد بالهوة السحيقة التي تفصل بين الناس. غاية المراد أن إدوارد سعيد يسند إلى المثقف مهام التطوير والتدخل الثقافي في الأوضاع الاجتماعية والسياسية ويوكل إليه ثلاثة مهام أساسية هي: – مقاومة اختفاء الماضي بإعادة صياغة التقاليد وبناء التاريخ بشكل مهذب وتوظيفه في الصراع . وبالتالي الاقرار بأنَّ “دور المثقف أولًا هو أن يقدم سرودًا مختلفة ومناظير أخرى للتاريخ غير تلك التي يوفرها المولعون بالقتال لصالح الذاكرة الرسمية “[19]. – تشييد ميادين للتعايش والتعاون بدلًا من ميادين الاحتدام والتنابذ كحصيلة للجهد الفكري. – التأكيد على قيمة المساواة لتحقيق السلام والتكافؤ بين الأفراد في الحقوق وإعادة توزيع الثروات ومقاومة التراكم الهائل للسلطة ورأس المال[20]. هكذا تكمن الوظيفة العمومية للمثقف في الإقامة في الحقل السياسي والاجتماعي المحفوف بالمخاطر وبذل الجهد من أجل فهم ما تعذر فهمه والتجرؤ على الخروج للمحاولة ثانيًا. كما أنَّ الالتزام السياسي من قبل المثقف يجعله صادقًا مع نفسه، مخلصًا لأفكاره ومنتميًا الى عصره. ربما يكون أفضل درس يقدمه المثقف للإنسانية جمعاء هو التذكير بما تم تجاهله وتناسيه ومشاهدة صورة أوسع نطاق مما ترسمه السلطة والإشارة إلى طرائق عمل بديلة وفتح المغاليق وفتح الآفاق وإبصار الأحداث “لا في وضعها الراهن بل من حيث تحولها الى ما تؤول إليه”[21]. لكن هل تملك حضارة إقرأ المثقفين القادرين على اقتلاع مرض التسلط من جذوره؟ ألا ينبغي أن تتم علمنة الداعية والفقيه وخلع القداسة عن كهنة اللاهوت حتى يولد المثقف كقرار ثقافي خطير؟
“إن دور المثقف عمومًا جدلي ومتناقض وهو أن يكشفوا ويوضحوا الصراع… وأن يقهروا الصمت المفروض بالقوة والهدوء المطيع للسلطة الخفية أينما كانت وكلما كان ذلك ممكنًا”[18]