أدب وفلسفة

التأويل والاستنطاق الفلسفي لنظرية التطور(2)

خالد تورين

أولي الدروس والموعظة الفلسفية الحسنة المستفادة من نظرية التطور، هي أن الوجود واحد على الرغْم ما يبدوا ويظهر علي أنه متعدد ومتنوع _ الوجود يرتبط بأصل واحد رغما لأفرع اللانهائية.
وكذا حال الحياة فهي تبدوا متنوعة ومتشعبة ولكنها ذات اصل وفصل وجذر واحد. الحياة والوجود تبديان خلاف ما يبطنان. يتم بطن الواحد الأحد ويظهر الكثير المشترك. ما يبدو مشتتاً فاقداً للانسجام يكون في العمق منسجماً ومتناغماً، وما يبدوا متناحراً ومتصارعاً يكون في الباطن متكاملاً ومتعاوناً.
فالأساس الفلسفي لنظرية التطور تكون كامن في مفهوم وحدة الوجود، وتكون فكرة وحدة الوجود في أن الوجود واحد من حيث أنه النوع والكثرة والعدد والمقدار الكمي، وعليه فأن الاختلاف تكون اختلافا للمقدار والنسب والتناسب، وتكون الاختلاف في طريقة التشكيل والتكوين والصير، ولكن تكون واحد ومتحد من جهة الهوية والماهية والنوعية. فمفهوم وحدة الوجود تقرر سلفاً الانقسام والتشظي والانشطار الوجودي إلى ظاهر يكون هو المخفي وقد ظهر، وباطن يكون هو الظاهر وقد بطن. فليس من العبث أن يسمي داروين كتابه الرئيس(اصل الأنواع)، أي وحدة الأنواع المختلفة، أي أن الأنواع واحدة من جهة تنوعها واختلافها في الآن ذاته. فتكون مفهوم وحدة الوجود نفياً وعلي النقيض من الخلق والتكون والإيجاد المنفصل، أي إن لا شئ يكون قار ولوحده، والأهم من ذلك لا شئ في الخارج، فالخارج هو الداخل ذاته وقد خرج، والداخل يكون هو ذات الخارج وقد دخل. ثَمّ تكون الأرض هو السماء وقد وطئ، والسماء هو الأرض ذاته من جهة سموه وعلوه؛ وعلي هذا الأساس يكون لا فرق مطلقاً بين الفاعل (الخالق) والمفعول (المخلوق)، إلاّ فرق النسبة والمقدار والدرجة ولكن النوع والكيفية هي ذاتها في كل مرة. وتكون علي النقيض من مفهوم الخلق المنفصل الذي يجعل الفاعل(خارج) الخلق والوجود، أي أنه مفارق الوجود وليس محايثاً له. فالمفارق والمتعالي وقفاً لفكرة وحدة الوجود يتشكل في كل مرة ويتكون علي مقدار تشكل الموجودات والخلائق (كل يوم هو في شأن وحال)، فهو بالذات يوجد ويكون مع وجود كل موجود، وتكون هويته هو اللاهوية، وماهيته الحركة والتشكل والتنويع اللانهائي، وإلا فلا وجود. بينما تكون فكرة الخلق والوجود علي الشكل المنفصل (الفصل بين الكائنات وكينونتها أولا) ثم الفصل بين الكائنات فيما بينها ثانية؛ وهذا ما يجعل مفهوم الخالق هو مفهوم متعالي وجوهر فرد _ صمد لم يلد ولم يولد _ منكفئ علي ذاته، كامن، خامل لا يتحرك ساكناً. تكون هويته قد وجد مرة والي الأبد لا يتأثر بما ابدعه وبارعه، أي لا يتغير (ضد فكرة كل يوم هو في شأن)، ومن هنا يبدوا غريباً وبعيداً عن الموجودات(الخلق)، قاهراً ومتجبراً علي عكس ما يكونه الفاعل(الخالق) المتصل (وحدة الوجود) فهو الرحمن والرحيم، وقد وسعت رحمته كل شيء، ذاك لوجوده في كل شيئ ولا شئ غيره، ولا هنالك غير هو، فلا هو إلا لأن لا هو، وتكون غيره لا شئ غير هو، وعليه تكون الخالق هو الحركة والصيرورة (النشوء والفساد)، وبالتالي هو الذي يتجلى باستمرار ويفيض دائماً، وكريم في كل مرة وحميم وخاص، وشعوري وقريب في كل الأوقات. ففي هكذا فكرة يُعرف الخالق (المتعالي) ويدرك حق المعرفة وحق إلا دراك بالذوق والإحساس والحب والكيمياء، يعرف بالصمت قبل النطق، والبصيرة قبل البصر، بالشفرة والكود والرمز والإيماءة قبل البوح والإفصاح والتعبير، أي بالإشارة قبل العبارة. إذاً في فكرة ومفهوم الخلق المتصل فقط وليس المنفصل تكون علاقة الخالق بالخلق كيمياء عناصر وليس فيزياء عناصر، علاقة رحم وليس الثدي، وهذا ما يجعل الخلق نسبي ويكون في كل مرة؛ فليس الخلق والكائنات كانت منذ الأبد وأنتهي أمز كونها وخلقها مرة واحدة في الزمان والمكان، وإنما يكون الخلق في كل مرة وفي كل لحظة يتجدد بشكل دائم ومستمر، ستصيرن ويتكون ويتحرك ولا يسكن وتجوهر ويقر. فماهية الخلق هو التشكيل والتكوين المستمر والبعث الدائم والولادة اليومية، والبدء الدائم والتدشين في كل مرة. فلا خلق وقد تقادم وانتهي منذ الأزل، وإنما الخلق بدأ ولم ينتهي، مستمر منذ البدء ولأزال التدشين قائم ويكون إلى اللحظة.
فمفهموم وحدة الحياة والكائنات في نظرية التطور لا يقف عند حد اصل الكائنات الحية فحسب، وإنما يمتد إلى ما وراء ذلك لتقول لنا بأن المادة الحية (العضوية) ذو أساس واصل واحد مع المادة غير الحية(الغير عضوية). بمعني أن خميرة الحياة وجرثومتها نشأة من اللاحياة، فالعضو هو نتيجة اللاعضوء. فعندما يعتقد حسب الدراسات العلمية والحدس والتأملات الفلسفية والرؤى الدينية والأسطورية في أن الحياة وقد نشأة في الماء أو أن الماء أساس كل كائن يحيا، فذلك يؤكد بأن عنصر الماء هي خميرة الحياة علي الرغم أنها ليست ضمن الكائنات الحية، فهو أساس كل الكائنات الحية والعضوية علي الرغم من لا عضويتها ولا حيويتها. ففي القرآن “وجعلنا من الماء كل شيء حي” (وكان عرشه علي الماء)، وكذا حال التوراة وأساطير سومر وبابل ومصر وفينية، علي أن الماء هو أساس كل حي ونقطة بداية الحياة، ولا يفوتنا بأن أول فيلسوف مصنف حسب العرف الفلسفي السائد جعل نظامه الفلسفي كُلََّه مبني علي فكرة أن الماء أساس الوجود، فهو الأساس الميتافيزيقي الأول الذي منه صدر كل الموجودات منه وإليه تكون الوجود، فكل شيئ وفقاً لطالس هو الماء عينه. فالأديان والأساطير والفلسفات علي الرغم من افتقارها إلى منهج التجريب والاختبار ولكنها استنتجت وفهمت من خلال الحدس التأملي ما وصل إليه العلم الحديث وذهب ذات المذهب، في أن الماء بدء الحياة.
فالماء تكون رمزاً للتجدد والحيوية وبالتالي رمزاً وإشارة إلى التوالد والتكاثر. ومن هنا فقط نفهم كيف أن الكائنات الحية داخل الماء(الإنهار _ والبحار _ والمحيطات) أكثر وأكثف بما لا يقارن من وجود الحياة في اليابسة. وهل بالإمكان فهم الحياة وتعريفها بشيء آخر غير أنها التجدد والحيوية والنشاط والنزوع والاندفاع والزخم وبالتالي التوالد والتركيب والتعقيد مما يقود إلى الاستقلالية والإحساس والذاتية والانفصال والتميز والبعد والمسافة وبالتالي الحرية تكون. وهل يمكن فهم الحياة ومعناها بعيدة عن مفهموم الكون والفساد _ الانبثاق والزوال _ الظهور والخفاء، وبالتالي لا يمكن فهم الحياة دون فهم الموت، بما أن الحياة هي موت بما هي تغير وتجدد وولادة مستمرة.
إذاً وفقاً للخيال والأسطورة العلمية فإن الماء مضافاً إليه العناصر الثلاثة(الهواء _ التربة _ النار) هي بذور شجرة الحياة، فإذا وجد الماء وغاب الهواء بنسبه معينه وغاب النار والتربة بنسبه فلا وجود ولا حياة. إذاً فالماء بماهو رمز التجدد الدائم والتغيير والصيرورة المستمرة فإنها حضن الحياة ودفئها ورحمها، فتكون النار طاقتها التي بدونها لا تخطوا الحياة خطوة واحدة، فتكون الهواء هي النفس الذي يجعل مساحة الحياة وفضاءها ممكن. فتكون التربة هي جسد الحياة التي خلالها تتجسد الحياة وتتعين. فليس من العبث في أن الأسطورة قد نطقت بأن الإنسان خلق وكان من طين (تربة) لازب.
إذا الخلفية التي من خلالها تطل الحياة هي اللاحياة، والحياه يحجب أساسه ويخفي جذوره، مثلما أن الشجرة يظهر الساق والورق والفروع والزهور والثمار ويواري أساس كل ذلك عن النظر وهو الجذور والبذور. إذا من كل ذلك تكون في الحياة وحدة مثلما أن في الوجود وحدة ولكنها وحدة مستترة وخفية وفي ذات الوقت عميقه، ومن ذلك فقط نفهم بأن الحياة تكامل وتبادل علي الرغم من التفاضل والتميز والشقاق والخصام.وأيضا تكون الحياة تركيب وتعقيد، فيها الحيوية والنشاط والإبداع والخلق، فيها الصيرورة وبالتالي تكون هي الموت والفناء والفساد من جهة إنها تحلل وتعفن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى