
نحو مشروع وطني سوداني ثلاثي الأبعاد من أجل السلام والانتقال المدني الديموقراطي النهضوي: ثانياً، إنهاء الحرب وبناء السلام المدني الديموقراطي(2-3)
بروفيسور إبراهيم أحمد البدوى عبد الساتر
3. استحقاقات إنهاء الحرب وتحقيق السلام المدني الديمقراطي:
نحو سلام “تشاركي” مستدام
تأسيساً على استعراض تجارب بناء السلام المأزومة في السودان، نحاجج في هذا القسم بأن أهم الدروس المستفادة منها هو أهمية اعتماد منهج السلام “التشاركي” الواسع، الذي بالضرورة لا يستثنى أصحاب المصلحة من مكونات المجتمع المدني العريض، بل يتوجب أن يكون لهذا المجتمع القدح المعلى في أي عملية سلام مستدام. أكثر من ذلك، سنحاجج أيضاً بأن هناك حاجة لعملية أممية متعددة الأبعاد لدعم مشروع وازن للانتقال المدني الديموقراطي، تعمل تحت اشراف سلطة، مدنية انتقالية تحظى بإجماع شعبي وجبهوي واسع.
3.1 نحو سلام “تشاركي” مستدام في السودان:
يتبنى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مفهوم “السلام المستدام”، والذي يعرف بأنه “بعد التفاوض على السلام أو فرضه، المحاولة الجادة لمعالجة مصادر العداء الماثل وبناء القدرات المحلية لحل النزاعات”. ويرتكز مفهوم السلام هذا على “قدرة الدولة ذات السيادة على حل النزاعات الطبيعية التي تكون جميع المجتمعات عرضة لها بوسائل أخرى غير الحرب” (دويل وسامبانيس، 2000: ص 3). وبالتالي، يشمل هذا التعريف الشامل الحاجة إلى بناء المؤسسات والأُطر والإمكانيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تضمن التسوية السلمية للنزاعات، أي منع تصاعد النزاعات في المستقبل إلى حرب. إن التعبير التجريبي لهذا المفهوم هو ما يسميه دويل وسامبانيس (2006) “السلام التشاركي”، والذي ينطوي على إنهاء الحرب، وعدم وجود عنف متبقٍ كبير، وسيادة غير مجزأة، وحد أدنى من الانفتاح السياسي. ونموذجهم المعياري لتحليل احتمالات السلام هو ما يسمى “مثلث بناء السلام”.
ووفقاً لهذا النموذج، يتناسب احتمال نجاح بناء السلام طردياً مع مساحة مثلث بناء السلام – وأضلاعه الثلاثة هي مستوى العداء السائد في بداية عملية السلام؛ والقدرات المحلية على التعافي والتنمية بعد الحرب؛ والقدرات الدولية الداعمة لبناء السلام. الفكرة الرئيسية وراء نموذج مثلث بناء السلام هي أن عنصر الكفاءة الدولية يمكن أن يخفف من الآثار السلبية لارتفاع مستوى العداء وانخفاض القدرات المحلية. وعلى وجه الخصوص، فإن دور عملية بناء السلام متعددة الأبعاد التابعة للأمم المتحدة والمجهزة تجهيزاً كاملاً والمفوضة بشكل كافٍ سيكون حاسماً. ومن المناسب التشديد على أن العمليات التي نحن بصددها لا تسمح بالتدخلات الخارجية الأحادية غير المحايدة من جانب فرادى البلدان، حيث أن عمليات الأمم المتحدة المناسبة لبناء السلام تعمل بموجب ولاية صارمة للغاية تضمن الحياد والنزاهة والتبعية لسيادة البلد المعني (الصندوق (1)).
لقد تم استخدام عدة محددات لتمثيل الأضلاع الثلاثة لمثلث بناء السلام. هناك مؤشران يعكسان مدى انعدام الثقة في المجتمع المتأثر بالحرب. أكثرهما وضوحاً هو عدد القتلى والنازحين، والآخر هو ما إذا كانت الحرب ذات طبيعة هويوية تضع مجموعات دينية أو اثنية أو ثقافية محددة ضد بعضها البعض. وعلى عكس الحروب العقائدية التي تتقاطع مع الهويات، من المرجح أن تكون النزاعات الهويوية أكثر تدميراً للتماسك الاجتماعي والثقة بين المجتمعات. فيما يتعلق بالكفاءة المحلية يتم النظر في عدة مؤشرات، مثل نصيب الفرد من الدخل أو التحصيل العلمي أو مستوى استهلاك الكهرباء للفرد. من المرجح أن يحقق المجتمع المتضرر من الحرب الذي يتمتع بكفاءة محلية عالية انتعاشاً اقتصادياً قوياً في مرحلة ما بعد النزاع خلال وجود قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وهذا بدوره من شأنه أن يعزز احتمالات السلام المستدام بعد انتهاء عملية الأمم المتحدة.
ولسوء الحظ، حتى بمعيار مجتمعات ما بعد الحروب، يتسم السودان بانخفاض الثقة بين المجتمعات والتماسك الاجتماعي وكذلك انخفاض الكفاءة المحلية. وكما رأينا بالفعل، مقارنةً بالحروب الأهلية السابقة في السودان وأماكن أخرى، فإن حجم الموت والنزوح والدمار الذي أحدثته هذه الحرب لم يسبق له مثيل، حيث بلغ المتوسط الشهري للضحايا منذ بدء هذا الصراع أكثر من 30 ضعف المتوسط الشهري لعدد القتلى في البلاد التي شهدت حروباً أهلية في الماضي القريب . وهناك بالفعل دلائل على أن الحرب قد زادت من حدة الاصطفاف الهويوي في المجتمع السوداني والذي أصلاً ظل يعاني من التشرذم والاستقطاب المجتمعي، خاصة خلال فترة حكم نظام الإنقاذ (البدوى، 2024أ؛ البدوى والحلو، 2023). عليه، فقد أشعلت هذه الحرب الغرائز البدائية المثيرة للانقسامات الهوياتية ، و”سلحت” وسائل التواصل الاجتماعي على أسس عرقية وجهوية. كما غذت هذه الحالة الذهنية أيضاً حملة التجنيد على أسس عرقية إلى حدٍ كبير، مما أدى إلى زيادة انخفاض رأس المال الاجتماعي المتدني أصلاً في البلاد، والذي صُنّف عالمياً ضمن أدنى ثماني درجات في عام 2023 (الشكل 1).
الشكل 1: مؤشر وترتيب رأس المال الاجتماعي في السودان:
ملاحظات:
1. يقيس مؤشر رأس المال الاجتماعي: الصحة والأمن والحرية والمساواة والرضا عن الحياة داخل البلد.
2. المصدر: تم الحصول على البيانات المتعلقة بدرجة رأس المال الاجتماعي وترتيبها من مؤشر التنافسية العالمية المستدامة لعام 2023 : (https://solability.com/the-global-sustainable-competitiveness-index/the-index)
وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن الأطراف الرئيسية لا تزال القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، فإن بعض المليشيات التي وقعت اتفاق جوبا للسلام وانضمت لاحقاً إلى الحكومة الانتقالية قد انحازت إلى جانب طرفي النزاع، حيث دعم بعضها القوات المسلحة السودانية وانضم البعض الآخر إلى قوات الدعم السريع. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى زيادة تعقيد آفاق بناء السلام. فبحسب صحيفة الإندبندنت العربية التي أجرت تحقيقاً حول الحركات المسلحة ، “مع اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” في منتصف أبريل 2023 أعلنت بعض الحركات المسلحة الانحياز إلى الجيش وقررت أخرى التزام الحياد، وبعد نحو أسبوعين من بدء القتال شكلت حركات دارفور الرئيسة الأربع قوة مشتركة لحماية المدنيين في الإقليم. تشهد الحركات المسلحة في السودان حالة من التشظي والانقسامات بسبب مواقفها من الحرب الدائرة بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، فبعد أن تبنت مبدأ الحياد عقب اندلاع الحرب، فإنها بعد مرور أكثر من سنة عادت حركات عدة للانحياز إلى جانب الجيش السوداني، فيما بقيت أخرى عند موقفها الحيادي، وهو ما عرضها لهزات وانقسامات داخلية كبيرة.”
لقد عبر المفكر والسياسي السوداني دكتور إبراهيم الأمين في مبحثه القيم الموسوم “هل من أمل” (2024: ص 3) عن مدي تدهور رأس المال الاجتماعي في سياق الانحطاط الذي أصاب الخطاب السياسي والمجتمعي السوداني خلال الفترة الأخيرة من مسيرة البلاد:
“غياب العقول أو تغييبها وانسداد قنوات الحوار يعني فتح الأبواب لمزيد من العنف والتطرف والدعوة لنشر قيم جديدة تدعو للعنف والعنصرية، تمجد القبيلة كبديل للهوية الجامعة لكل أهل السودان. والحديث عن كيانات أفضل من غيرها وعن سمو ثقافة على أخري، ثقافة لها الغلبة لذلك يجب أن تسود على حساب الثقافات الأخرى. ربما لهذا السبب تغيرت لغة الساسة ودعوتهم للوحدة ونبذ القبلية في أربعينيات القرن الماضي إلى لغة لها طابع منفر وعنصري يدعو لفرض إرادة بعض القبائل وبقوة السلاح، لا على القبائل الأخرى فحسب بل علي الدولة التي فقدت هيبتها ودورها.”
وفى إشارة إلى أن سيكولوجيا العنف قد أصبحت تأخذ طابعاً أيدلوجياً متطرفاً، إضافة إلى العنف الغرائزي المرتبط بتفاقم الانشطارات الهوياتية والولاءات دون القومية في سياق هذه الحرب، فقد دق السياسي والكاتب الصحفي السوداني الأستاذ صلاح جلال ناقوس الخطر في ورقة بحثية هامة “حول – سيكولوجيا العنف وأبناء الفوضى – يعبدون الطريق للحرب الأهلية الشاملة” (مايو، 2024)، حيث قطع بأن:
“إن انتشار العنف الأيديولوجي المتطرف الذى يرافق الحروب الأهلية مع وجود دولة هشة فاقدة لأدوات السيطرة، هذا الواقع إذا لم تتم معالجته بحكمة سينتهي لحرب أهلية شاملة حرب الكل ضد الكل تختفي فيها الدولة بمفهومها الدستوري ومؤسساتها القانونية وتتحول لمليشيا في مواجهة مليشيات أخرى، السودان اليوم يعيش مشروع فتنة كبرى تجعل وجوده في خطر حقيقي أخشى أن نقول كان لنا وطن اسمه السودان إذا لم يتصدى العقلاء بأسرع ما يكون لسُحُب المخاطر التي بدأت تمطر على رؤوس المواطنين.”
وفيما يتعلق بالكفاءة المحلية، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي في السودان أقل بكثير من متوسط البلدان ذات الدخل المنخفض والشريحة الدنيا من الدخل المتوسط (الشكل 2) وهو من بين البلدان الأفريقية العشرة التي تضم أكبر عدد من السكان الذين لا يحصلون على الكهرباء في عام 2021 (الشكل 3). كذلك بحسب مؤشرات التنافسية المتعددة الأوجه يحل السودان في المجموعة الدنيا من الدول مقارنة بالمتوسطات العالمية (الشكل 4).
الشكل 2: الناتج المحلي الإجمالي للسودان مقارنة بالبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل:
ملاحظات:
1. مصدر البيانات هو مؤشرات التنمية العالمية https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.PCAP.CD?end=2022&locations=SD-XO&start=1960.
2. يعرض الرسم البياني أعلاه نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مقيساً بالدولار الأمريكي في السودان وفي البلدان القليلة ومتوسطة الدخل.
وفي ظل هذا الرأسمال الاجتماعي البائس والقدرات المحلية المتدنية، فإن عملية ناجحة لإنهاء الحرب وبناء السلام في السودان بلا شك تتطلب “كفاءة دولية” قوية، وهي الضلع الثالث من مثلث السلام. وقد تم تفسير ذلك في الأدبيات بعدة عوامل، بما في ذلك ما إذا كانت الحرب قد انتهت نتيجة لمعاهدة سلام أم لا، وما إذا كانت قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة قد شاركت أم لا، وما إذا كان تفويض الأمم المتحدة لعملية حفظ السلام محصورة فقط في الرصد والإبلاغ أم أنها عملية موسعة. علاوة على ذلك، فإن ارتفاع نصيب الفرد من المساعدات هو مؤشر آخر على الكفاءة الدولية. وتخلص هذه الأدبيات إلى أن الحروب التي تنتهي بمعاهدة سلام من المرجح أن تحقق نتائج ناجحة في بناء السلام لأن المعاهدات تعكس إرادة المشاركين في الحرب لإنهاء نزاعهم العنيف. بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن يرتبط نجاح بناء السلام أيضاً بعمليات حفظ السلام متعددة الأبعاد. فبالإضافة إلى حفظ السلام الأساسي، فإن هذه العمليات مكلفة أيضاً بالاضطلاع بمهمة إنفاذ السلام فضلاً عن تدابير بناء السلام على المدى الطويل التي تهدف إلى تحقيق التحول الديمقراطي والأهداف التنموية الملموسة، مثل معالجة الفقر والتفاوت الاقتصادي، لا سيما التفاوت الأفقي على أسس جهوية أو هويوية (دويل وسامبانيس، 2000).
الشكل 3: البلدان التي تضم أكبر عدد من السكان الذين لا يحصلون على الكهرباء في أفريقيا في عام 2021 (بالملايين):
ملاحظات:
1. المصدر: تم الحصول على هذه البيانات من موقع Statista ونشرها دوريس دوكوا ساسو، 3 يوليو 2023.
2. يعرض الرسم البياني البلدان في أفريقيا التي تضم أكبر عدد من السكان (مقيسًا بالملايين) الذين لا يحصلون على الكهرباء في عام 2021.
الشكل 4: القدرات المحلية الإجمالية للسودان مقارنة بالمتوسط العالمي:
ملاحظات:
1. المصدر: يمكن الحصول على بيانات مؤشر التنافسية العالمية المستدامة من الرابط أدناه https://solability.com/the-global-sustainable-competitiveness-index/the-index
2. يقيس مؤشر التنافسية العالمية المستدامة (GSCI) القدرة التنافسية للبلدان على أساس 190 مؤشراً كمياً قابلاً للقياس مستمدة من مصادر موثوقة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووكالات الأمم المتحدة المختلفة. تم تجميع المؤشرات الـ 190 في 6 مؤشرات فرعية: رأس المال الطبيعي، وكفاءة الموارد وكثافتها، والتماسك الاجتماعي، ورأس المال الفكري، والاستدامة الاقتصادية، وكفاءة الحوكمة.
باستخدام نسخة محدثة من مجموعة بيانات دويل وسامبانيس وتطبيق استراتيجيات تقدير مختلفة لتحليل الآثار قصيرة وطويلة الأجل لبعثات الأمم المتحدة للسلام، أختبر بروفيسور نيكيلس سامبانيس متانة نتائج النسخة الأولى من الأدبيات الواردة (سامبانيس، 2008)، حيث أيد معظمها مع بعض التحفظات المهمة. تحديداً خلُص سامبانيس إلى أنه في حين أن بعثات الأمم المتحدة فعالة في تنفيذ الاتفاقات وتعزيز السلام والديمقراطية التشاركية ذات القاعدة العريضة، إلا أن تأثيرها يميل إلى التلاشي على المدى الطويل بعد انتهاء البعثة. وتتمثل الفكرة الرئيسة وراء هذه النتيجة المهمة في أن تجنب الانتكاسات بعد انتهاء النزاع والحفاظ على السلام على المدى الطويل يتطلب نمواً اقتصادياً قوياً ومستداماً، يؤدى إلى ظهور طبقة وسطي وازنة، عابرة للهويات المجتمعية الفرعية. ومع ذلك، على الأقل حتى وقت قريب، كانت بعثات الأمم المتحدة مصممة كمشروع سياسي مع القليل من الاهتمام بالتحول الاقتصادي الهيكلي كعنصر أساسي في عملية بناء السلام. وعلاوة على ذلك، فإن النمو ليس محركاً رئيساً للسلام المستدام فحسب، بل هو أيضاً من أهم روافع الديمقراطية المستدامة .
4. ملامح المشروع الوطني لبناء السلام المستدام والانتقال المدني الديموقراطي النهضوي:
يتعين على مشروع البناء الوطني معالجة تحديين محوريين استعصى كلاهما على التحولات الديمقراطية السابقة في البلاد. فعلى الصعيد السياسي، أدى الفشل في إدارة التنافس بين القوى الديمقراطية في أعقاب نجاح الثورات إلى هشاشة وضعف الحكم الديمقراطي وفتح الباب على مصراعيه للانقلابات والأنظمة الاستبدادية التي حكمت البلاد لحِقب طويلة. وعلى صعيد متصل، أدى الفشل في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية تحولية وعادلة إلى ترك البلاد في حالة من الفقر والحرمان، وهو ما أصبح بدوره السبب الجذري للحروب الأهلية والانقلابات وعدم الاستقرار السياسي. يشكل هذان الإشكالان في المشروع الوطني السوداني قلب “المتلازمة السودانية” الكارثية، المتمثلة في الديمقراطيات الهشة قصيرة العمر، والتي كانت فرائساً سهلة للانقلابات العسكرية المفضية إلى أنظمة استبدادية متطاولة، والتي بدورها أُطِيح بها في نهاية المطاف بواسطة الانتفاضات الشعبية العارمة، ممهدة الطريق لانتخابات حرة ومن ثم ديمقراطية هشة أخرى مهيأة لانقلاب جديد، وهكذا دواليك .
عليه، تتطلب معالجة هذين الإخفاقين عقداً اجتماعياً شاملاً، يأخذ في الحسبان بعدي السياسة والاقتصاد في المشروع الوطني. أيضاً، فإن تحدي بناء توافق حول المشروع الوطني والعقد الاجتماعي المستند إليه في ظل حالة الإحباط وتنافر الرؤي جراء هذه الحرب الكارثية يتطلب سردية وطنية متينة وفعالة للملمت شعث الوطن وترميم لُحمَة الانتماء القومي الجامع. نستعرض فيما يلي هذه القضايا تباعاً.
4.1 العقد الاجتماعي:
برأي هناك ثلاث قضايا محورية في هذا المضمار يتوجب على العقد الاجتماعي مخاطبتها، تتعلق بطبيعة النظام السياسي؛ النظام الفيدرالي ومستويات الحكم؛ و”الشرعية الاقتصادية” كشرط لازم لاستدامة السلام واستقرار النظام الديموقراطي.
أولاً، لعل من أكثر القضايا المحيرة هي لماذا فشلت النخب السودانية في التَعلُّم من التجارب المخيبة للآمال للحكومات الائتلافية البرلمانية المنقسمة وغير المستقرة في ظل ديمقراطية وستمنستر، والتي تبنتها النخب المتلاحقة بشكل أعمى ولم تفكر ولا زالت في أنظمة سياسية بديلة قد تكون أكثر قدرة على التكيف مع الاستقطاب الاجتماعي والسياسي المتأصل الذي كان عليها أن تتعامل معه. وعلى الرغم من أن النظام الرئاسي الأوتوقراطي كان كارثياً على البلاد، إلا أنه قد يكون أفضل بكثير في ظل الديمقراطية. وعلى وجه الخصوص، قد يكون النظام الرئاسي – البرلماني المختلط مع مجلسين تشريعيين أكثر ملاءمة للسودان. إن التعايش بين رئيس منتخب شعبياً ورئيس وزراء منتخب بالأغلبية البرلمانية الذي يفرضه هكذا نظام، كما هو الحال في النظام الفرنسي مثلاً، يحقق التوازن الصحيح بين الاستقرار السياسي الذي تشتد الحاجة إليه من جهة، وتقييد السلطة الرئاسية من جهة أخرى. أيضاً، يوفر هذا النظام قسمة فعالة للصلاحيات بين الرئيسين، حيث عادة ما يُسند لرئيس الدولة الصلاحيات السيادية العليا مثل السياسة الخارجية والإشراف على القضاء والقوات النظامية.. إلخ، بينما يتولى رئيس الوزراء السياسات الداخلية مثل إدارة الاقتصاد وشئون الحكم الاتحادي.. الخ. وعلاوة على ذلك، فإن الهيئة التشريعية المكونة من مجلسين على غرار النظام السياسي الأمريكي لا شك ستساهم في مأسسة التوازن بين الأقاليم على مستوي السلطة المركزية. فوفقاً لهذا النظام، ستكون الأقاليم ممثلة بالتساوي في غرفة المجلس الأعلى، وبما يتناسب مع حصتها من إجمالي عدد سكان البلاد في المجلس الأدنى. فبينما يكون مستوى تأثير الأقاليم متساوياً في الغرفة العليا صاحبت القرار في التشريعات والإشراف السيادي، مثل إجازة تعيين قضاة المحكمة العليا، تكون نسبة التأثير في الغرفة الدنيا للأقاليم ذات الكثافة السكانية العالية، مثل دارفور والخرطوم والأوسط وكردفان.
ثانياً، معالجة الإرث الفيدرالي الكارثي لنظام الإنقاذ البائد تعتبر أيضاً من أهم استحقاقات الشق السياسي للعقد الاجتماعي. لقد عمد ذلك النظام إلى تأطير خارطة التنوع الاثني-الجغرافي الكبير للسودان الشمالي في سياق 18 ولاية كقاعدة للحكم الاتحادي ضمن استراتيجيته لبناء قاعدة شعبية على أساس الزبائنية السياسية بين مركز السلطة في الخرطوم والنخب القبلية في هذه الولايات وتدمير القواعد الشعبية للأحزاب التاريخية العابرة للولايات. كما يبين الشكل (5) أدناه، فإن هذه الولايات قد أصبحت بؤراً للاستقطاب والنزاعات القبلية في سياق الصراع من أجل النفوذ والريع المترتب عليه. علاوة على ذلك فقد ولّد النظام الحالي – الذي يضم 18 ولاية وأكثر من 500 محلية – بيروقراطية غير عملية وليست ذات ملاءة مالية لتقديم الخدمات العامة الأساسية الموكلة إليها، مثل المياه النظيفة والكهرباء والتعليم. وتتطلب تلبية هذه الأولويات الاستثمار بشكل خاص في تطوير نظام فيدرالي مالي يمكّن المحليات والولايات من زيادة مواردها من أجل التنمية المحلية. في هذه السياق نرى أنه يمكن تقديم حجة قوية بإلغاء هذه الولايات والعودة إلى نظام الحكومات الإقليمية الست الأصلية – دارفور وكردفان وشرق السودان والخرطوم والنيل الأزرق وشمال السودان، مع ترشيق المحليات وحصرها على المدن الكبرى وأريافها في كافة الأقاليم . إذا تم التوافق على ثلاث مستويات للحكم: اتحادية، إقليمية ومحلية حول المدن الكبرى، نحاجج بأن هذا النظام الفيدرالي المقترح سيكون رافعاً هاماً لمشروع اقتصادي نهضوي يستند الى المدن المنتجة ومحاور النمو حولها لإحداث تحولاً هيكلياً في القطاع الزراعي السوداني الغني والمتنوع، والذي كان ولا يزال الركيزة الأساسية للاقتصاد السوداني .
ثالثاً، ومع ذلك، وعلى الرغم من أن إعادة الهيكلة المقترحة لنظام الحكم السياسي خطوة ضرورية، إلا أنها ليست كافية بأي حال من الأحوال لضمان الاستقرار السياسي واستدامة الانتقال المدني الديمقراطي. هنا ننتقل للشق الاقتصادي من العقد الاجتماعي، مستعرضين ما يسمى بأطروحة “التحديث” لأستاذ العلوم السياسية سيمور ليبسيت في العام 1959 (Modernization Hypothesis)، والتي تحتل مكاناً رئيساً في هذه الأدبيات. ببساطة، تقول فرضية التحديث بأن التطور الاقتصادي شرطٌ لازمٌ لاستدامة الديمقراطية، لأنه ضرورياً لتوسع الطبقة الوسطى بحيث يصبح الهيكل الاجتماعي معقداً، في ظل إنتاجية عالية وتقدماً تكنولوجياً، الأمر الذي يعزز مكانة المنتجين في المجتمع ويقوى المجتمع المدني، وبالتالي تصبح الأنظمة الديكتاتورية أقل فعالية في ضبط المجتمعات وبالتالي غير قادرة للحفاظ على حكمها (روبرت بارو، 2015).
إلا أن إنجاز تحولات اقتصادية كبرى لتحديث الاقتصادات المتخلفة وبناء طبقة وسطى وازنة لتثبيت واستدامة الأنظمة الديموقراطية في البلدان النامية ليست فقط نتاج لبرامج اقتصادية فعالة على المستوى التقني ولكنها في المقام الأول محصلة لقرار سياسي من النخب الحاكمة باعتماد “الشرعية الاقتصادية” كاستراتيجية ومبرر لبقاء النظام السياسي. إلا أنه وبحسب البروفيسور إستيفان ديركون، أستاذ الاقتصاد بجامعة أكسفورد وكبير الاقتصاديين السابق بوزارة التنمية الدولية البريطانية، يبدو أن هناك توافقاً واسعاً وسط الأوساط العلمية حول الرأي القائل بأن الدول تنشأ نتيجة اتفاق النخب على تقاسم الريع المتاح في ظل السلطة القائمة، مهما كان ضئيلاً. غير أن النخب الحاكمة لا “تراهن” على التنمية إلا في حالات قليلة، حيث تكون مستعدة للتضحية بالريع المتاح من أجل النمو والتنمية في المستقبل. وهذه المراهنة تتسم بالمغامرة لأنه لا توجد وصفة للنجاح، بل مجرد مبادئ عامة، مثل الاستثمار في رأس المال المادي والبشري والمؤسسات… إلخ . وبالتالي، إذا كان النجاح غير مضمون، فلماذا تجازف بعض النخب؟