
دولة (56): في العلاقة بين التشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، والحروب والثورات عقب الاستقلال: حرب 15 أبريل نموذجا(2-3)
أ. الطيب على حسن عيسى
(2)الدولة الاستعمارية الثانية: الاستعمار البريطاني-المصري(1899-1956):
كنا قد أشرنا باقتضاب إلى أهم المتغييرات التاريخية التي فرضها الاستعمار التركي-المصري في السودان، وأوضحنا أنها متغييرات جذرية عميقة داخل الاجتماعي-السياسي السوداني وفي المجمل، أكدنا على أنها كانت تتم في إطار ما اسميناه بالتأسيس الاستعماري الأول للدولة الحديثة في السودان، وباقتضاب هنا أيضا، أننا نقترح هنا، نموذجا تفسيريا يربط بين الحروب والثورات والتمردات وحالة عدم الاستقرار السياسي التي انتظت تاريخ الدولة السودانية عقب الاستقلال (1956-2023) من جهة، والتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان من جهة أخرى، حيث نرى أن التشكل الاستعماري للدولة فرض مؤسسات سياسية واقتصادية ونظام حكم هجين[1]، تفرض بطبيعة بنيتها دينمايات وسياسات، تسند إلى العنف والقهر، وهي قبل ذلك سياسات تخلق وتكرس لتطور غير متكافيء بين أقاليم السودان المختلفة من حيث تطور القوى الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، وفوارق أخرى من حيث التمثيل والمشاركة السياسية، الأمر الذي يوفر دوافعا موضوعية للحروب وللتمردات والثورات ضد هذه الدينمايات والسياسات. وجدير بالذكر هنا، أن هذا الارتباط يتجاوز السودان، ليشمل معظم الدول في أفريقيا، ذلك أن حروبا وحالة مشابه من عدم الاستقرار السياسي قد انتظمت دولا أفريقية كثيرة، ولنفس الأسباب في معظم الحالات، وهنا دول مثل يوغندا وتشاد وليبيا ومعظم دول شرق وغرب أفريقيا، وخاصة دول الساحل هي خير مثال لهذا الارتباط الذي نشير إليه، وفي ذلك يقول ليونين “سعت العديد من النظريات إلى تفسير مدى انتشار عدم الاستقرار السياسي والحروب في أفريقيا منذ الاستقلال، وبلغت ذروتها في الاتجاه الأخير نحو المركزية الاقتصادية. إحدى الحالات النموذجية في أفريقيا، هي السودان، الذي شهد حركات تمرد بشكل مستمر لعقود من الزمن”[2] وسنحاول تاليا أن نفصل في الارتباط المباشر بين التشكل الاستعماري الثاني للدولة الحديثة في السودان، وحالة الحروب المتواصلة وعدم الاستقرار السياسي التي انتظمت السودان عقب الاستقلال.
في البدء، وفي نهاية العام 1898وبنهاية معركة كرري التي كانت بمثابة لحظة إعلان نهاية الدولة الوطنية الأولى أو الدولة المهدية(1885-1899)، والتي كانت أيضا لحظة انتصار القوى الاستعمارية البريطانية-المصرية في السودان، ظهرت إلى الوجود مشكلة كيفية حكم السودان بشكل جدي بين البريطانيين والمصريين، حيث كانت قضايا مثل، ما هو النظام الأمثل لحكم السودان؟، ومن يحكم السودان؟، وكيف يحكم السودان؟، قضايا ملحة على الطرفين البريطاني والمصري، وفي ذلك يقول القدال: “كان المخرج هو اتفاقية الحكم الثنائية، أو الاتفاق “الهجين” كما اسماه اللورد كرومر، التي وقعت بين بريطانيا ومصر في يناير 1899، حيث أصبحت الاتفاقية هي الدستور الذي حكم السودان حتى 1953، دون أن يكون لأهل السودان أي مشاركة فيها”[3] ولعل عدم مشاركة السودانيين في صياغة الوثيقة التي سيحكمون بموجبها لعقود، تشير بشكل واضح إلى أن اتفاقية الحكم الثاني، كانت بمثابة عقد اجتماعي استعماري الطابع، أو العقد المؤسس للدولة الاستعمارية الثانية (1899-1956) في السودان، ونحن نعني بمفهوم العقد الاجتماعي الاستعماري هنا: تلك الوثيقة التي تتأسس عليها شرعية سلطة الدولة، لا استنادا إلى عقد اجتماعي طوعي بين المواطنين المحكومين والحاكم أو الحكومة التي تمارس السلطة عليهم، وإنما على منطق القهر والقوة بواسطة قوى استعمارية، بحيث تصبح مؤسسات الدولة أدوات للضبط الاقتصادي والاجتماعي بما يحقق مصالح القوى الاستعمارية، لا الخير العام للمواطنين أو الشعب المحكوم، ذلك أنها، “تعتبر السكان المحليين وسائلا لا غاية، ولذلك تستبعد السكان المحليين من الحكم وكل من لا ينتمي إلى الطبقة الاستعمارية”[4] كما يقرر فون مسايس، والذي يشير أيضا إلى التشابه بين الدولة الاستعمارية والدولة الأميرية ذات السلطة الوراثية حيث يقول “مثل الدولة الأميرية القديمة في بنيتها، لا تريد الدولة الاستعمارية أن تسمع شيئا عن حقوق المواطنين”[5]. وعلى هذا، تكمن الطبيعه الاستعمارية لهذا العقد الاجتماعي أو اتفاقية الحكم الثنائي ، في أن شرعية سلطة القوى الاستعمارية في نظر المواطنين، تتأتى من منطق القوة والقهرة لا من منطق التوافق أو الحق، وهي بالتالي عقد اجتماعي قهري.
فيما يتعلق بالتأسيس الاستعماري الثاني للدولة الحديثة في السودان، نقرر أن الطبيعة الاستعمارية لاتفاقية الحكم الثنائي تفرض مؤسسات حديثة تكون فيها السلطة لقوى اجتماعية من خارج المجتمع الذي تضبطه هذه المؤسسات، وهي في حالتنا هذه، القوى الاستعماريةالبريطانية-المصرية التي وقعت بينها هذه الوثيقة الثنائية، ونؤكد هنا أن عدم مشاركة السودانيين أو من يمثلهم في صياغة الوثيقة التي سيحكمون بها، يدلل وضوح هذه الطبيعة الاستعمارية التي نشير إليها، ذلك أن غيابهم يعني -من بين ما يعني- أن مؤسسات الدولة تخدم بشكل أساسي مصالح القوى الاستعمارية، لا المصلحة العامة للمحكومين أو المستعمريين السودانيين، وهذا يعود بدرجة أولى كما يرى فون مسايس، إلى أن السلطة الاستعمارية لا تمتلك شرعية اجتماعية، وإنما شرعية قهرية، حيث يشير إلى أن من عليهم طاعة القانون لم يكونوا موجودين عند لحظة سنه، كما أن الذين يجب عليهم تحمل نظام الحكم المفروض عليهم، لم يكونوا مشاركين في تشكيل نظام الحكم هذا، فهؤلاء المحكومون هم بالمعنى السياسي غير أحرار وبلا حقوق سياسية حتى في ظل وجود هذه الحقوق شكليا على مستوى القانون[6]، ونستنتج هنا، أن اتفاقية الحكم الثنائي (1899) هي الوثيقة التاريخية المؤسسة للدولة الاستعمارية الثانية (1899-1956)، ذلك أنها ككل عقد اجتماعي استعماري، لا تجد شرعيتها من المجتمع الذي تحكمه، وإنما من قدرة الجيش الغاذي على قهر هذا المجتمع موضع السيطرة. وبعبارة أدق، نحن نقرر هنا أن التشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، يثير مشكلة “شرعية السلطة “، وهي مشكلة تتمظهر في حوجة الدولة الاستعمارية إلى العنف والقهر لفرض مؤسساتها، الأمر الذي يفسر الطبيعة العسكرية لجهاز السلطة الاستعماري، ذلك أن إدارك القوى الاستعمارية، أن سلطتها ليست شرعية في نظر المجتمعات التي أصبحت تحكمها، يحتم عليها عسكرة جهاز السلطة ومؤسسات الدولة الحديثة التي بدأت القوى الاستعمارية في تأسيسها لإدارة السودان، خاصة في الفترات الأولى من تأسيس السلطة الاستعمارية، وذلك حتى تضمن سيطرة كاملة على الرقعة الجغرافية التي تريد حكمها، وهذا ما حدث في السودان ومعظم الدول الأفريقية.
في سياق الطبيعة القهرية للدولة الاستعمارية وصلتها الوثيقة بعسكرة جهاز الدولة، يشير مدثر محي الدين إلى أن “الإدارة الاستعمارية البريطانية،التي أنشأها في السودان عقب قضائهم على المهدية، كانت قد وصفت كثيرا كأوتوغراطية ذات أهداف مدينة على الخطوط العسكرية”[7] ولعل هذا التوصيف للإدارة الاستعمارية في السودان من قبل اللورد كرومر كان بمثابة مبرر القوى الاستعمارية البريطانية لوجود حكومة عسكرية من الضباط البرطانيين في السودان، خاصة وأن “البلاد وضعت تحت سلطة الحاكم العام الذي كان ضابط عسكريا، وضعت في يديه السلطتين العسكرية والمدنية”[8]. وبإختصار هنا، لابد من تقرير أن الطبيعة التسلطية القهرية للدولة الاستعمارية، هي صفة بنيوية في كل جهاز سلطة استعماري التشكل، ذلك أنها في جزء منها تشكل تمظهرا لمشكلة الشرعية المذكروة آنفا، وجديد بالذكر هنا أن اللورد كرومر مهندس اتفاقية الحكم الثنائي، التي وصفناها بالعقد الاجتماعي المؤسس للدولة الاستعمارية، كان على وعي بمشكلة الشرعية التي تواجهها سلطتهم الاستعمارية الجديدة، حيث، كما يذكر مدثر، “لأسباب مالية، وأيضا لأسباب تتعلق بكون اخضاع كل أقاليم الدولة مازال بعيدا عن أن يكتمل، إلا أن اللورد كرومر كان مقتنعا أن هذه الضرورة تجعل ألا غنى عن الجنود، رغم أنه يرى عدم صالحيتهم لشؤون الحكم”[9] ويتضح من هذه الإشارة، أن اللورد كرومر عراب ومؤسس الدولة الاستعمارية الثانية في السودان، كان يرى أن فرض مؤسسات الدولة الاستعمارية، يستدعي ضرورة وجود العسكريين على رأس الحكومة -السلطة- وفي أعلى هرم الدولة الحديثة التي شرع في تأسيسها بالتدريج، مع تمدد جيش القوى الاستعمارية إلى بقية الأقاليم واخضاعها بالكامل، وجدير بالذكر هنا أن ” أخضعت كل البلاد(السودان) تحت سلطة القانون العسكري، حتى 1926، عندما تم تعين أحد المدنيين كأول كحاكم عام للسودان، لكن الإدارة استمرت لتكون ذات طابع عسكري، حتى يومنا هذا”[10]، ولعل من الواضح أن مشكلة شرعية المؤسسات الحديثة استعمارية التشكل هذه هي التي تفسر أيضا الصلة بين المؤسسة العسكرية في أفريقيا والانقلابات العسكرية.
جدير بالتوضيح هنا أيضا، أننا نظرا لهذا الملاحظات حول طبيعة السلطة في الدولة الاستعمارية، نميز بين الدولة الاستعمارية الثانية في السودان والدولة الحديثة وفقا للنموذج الغربي، ونرى أن هنالك اختلافا كبيرا بينهما من حيث طبيعة السلطة ونظام الحكم والمؤسسات، حيث نلاحظ أن السلطة في الدولة الحديثة وفقا للنموذج الغربي، تقوم على روابط وعلاقات سياسية وسلطوية حديثة تقوم على الإنتماء الطوعي أو الإرادي، على عكس الدولة الاستعمارية لتي تستند علاقات السلطة فيها على الروابط التقليدية التي تقوم على الانتماء اللاإرادي “العرق، الجهةـ القبيلة…الخ، وعلى العكس أيضا من الدولة الاستعمارية التي تتأسس على القهر والإكراه من قبل القوى الاستعمارية، تتأسس سلطة الدولة الحديثة على احتكار العنف الشرعي وتمديد الجهاز الخدمي للدولة وضمان سيادة القانون، ولعل أهم هذه الروابط السياسية الحديثة التي تميز الدولة الحديثة عن الدولة الاستعمارية والتقليدية، هي روابط الإنتماء لحزب سياسي، نقابة، جمعية تعاونية و…الخ. وباختصار هنا، يجعل تأسس علاقات السلطة في الدولة الحديثة على الروابط الطوعية، الممارسات السياسية ونظام الحكم فيها يتأسس بالطبع، على مقولات مثل المواطنة، الطبقة، حكم القانون، الفصل بين السلطات، الدستور، وهي مقولا سياسية تعرف فيها العلاقة بين المواطن والدولة من جهة، وبين المواطنين أنفسهم على أنها علاقة حقوقية بين “المواطنين والدولة” للمواطن فيها حقوق سياسية ومدنية واقتصادية على الدولة، كما أن للدولة فيها واجبات على المواطن، وهي شروط لا تتوفر في الدولة الاستعمارية، حيث لا حقوق للمواطنين المحليين. وجدير بالذكر، أن هذا الشكل من الدول، والذي “يعرف بالدولة الفيبربية” ( ( Western- style Weberian-type Stateظهر تدريجيا في أوروبا وبالكاد يوجد خارجها”[11]وظهر تاريخيا مع تطور الطبقات البورجوازية، وبالتزامن مع تطور الرأسمالية الصناعية والليبرالية السياسية، وهي الحقبة التي تحولت فيها الدول الأوروبية من دول ملكية مطلقة ذات سيادة تقليدية، إلى ملكيات دستورية وجمهوريات ذات سيادة حديثة، ولعل أهم المتغيرات التاريخية التي رافقت ظهور الدولة الحديثة في أوروبا، تمثلت ظهور وصعود الطبقة البيروقراطية الحديثة وتخلصها على مراحل وعبر ثورات من طبقة النبلاء والملوك، ومن هيمنتها على جهاز السلطة. وما نود أن نقرره هنا، أن الدولة الحديثة تفرض شكلا معينا من السلطة والمؤسسات ونظم وأساليب الحكم، التي تختلف كثيرا عن شكل السلطة والمؤسسات في الدولة الاستعمارية الثانية في السودان.
أيضا، فيما يتعلق بطبيعة مؤسسات الدولة الحديثة التي فرضتها القوى الاستعمارية في السودان، نلاحظ أن مؤسساتها كانت ذات طبيعة تختلف كثيرا عن المؤسسات التي للدولة الحديثة بالمعنى الفيبري الذي أشرنا إليه، ذلك أن إدراك القوى الاستعمارية البريطانية، أن المؤسسات الحديثة التي سيفرضونها في السودان بهدف تحقيق مصالحهم الاقتصادية والسياسية، لا يمكن أن تعمل بالكفاءة ذاتها التي تعمل بها في أوروبا نظرا للاختلاف في السياق التاريخي بين أوروبا وأفريقيا، وهو ما دفعهم إلى أخذ البنى ومؤسسات الحكم التقليدية الموجودة في السودان في الاعتبار، حتى يضمنوا فعالية أكبر لمؤسساتهم الاستعمارية، ولعل أفضل طريقة لفرض هذه المؤسسات في السودان وأفريقيا، كانت كما يرى يلونين من خلال “إيجاد هياكل مجتمعية محلية يمكن وضعها لخدمة المصالح الاستعمارية”[12]، ونتيجة لذلك، ظهرت المؤسسات التي نصفها بأنها ذات طبيعة بنيوية استعمارية، ذلك أنها مؤسسات لا تحد بشكل فعال من المصالح الشخصية للحكام، ومصممة بشكل رئيس لخدمة مصالح القوى الاستعمارية خاصة في “المستعمرات حيث كان الأوروبيون أقلية صغيرة تحكم أعدادًا كبيرة من السكان المستعمرين[13] ، وبعبارة أخرى ، تختلف الدولة الاستعمارية الثانية أو الدولة الحديثة كبنية في السودان،عن الدولة الحديثة بالمعنى الفيبري، من حيث طبيعة السلطة وطبيعة نظام الحكم والقيم التي تعمل استنادا إليها مؤسسات الدولة، ذلك أن هذه المؤسسات كما يقول يلونين “كانت نتيجة لأطماع جيوسياسية واقتصادية لقوى استعمارية تهدف إلى السيطرة على الواقع المحلي”[14] الأمر فرض شكلا هجينا من المؤسسات التي تعمل داخلها علاقات السلطة/السيادة التقليدية رفقة علاقات السلطة/السيادة الحديثة، ولعل نظام الحكم الهجين هذا، يشير إلى تسرب القيم والمعايير التقليدية المتعلقة بممارسة السلطة إلى الهياكل الرسمية للدولة، الأمر الذي يؤدي إلى تحول مؤسسات الدولة الرسمية إلى “خدمة التفضيلات المجتمعية لمن هو في السلطة””[15] كما يقرر مارين كروشايير ودانييل لامباخ، اللذان يشيران أيضا، إلى أن ذلك دائما ما يتم عن طريقي ” دمج المؤسسات التقليديةـ، إما بحكم القانون أو بحكم الأمر الواقع في جهاز الدولة الرسمي، وبالتالي خلق مؤسسات هجينة”[16] ولعل أهم الأمثلة على هذه الهجنة في نظام الحكم، ما يعرف ب”نظام الحكم غير المباشر” الذي دشنه الاستعمار البريطاني-المصري في السودان،إلى جانب مؤسسات الحكم الحديثة، حيث تم إضفاء الطابع المؤسسي على زعماء القبائل التقليديين عبر نظام الإدارة الأهلية لتسهيل حكم السودان، وباختصار هنا، يعود اختلاف مؤسسات الدولة الاستعمارية في السودان عن مؤسسات الدول الحديثة بالمعنى الفيبري، إلى أن القوى الاستعمارية لم تكن مهتمة بتأسيس جهاز دولة حديث في السودان، بقدر ما هي مهتمة بتأسيس مؤسسات وجهاز دولة يخدم مصالحها كقوة استعمارية[17]؛ الأمر الذي جعل مؤسسات الدولة أدوات ووسائل للهيمنة الاقتصادية والتحكم في موارد الدولة، وهذا ما يجعلها ترتبط بشكل مباشر أيضا بتهميش الأغلبية من السكان، عبر سياسات التنمية غير المتوازنة والافقار الممنهج.
أيضا وفي سياق بحثنا طبيعة السلطة في جهاز الدولة الاستعمارية الثانية، نشير إلى أن يلونين يطرح في سياق بحثه لطبيعة مؤسسات الدولة الاستعمارية الثانية في السودان وعلاقتها بالتهميش الاجتماعي والفوارق التنموية بين أقاليم السودان، مفهوم “الدولة المهمشة” وذلك بهدف تفسير هذه الفوارق التنموية، وهي الدولة التي يعرفها على أنها “حالة بنيوية، نتاج عمليات تاريخية عند إنشاء الدولة، وهي ذروة الهيمنة الخارجية التي كانت فيها إدارة جهاز الدولة والسكان المحليين لاستخراج الموارد، أمرًا بالغ الأهمية”[18] ويشير يالونين أيضا، إلى أن عدة خصائض تميز المؤسسات الحديثة التي فرضتها القوى الاستعمارية في أفريقيا والسودان بشكل خاص، حيث يؤكد أنها خصائص ذات ارتباط مباشر بالطابع القهري والطبيعة الاحتكارية الضيقة لجهاز الدولة الاستعمارية نفسه، فيقول “تم تصميم تلك المؤسسات التي تم إنشاءها في مختلف المستعمرات الاستوائية لتسهيل الاستخراج الفعال للموارد. وكان هذا صحيحاً بشكل خاص في أفريقيا وفي حالة نيجيريا والسودان اللتين يعتقد أنهما غنيتان بالموارد الطبيعية.”[19]، ويربط يلونين بين الطابع الاستخراجي للمؤسسات التي أنشأها المستعمر في أفريقيا والسودان، وبين الطبيعة الاستبداية للدولة الاستعمارية، حيث يشير ” كان لا بد من السيطرة على هذه المستعمرات الاستوائية من خلال مؤسسات تمارس الاستبداد القمعي من أجل فرض السيطرة لأن مديري المستعمرات كانوا قليلين في كثير من الأحيان وقد امتدت الإمبريالية الأوروبية إلى المستعمرات الاستوائية جزئيا بسبب الموارد.”[20] وباختصار هنا، فإنه ومن أجل ضمان التدفق الفعال للموارد المحلية للسودان، بهدف تغذية اقتصاد القوى الاستعمارية، كانت أحد أهم الوسائل هي، تأسيس مؤسسات ذات طابع استعماري قهري تقوم بوظيفة “تأمين السيطرة الكافية على الأراضي من أجل ضمان الاستغلال الفعال للموارد المحلية، وكان لا بد من هيكلتها بحيث يمكن تكييفها بسهولة مع الظروف المتغيرة من خلال السيطرة عليها والتلاعب بها، من قبل السلطات الاستعمارية”[21]، ويمكن أن نستنتج من ذلك، أن هنالك ارتباطا وثيقا ومباشرا بين التهميش الاجتماعي والفوارق التنموية بين أقاليم االسودان والتشكل الاستعمارية للدولة الحديثة في السودان.
إن من الواضح استنادا إلى التحليلات السابقة، أن مؤسسات الدولة الاستعمارية الجديدة التي فرضتها القوى الاستعمارية في السودان، والتي تستند إلى استراتيجية فرق-تسد كأحد أهم أساليب حكمها، كانت ذات دور كبير في خلق الفورقات التنموية بين أقاليم السودان المختلفة، حيث نجد أن هذه المؤسسات التي فرضتها القوى الاستعمارية البريطانية في السودان، كانت تهدف بشكل أساسي إلى تقليل التحديات أو المقاومة المحلية للسلطة الاستعمارية، هذا مع هدف آخر، هو تحقيق أكبر فائدة ممكنة من النشاطات الاستخراجية بما يحقق مصالح القوى الاستعمارية، الأمر الذي كان يجعلها تفقر السودانيين في الأطراف كسياسة لضمان فعالية هذه المؤسسات، واضعاف إمكان المقاومة من قبل المجتمعات المحلية، هذا وقد كنا أشرنا سابقا، إلى أن مشكلة الشرعية التي تواجهها الدولة الاستعمارية، تجعل مؤسساتها تسلطية وقهرية بطبيعتها، لكن القهر والاستبداد وحده، ليس كافيا بالنسبة للقوى الاستعمارية، حتى تحقق سيطرتها الكاملة على السودان، وهنا يقرر يلونين ” أدرك البريطانيون مبكر حاجتهم إلى التحالف مع أهم القوى الاجتماعية لجعل سلطتهم الاستعمارية شرعية، ولذلك عملوا على رعاية أهم الحركات الدينية والتشكيلات القبيلة التي لعبت دورا مهما في الواقع الاجتماعي السياسي والاقتصادي السوداني”[22] ونشير هنا أن القوى الاستعمارية،وجدت في القوى الاجتماعية النهرية حليفها الاستراتيجي المحلي، وذلك ضمن سياسية فرق-تسد الاستعمارية. ونشير هنا إلى أننا نعرف هذا التحالف، بالتالحف المؤسس للدولة الاستعمارية، نظرا إلى إن “التهميش الاجتماعي” والذي نعني به حرمان جماعة أو جماعات أو مجتمعات، على أساس جهوي أو ديني أو عرقي، إثني من حقوقهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمدنية بواسطة جهاز الدولة واستبعادهم من المشاركة السياسية والاقتصادية: هو صفة بنيوية في الدولة الاستعمارية، يرتبط بشكل وثيق بسياسة فرق-تسد الاستعمارية، وحوجة القوى الاستعمارية لتفضيل قوى اجتماعية محلية لضمان شرعية سلطتها الاستعمارية التي تواجه مشكلة شرعية، وهذا ما يفسر عمل مؤسسات الدولة الاستعمارية بطبيعتها على افقار واستبعاد جماعات ومجتمعات بعينها من المشاركة السياسية والتنمية الاقتصادية، خاصة تلك المجتمعات التي تظهر نوعا من المقاومة لهيمنة القوى الاستعمارية، وعلى هذا ففي الحين تفرض مشكلة شرعية السلطة الاستعمارية على القوى الاستعمارية ضرورة اعطاء امتيازت اقتصادية وسياسية لقوى اجتماعية محلية، فإنها تفرض التهميش الاجتماعي على بقية القوى الاجماعية الأخرى في السودان، ونستنتج هنا، أن التهميش الاجتماعي يرتبط بضرورة تحالف القوى الاستعمارية مع قوى اجتماعية سودانية مؤثرة كحليف استراتيجي، وهو وفقا لذلك، أول تمظهر واقعي لاسترتيجية فرق-تسد كأحد أهم قواعد واساليب الحكم المركزية في الدولة الاستعمارية.
إن من الأهمية أن نؤكد هنا، أن ما يبرر تسميتنا هذا التحالف بين القوى الاستعمارية والقوى الاجتماعية النهرية، بالتحالف المؤسس للدولة الاستعمارية الثانية (1899-1956) في السودان ذلك أنه أعطى العقد الاجتماعي الاستعماري المتمثل في وثيقة الاتفاقية الثنائية(1899)، شرعية محلية، وسهل على القوى الاستعمارية إدارة وحكم البلاد؛ حيث نجد أن المعاملة التفضيلية للقوى الاجتماعية النهرية في من قبل القوى الاستعمارية البريطانية نتيجة هذا التحالف، كانت على حساب مجتمعات أقاليم السودان الأخرى، وفي ذلك يقرر يلونين ” استتبعت الدولة الاستعمارية في السودان، أقاليم جنوب السودان، ودارفور للدولة السودانية، وكسلفهم السابق (الاستعمار التركي-المصري) خص البريطانيون بالتفضيل، نخبة من المجتمعات العربية المسلمة بوسط-شمال السودان، وتم استبعاد شعب أطراف السودان الأخرى”[23]. وما يجب تقريره هنا، أننا نعد هذا التحالف مؤسسا للدولة الاستعمارية الثانية وسلطتها في السودان لعدة أسباب، أهما أنه كان بمثابة إعلان تدشين السياسات الاستعمارية التي تستند على استراتيجية فرق-تسد، والتي كانت تؤذن بانطلاق أو استئناف آليات وديناميات التهميش الاجتماعي لسكان الأطراف في السودان، والتي إبتدأت منذ الدولة الاستعمارية الأولى، وبالتوازي مع ذلك أيضا، لأنه كان يسارع صيرورة تشكل متسارع لمركز سياسي سلطوي وتنموي في جغرافيا وسط-وشمال السودان، وهامش لهذا المركز هو بقية أقاليم السودان، وهي المتغيرات التي كان لها أثر كبير في مستقبل الصراع الاجتماعي على السلطة، كما سندلل على ذلك في القسم التالي.
في هذا السياق أيضا،يشير يلونين إلى أن البريطانيين، “مدركين لإمكان تشكل تحالف بين القيادات الطائفية والقياديات القبلية قادر على تحدي السلطة الاستعمارية كما حدث سابق مع الاستعمار التركي-المصري، أنشأ البريطانيون نظام إدارتهم غير المباشرة على استراتيجية فرق-تسد في السودان”[24] وهنا نلاحظ أيضا، أن استرايجية فرق-تسد وثيقة الصلة بالطبيعة الهجينة لجهاز السلطة الاستعمارية التي أشرنا إليها سابقا، كما أنها السبب الرئيس في ضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة الاستعمارية، ذلك أن كون القوى الاستعمارية، كانت أقلية غريبة ، جعل شرعيتها تستند على منطق القوة والقهر كما أنه يحتم عليها تقليل المستفيدين من جهاز السلطة الاستعمارية والموارد التي يتحكم فيها، وعلى الرغم من ذلك فإن جهاز السلطة الاستعماري الذي فرضته القوى الاستعمارية في السودان، ذي طبيعة احتكارية، نظرا لضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة، ومن هنا عمله بشكل منهجي على تهميش أغلبية السكان ، خاصة في الأطراف التي توجد بها مقاومة اجتماعية للقوى الاستعمارية، وإلى ذلك يشير يلونين ” في هذه الفترة (1899-1956) تأسست الدولة الاستعمارية التي تكرث للتهميش في السودان، لتخدم بشكل أساسي المصالح الجيوسياسية والاقتصادية لبريطانيا، وطبقة الإداريين البريطانيين في الخدمة المدنية السودانية، وطبقة التجار والغرف التجارية الذين غالبهم أوروبيين وشرق أوسطيين، وأيضا الحلفاء المحليين للاستعمار”[25]، وجدير بالتأكيد هنا، أن التهميش الاجتماعي كسياسة، متجذر في بنية الدولة الاستعمارية، ويهدف بشكل أساسي إلى السيطرة على أطراف السودان عبر الاستتباع القهري الذي يقوم على تقليل المقاومة والتحديات التي يمكن أن تواجه السلطة الاستعمارية. ومن الواضح أن النتيجة المباشرة لهذه السياسة الاستعمارية هي،” حرمان مجتمعات أطراف السودان من المشاركة السياسية والاقتصادية، هذا على عكس النخب الاستعمارية وحلفاءهم في وسط-شمال السودان”[26] ، ونخلص هنا، إلى أن التهميش الاجتماعي التفاوت التنموي الذي طبع تاريخ السودان، يرتبط بشكل وثيق بالتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان.
من جانب آخر، ترتبط أساليب وسياسات الحكم الاستعمارية في السودان، بما سنسميه بالتطور اللامتكافيء للقوى الاجتماعية داخل الاجتماع السياسي-السوداني، ذلك أن “سياسة نماء أحادية قد طبقت في السودان، كاستراجية تهدف إلى تركيز التنمية الاقتصادية والخدمة الاجتماعية في المركز حول مدينة الخرطوم، ومنطقة الزراعة الانتاجية التصديرية بالنيلين الأبيض والأزرق، في حين تم حرمان أطراف السودان بشكل تام”[27] ونشير هنا، إلى أن هذه السياسة التنموية الأحادية كانت أحد أهم آليات والديناميات التي تسارع التشكل التدريحي لمركز سلطوي واقتصادي في جغرافيا وسط وشمال السودان، وتحول كل من أقاليم دارفور وكردفان وجنوب السودان والبحر الأحمر إلى هوامش وأطراف لهذا المركز والذي يوجد به جهاز السلطة المركزي ويتحكم في اقتصاد هذه الأطراف، وبالتالي فإنها أيضا، كانت أهم آليات وديناميات التهميش الاجتماعي الفوارق التنموية بين المركز و الهامش\الأطراف وبالتبع التطور اللامتكافئ بالقوى الإجتماعية في المركز والهامش\الأطراف، حيث نجد أنها كانت أحد الضرورات التي فرضتها مصالح القوى الاستعمارية، ومصالح حلفائهم من القوى الاجتماعية النهرية التي أصبحت تستفيد من جهاز بنية الدولة الحديثة في جغرافيتها، ومن مواردها الاقتصادية وجهازها الخدمي، ومن هنا نوصف هذه السياسة التنموي الأحادية كإستئناف للتطور التاريخي لهذه القوى الاجتماعية، وهو التطور الذي قطعته المهدية كما ذكرنا سابقا، حيث نلاحظ أنه وبالتوازي مع تأسس السلطة الاستعمارية ومؤسساتها في السودان، بدأت تتخلق وتطور حول جهاز السلطة الإستعماري الحديث؛ قوى اجتماعية حديثة في السودان من هذه المجتمعات حصرا، ذلك أن القوى الاجتماعية النهرية ونتيجة تحالفها مع القوى الاستعمارية، وأيضا نتيجة ارتباطها بمؤسسات الدولة الحديثة، بدأت تنتظم في تشكيلات سياسية واقتصادية واجتماعية ذات طابع حديث. هذا، وفي الحين الذي كان تطور هذه القوى الاجتماعية النهرية يتسارع بفعل ارتباطها بجهاز الدولة الحديث، تركت القوى الاجتماعي أقاليم السودان الأخرى لنظام الإدارة التقليدي وعمليات الاقتصاد التقليدي، محرومة من مؤسسات الدولة الحديثة وعلاقات اقتصادها وكل عوامل التحديث الأخرى التي ترتبط بجهاز الدولة الحديث، مثل التعليم، التوظيف، الخدمات، التجارة، …الخ.
إن ما يمكن أن نتستنجه هنا باختصار، هو أن الدولة الاستعمارية الثانية كانت تكرس بنيويا لتطور غير متكافيء بين القوى الاجتماعية السودانية، ذلك أن ارتباط القوى الاجتماعية النهرية التاريخي كحليف استراتيجي للقوى الاستعمارية بالجهاز الإداري والخدمي للدولة الحديثة ومؤسساتها الاقتصادية؛ كان بمثابة عوامل تحديث وتطور هذه القوى الاجتماعية، نظرا لأن القوى الاستعمارية البريطانية وبعد أن نحجت في فرض سلطتها الاستعمارية على معظم اقاليم السودان الحديث، شرعت في تنفيذ سياسات اقتصادية تهدف إلى تسخير موارد السودان لتزويد رأسماليته الصناعية في الجزيرة البريطانية، وكان معظم البنية الاقتصادية والانتاجية الحديثة متركزة في جغرافيا وسط وشمال السودان، ولابد من الإشارة إلى أن ارتباط تشكل وتركز الجهاز الإداري والخدمة الحديث للدولة واقتصادها بالاطماع الاستعمارية في شمال ووسط السوادن يرتبط بقرب هذا الأقليم من الطرق التجارية على البحر الأحمر، وارتباط تأسيس طرق وسائل النقل الحديثة في السودان بالنيل وخط السكة حديد الواصل إلى مصر والذي إنشيء “من أجل تسهيل حملة الغز ضد الدولة المهدية”[28] ، وهنا يشير القدال أن السلطات البريطانية “نجحت في تهدئة معظم السودان بحلول عشرينيات القرن العشرين. وأنه وبمجرد تحقيق استقرار نسبي في السودان “تم تنفيذ المشاريع الاقتصادية الاستعمارية من أجل تغذية الاقتصاد البريطاني. وأصبح القطن المحصول الرئيسي الذي يزرع في وسط السودان ليتم تصديره إلى بريطانيا. وهذا ما جعل منطقة السودان النهرية الوسطى أغنى منطقة”[29] وأكثرها تطوراً على حساب بقية أقاليم السودان التي لم تحظى بتنمية مماثلة خلال الدولة الاستعمارية الثانية. أيضا وأخيرا، تجد تسمية هذا التحالف بين القوى الاستعمارية وهذه لقوى الاجتماعية بالتحالف المؤسس لدولة الاستعمارية، في أن نتيجته المباشرة كانت تشكل وتطور القوى الاجتماعية الحديثة التي استورثث مؤسسات لدولة الاستعمارية عقب خروج الاستعمار، حيث أن “نتيجة تفضيل البرطانيين للمجتمعات العربية-المسلمة في الوسط والشمال وتسهيل هيمنتها الاجتماعي-سياسية، تحولت هذه الجماعة إلى المرشح الرئيس لوراثة السلطة السياسية”[30]، ولعله من الضروري أن نقرر هنا، أن تحول القوى الاجتماعية النهرية في الوسط-الشمال وتدريجا، إلى القوى الاجتماعية الأكثر تطورا والوريث الحصري لجهاز السلطة مستقبلا ، لم يكن عملية اعتباطية من قبل القوى الاستعمارية، ذلك أنها كانت عمليات ذات صلة بنيوية بجهاز السلطة الاستعماري، حيث نجد أنها ذات صلة بالطبيعة الاحتكارية وضيق القاعدة الاجتماعية لجهاز السلطة الاستعماري، التي كانت تفرض على القوى الاستعمارية تفضيل قوى اجتماعية سودانية كحليف استرايجي، على حساب بقية القوى الاجتماعية السودانية الأخرى، ولذلك كان من الطبيعي أن تخلق القوى الستعمارية نخبا متعلمة من القوى الاجتماعية المحلية التي تحالفت معها لتساعدها في حكم السودان، وكان من الطبيعي بالتبع أن تتحول القوى الاجتماعية النهرية عبر تعليم الاستعمار ووظائفه، إلى الوريث الحصري للدولة الاستعماري عقب خروج المستعمر، وباختصار هنا، يجد التطور اللامتكافيء بين القوى الاجتماعية السودانية، في السياسات الاستعمارية التي تستند على استراتيجية فرق-تسد.
في هذا السياق أيضا، كنت قد أشرت سابقا إلى أن الدولة المهدية كانت عاملا تاريخيا مهما، خاصة فيما يتعلق بتشكل ملامح الصراع الاجتماعي على السلطة والثروة في السودان الحديث، ذلك أنها كانت بمثابة الحركة الاجتماعية التي قطعت التطور التاريخي للقوى الاجتماعية النهرية في الشمال-الوسط، حيث أن هذه المجتمعات كانت أيضا، الحليف المحلي الاستراتيجي للقوى الاستعمارية التركية-المصرية، الأمر الذي جعلها تدخل في تناقض وصدام مباشر مع القوى الاجتماعية الثورية التي ناصرت الثورة المهدية، والتي تتكون بشكل أساسي من المجتمعات العربية الرعوية في دارفور وكردفان وشرق السودان. أيضا، وفيما يتعلق بصلة الثورة المهدية بهذا التحالف فإنه يمكن أن نقول، إنه وفي سياق الصراع على السطلة في السودان الحديث، ساهم بطش الخليفة عبد الله التعايشي الذي مارسه على هذه القوى الاجتماعية إبان فترة حكمه (1885-1898)، بشكل كبير في خلق مظالم تاريخية، دفعت هذه القوى الاجتماعية النهرية، إلى التحالف مع القوى الاستعمارية البريطانية-المصرية، بهدف التخلص من القوى الاجتماعية للثورة المهدية ودولتها التي بطشت بها. وأيضا، ولأن الثورة المهدية كانت نتيجة تحالف الزعماء الدينيين مع زعماء القبايل، ولضمان عزل هذين التشكيلتين الاجتماعيتين من التفاعل، أدركت القوى الاستعمارية منذ وقت ضرورة ضمان ولاء أكبر التشكيلات الدينية المؤثرة في السودان، وهما طائفتي الختمية بقيادة السيد على الميرغني، وطائفة الأنصار بقيادة عبد الرحمن المهدي، ولم يكن ذلك ليتم إلا عبر سياسات الامتيازات السياسية والاقتصادية، ف “مستفيدين من هذه السياسة اقتصاديا، أصبح كل من السيد عبدالرحمن المهدي زعيم طائفة المهدية، والسيد على المرغني زعيم الطائفة الختمية، حلفا للنظام الاستعماري، يتحصلون بموجب ذلك على مخصصات من الدولة لدعم مكانتهم الاجتماعية الاقتصادية”[31]، هذا في حين كان البريطانيين يستقلون الخصومة بين الطائفتين وهي خصومة تعود إلى دعم الطائفة الختمية للاستعمار التركي-المصري، ونفي قيادتها إلى مصر عقب سقوط الدولة الاستعمارية الأولى(1821-1885)، وبشكل عام نقرر هنا، أن الصراع الاجتماعي داخل الاجتماع-السياسي السوداني، كان يتحدد بشكل كبيرا بتفاعل القوى الاجتماعية السودانية المختلفة مع جهاز الدولة، ذلك أنه وبقدر الولاء والتبعية للقوى الاستعمارية تتعاظم مصالح القوى الاجتماعية، وكون القوى الاجتماعية النهرية هي الحليف الاسترايجي للقوى الاستعمارية، جعلها أكثر القوى الاجتماعية حداثة وقدرة على التعامل من بنية الدولة الحديثة استعمارية الطابع.
إن أهمية الثورة المهدية في تاريخ الصراع الاجتماعي على السلطة والثروة في السودان، تتصل أيضا بأنها كانت ذات أثر كبير في تحديد هوية النخب الوطنية المتعلمة التي سترث القوى الاستعمارية عقب الاستقلال، حيث إن تتبع تاريخ تشكل النخبة الاستعمارية والطبقات الحديثة التي ستحكم السودان، يشير إلى أن تفاعل القوى الاجتماعية مع بنية الدولة الحديثة، وكونهم الحليف المحلي للقوى الاستعمارية وكذلك تركز تعليم الاستعمار في مناطقهم بشكل حصري، جعل تشكل النخب الوطنية المتعلمة بشكل حصري من هذه القوى الاجتماعية وفي حين استبعدت كل القوى الاجتماعية ذات الصلة بالثورة المهدية، وفي ذلك يقول صديق امبده “لأسباب تاريخية عديدة، من أن الاستعمار لم يكن حريصا أو راغبا في أن يرى الذين ارتبطوا بالثورة المهدية في أجهزة الحكومة تحت الحكم البريطاني-المصري،كان حريصا على أن يكون التوظيف الحكومي حكر على الموالين للنظام الجديد أو ممن كانوا على عداء مع المهدية”[32] وهو الأمر جعل الاستعمار يفتتح أولى المدارس في الخرطوم والشمالية، وبعبارة أخرى، مستفيدة من التحالف مع القوى الاستعمارية ضد الدولة المهدية، تحولت هذه القوة الاجتماعية إلى قوى اجتماعية حديثة، تقودها طبقة بيروقراطية متعلمة، من أبناء التجار والموظفين وكبار الملاك، والمزارعين وبدأت تظهر محصورة فيهم أيضا، وتدريجيا عددا من التشكيلات السياسية والاقتصادية الحديثة المؤثرة، وهي المؤشرات التي كانت تؤكد تحول القوى الاجتماعية النهرية إلى الوريث التاريخي للدولة الاستعمارية وجهاز سلطتها، وهو ما سنحلله تاليا.
المصادر والمراجع:
[1] مفهوم “أنظمة الحكم الهجينة” (Hybrid Political Orders) هو مصطلح طوره الباحثون كيفن سليمنت وفولكر بويج أدريان ليفتويج، وأخرون من المركز الأسترالي لدراسات السلام والنزاع (ACPACS) استنادًا إلى أبحاث ميدانية في العديد من بلدان جنوب المحيط الهادئ، وهو مفهوم يشير إلى أنظمة الحكم التي تتداخل وتختلط فيها المعايير والقيم التقليدية المحلية بالمعايير والقيم والمعايير الغربية الحديثة داخل مؤسسات الدولة الرسمية، لينتج دولة هجينة السلطة، تختلف كثيرا عن الدولة الحديثة (Westrren-style Weberian State) راجع:Maren Kraushaar, Daniel Lambach: Hybrid Political Orders The Added Value of a New Concept ACPACS Occasional Paper Number 14. December (2009)
[2] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p37
[3] القدال ، تاريخ السودان الحديث(1820-1955)، سبق ذكره، ص327
[4] Ludwig von Mises. Nation, State, and Economy: Contributions to the Politics and History of our Time, translated to English by Leland Yeager B. (New York: New York University Press. 1983), p106
[5] Ibid, p108
[6] Ibid, pp106-112
[7] Muddathir Abdel-Rahim: Changing Patterns of Civilian-Military Relations in the Sudan (Sweden: Uppsala Offset Center AB, 1978), p 21
[8] Ibid, p21
[9] Ibid, p14
[10] Ibid, p14
[11] Volker Boege, Anne Brown, and et al.(2007) State Building Reconsidered: The Role of Hybridity in the Formation of Political Order. Political Science 59(1): pp46-48
[12] Aleksi Ylönen, Institutions and Instability in Africa: Nigeria, Sudan Reflections from Mises’s Nation, State and Economy. New Perspectives on Political Economy Volume 1, Number 1, 2005, p45
[13]Ibid, p45
[14] Ibid, p47
[15] Maren Kraushaar, Daniel Lambach, : Hybrid Political Orders The Added Value of a New Concept ACPACS Occasional Paper Number 14. December (2009), p5
[16] Ibid, p5
[17] لمزيد من المعلومات عن سياسات القوى الاستعمارية البريطانية في السودان راجع: وفد السودان 1946: عن مآسي الانجليز في السودان، الخرطوم: شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، 2006. ط2
[18] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p47
[19] Aleksi Ylönen, Institution and Instability in Africa: p43
[20] Ibid, p43
[21] Ibid, p45
[22] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p48
[23] Ibid, p47
[24] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p38
[25] Ibid, p47
[26] Ibid, p47
[27] Ibid, p48
[28] القدال، تاريخ السودان الحديث(1820-1955)، سبق ذكره، ص363
[29] نفس المصدر، ص 263
[30] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p48
[31]Ibid, p48
[32] صديق أمبدة، قلم التعليم وبلم المتعلمين: مقالات في التعليم والتمية (مدارك للطباعة والنشر والتوزيع، الخرطوم، 2017)ص67