بحوث ودراسات

علمانية الدولة أم دينيتها؟: محاولة لمؤالفة المفهومين

د. النور حمد

مقدمة:

عبارة “تحكيم شرع الله”، ظلت العبارة السحرية، التي استطاعت تيارات الإسلام السياسي أن تحشد بها، سياسيًا، قطاعًا عريضًا من الجمهور المسلم، وتحصره بها في جيب التبسيط، والشعارات فاقدة الدلالة. وهكذا، نشأ الإيمان، بأن ما دُرج على تسميته، تاريخيًا، “الشريعة الإسلامية”، هو الوصفة السحرية الوحيدة، الكفيلة بحل قضايا الفكر، والسياسة، والاجتماع، في واقع المسلمين الحديث، المأزوم، المتسم بالتركيب والتنوع، والتعقيد.

هذه الدعوة التي بدأت ارهاصاتها فيما يُطلق عليه، “عصر النهضة العربية”، ثم علا صيتها في النصف الأول من القرن العشرين، خاصةً، في مصر وباكستان، دعوة مأزومة، أفرزتها الصفعة الحضارية المجلجلة، التي نتجت عن التقاء الشرق الإسلامي، وجهًا لوجه، مع الحضارة الغربية، إبّان الحقبة الاستعمارية. حينها، أدركت النخب المسلمة، عن يقينٍ، مقدار تخلف واقعها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي. ولكن، بدلاً من أن تتجه عقول هؤلاء الدعاة، من حملة شعار “الدستور الإسلامي”، و”أسلمة الدولة”، إلى مناقشة سبل الخروج من ربقة التخلف، بدراسة التجربة الغربية، ومعرفة الكيفية التي انطلقت بها أوروبا من سيطرة الكنيسة، والإقطاع، وقبضة الحق المقدس للأباطرة والملوك، في الحكم، اختاروا الانكفاء على الجوانب غير المشرقة، في تاريخهم الديني، والعودة إلى متون النصوص الدينية، محاولين كبس واقع بالغ السعة، والتعقيد، والحيوية، في أضابير نصوص الفقه القديمة، بالغة الضيق.

بدلاً من تقديم أدبيات نقدية وفكر إصلاحي، جنح هؤلاء الدعاة للمزايدة، والاستعلاء. فامتطوا ظهر حصان التفوق الأخلاقي المتوهم، فوصف بعضهم؛ مثال: محمد قطب، الحالة الكوكبية المتوثبة، حينها، المحتشدة من أجل تحقيق قفزاتٍ أكبر في التقنية والتنمية، وفي الديمقراطية، وحقوق الإنسان، بـ “جاهلية القرن العشرين”. وهكذا، انحصر قطاع كبيرٌ جدًا، من العقول العربية والإسلامية، خاصة عقول الشباب، والطلاب، على امتداد العالم الإسلامي، في هذا الجيب المتحوصل، غير المنتج. وهكذا أضاع رد الفعل المأزوم، تجاه تقدم الغرب، على الشعوب الإسلامية، ما يقارب القرن من الزمان، أُنفق معظمه في العنف السياسي، والتجارب الاعتباطية. ومؤخرًا، جدًا، دعت حركة النهضة التونسية، أول الخارجين من تلك الغيبوبة الطويلة، إلى ضرورة فصل الجانب الدّعَوِي، في حركة الإسلام السياسي التونسية، عن الجانب السياسي. وجاء ذلك، بصورةٍ مفاجئة، وبلا تسبيبٍ منهجي كاف. وهو أمرٌ يوحي، أن ضغوط الواقع السياسي، وحسابات الربح والخسارة، كان لها الدور الأكبر في إحداث تلك النقلة. ومع ذلك، يُحمد لحركة النهضة ذلك الإعلان، لأن فيه اعترافًا عمليًا بالأزمة، ودعوة للتفكير على نحوٍ جديدٍ، مغايرٍ، للخروج منها.

من الناحية الأخرى، نشأ من صدمة الاحتكاك بالغرب، عن كثبٍ، تيارٌ آخرٌ، مأزوم، تمثل في الماركسيين، والليبراليين العرب، وكذلك، العروبيين؛ من ناصريين، وبعثيين. أدار هؤلاء ظهورهم لتراثهم، وواقعهم الثقافي، والاجتماعي، لتنشأ على أيديهم حكومات الصفوة المغتربة عن واقعها، المنبهرة بالعلمانية، ولكن، على النمط الشيوعي، الذي يعتمد نظام الحزب الواحد، والدولة الأمنية. عطلت هذه النخب العروبية، حراك الوعي، وحراك الثقافة الحرة، والتنمية، وحراك تجديد الخطاب الديني، وقعدت بالأوطان، عقودًا من الزمان. وحين تساقطت هذه الأنظمة، مؤخرًا، في ثورات الربيع العربي، أسفر التحول المعلول، الناقص، الذي جرى، عن خرابٍ، ودمارٍ، وهجراتٍ جماعية ملحميةٍ، واضطرابٍ في العلاقات الدولية، وانبهامٍ للسبلِ، وحيرةٍ، مطبقةٍ. والآن، تقول الشواهد، إن الأزمة المزمنة، قد أخذت تعيد إنتاج نفسها، على نحوٍ جديد. ولقد مثل السودان، الذي هو موضوع هذا الملتقى، المختبر الذي جرت فيه تجربة الإسلام السياسي، التي قدمت أبلغ دليل على أن “أسلمة الدولة” تعني، بالضرورة، تقسيمها، وشرذمتها، وإجهاض طاقة دفعها، وتعطيل كل قواها الحية.

 

جدلية الديني والعلماني:

مالت النخب الحداثية السودانية، في معسكري العَلمانية، والدين، في ممارستهما السياسية، في الواقع السوداني، إلى نهج القفز على الواقع، والتغيير من أعلى إلى أسفل. فاتبعت نهج الانقلابات العسكرية، بدلا من العمل الوئيد من القواعد، صُعدًا إلى أعلى، طلبًا للتغيير. انتهت الانقلابات العسكرية، التي قام بها معسكرا العلمانيين، والإسلاميين السودانيين، إلى فشلٍ مدوٍّ. فالنخب التي قادت هذه المسيرة الطويلة، التي اتسمت بالإخفاق الشديد، لم تكن تملك إدراكًا عميقًا؛ لا للعلمانية، ولا للدين. فقد وقف وراء التجربة الطويلة المتعثرة، تصوران قاصران: فلا العلمانية، كوعاء للحريات، وللديمقراطية، وفصل السلطات، ولشفافية الحكم، ولحراسة الحريات والحقوق، كانت مفهومةً، ومطبقةً، كما ينبغي. ولا الدين، في بعده الروحاني، الذي يربط المجتمعات السودانية، بمرجعيته الأخلاقية، وقواعد تربيته، خاصة للنشء، وبوصفه رافعةً ساندةً لثقافتها الإيقاليتيريانية، التكافلية، التراحمية، كان، هو الآخر، مفهومًا، على نحوٍ صحيحٍ. فيسارنا العلماني، ديكتاتوري إقصائي، وإسلاميونا، ديكتاتوريون إقصائيون، بل، ورأسماليون أقحاح.

هناك عداء أعمي للفظة “ديني”، وسط قطاع عريض من العلمانيين. وهناك عداء أعمى للفظة “علماني” وسط قطاعٍ كبيرٍ من المتدينين. وهكذا نشأت حالة من الاستقطاب والانقسام المجتمعي، تتسم بالسير في خطين متوازيين، وبعدم الاستعداد، بل، وعدم القدرة على توليف المفاهيم. رغم أن “علمانية الدولة”، من جهة، و”روح الدين”، من الجهة الأخرى، لا يقفان على طرفيْ نقيض. فالذين يرون ضرورة أن تكون الدولة، بوصفها جهازًا إداريًا مُنسِّقًا لجهود الأمة، دولةً علمانية؛ أي محايدةً تجاه الأديان المختلفة، لا ينبغي أن يكونوا، بالضرورة، في نظر خصومهم، رافضين للدين، أو معارضين للتدين، ولقيمه الرفيعة. فمفهوم التدين، بوصفه ممارسة من مخلفات الماضي، لا دور لها في الحياة، سوى التعطيل، وحراسة التخلف، مفهوم أوشك على الانقراض. وقد قدمت تيارات ما بعد الحداثة نقدًا مهما جدًا في مراجعة الاستعلاء “العلموي”، الوضعي على الظاهرة الدينية. ومن ذلك، ما أشار إليه يورغن هبرماس حين قال إن الوضعية العلموية لا تنخرط في جدال مع الميتافيزيقيا. فبعد أن قامت بسحب البساط من الميتافيزيقيا، معلنةً أن الميتافيزيقيا لم يعد لها معنى، عجزت عن أن تجعل نفسها مفهومةً، إلا من خلال تقديم نفسها عبر مفاهيم ميتافيزيقية.

جاءت مفاهيم هبرماس، ومن يماثلونه، في نهايات الحقبة التي ساد فيها انجذاب قطاعٍ من المثقفين العرب صوب برادايم الحداثة الغربي، ما جعل الانتباه لخطأ الانجرار نحو الرؤية العلموية الغربية، بشقيها: الليبرالي والشيوعي، يحدث متأخرًا جدا. فلم يجد انعكاس نقد ما بعد الحداثة، لحقبة الحداثة، موقعه في الفكر العربي بالقدر المطلوب. أي، القدر الذي ينير الطريق لخلق ثورة فكرية وثقافية عربية، بارئةٍ من الاستلاب الغربي، من جهة، وبارئة من الانجرار صوب الماضي، من الجهة الأخرى.

حالة العداء المطلق للدين وللتدين، التي أذكتها التصورات الماركسية، اللينينية، الاستالينينة، الماوية، فضيقت على التدين، بل، بلغت حدَّ تجريمه، تبخّرت تمامًا مع انهيار المنظومة الشيوعية. ووضح أن غالبية البشر يظلون متدينين، بطريقةٍ أو بأخرى. بل لقد كانت الكنيسة البولندية، ذراعًا، قويًا، داعمًا لحركة “تضامن”، التي فككت النظام الشيوعي، وأعادت الحريات والديمقراطية في بولندا.

بقي التدين، كما هو واضحٌ من كل مسيرة التاريخ الإنساني، ظاهرةً مرتبطةً عضويًا بالتكوين النفساني للفرد البشري، وللجماعات البشرية، أينما وجدت. بل أثبت علم الاجتماع الدور التاريخي للدين في حياة المجتمعات. لكن، كما يرى هبرماس، فإن من اللازم على الوعي الديني، أن ينجح في اجتراح صيرورةٍ اندماجيةٍ في المجتمع الحديث. فعلى الرغم من أن الدين يمثل في الأصل، “تصورًا للعالم”، أو “فهمًا قائمًا على عقيدة”، يرى أن من حقه الوصول إلى السلطة، ليبني شكلاً من أشكال الحياة، في إطارٍ كليٍّ، فإن عليه الآن أن يعرف كيف يستغني عن هذا الحق. بعبارةٍ أخرى، على الدين أن يستغني عن الحق في احتكار التأويل، والتنظيم الشامل للحياة، نزولا عند شروط علمانية العلم، وضرورة أن تكون سلطة الدولة سلطةً محايدة، تتيح المجال العام للحريات الشاملة. ومن الناحية الأخرى، لا يحق للمواطن العلماني، طالما ارتضى أن يقدم نفسه كمواطن، أن ينكر إمكانية صحة التصورات الدينية المتعلقة بحقيقة العالم. ولا ينبغي من ثم، أن ينكر على المواطن المتدين حقه في التعبير عما يراه، بلغةٍ دينية، وطرح مواضيع من هذا النوع، للمناقشة العمومية. أكثر من ذلك، ينبغي على الثقافة العلمانية الليبرالية أن تطالب المواطن العلماني أن يجتهد من أجل ترجمة الدراسات الدينية المهمة، إلى لغة عمومية، واضحةٍ بالنسبة للجميع.

طروحات “لاهوت التحرر”، التي قدمت نموذجًا للدور الثوري التحرري للدين، في أمريكا اللاتينية، لم تجد، في تقديري، الانتباه الكافي، لدى اليسار العربي، ولدى الإسلاميين العرب. كما لم تجد إشارات هادي العلوي، الذي يعد التصوف طاقةً جماهريةً، احتلت في بعض منعطفات التاريخ الإسلامي، دور القوة الثورية، المعارضة، للتسلط، وللاستبداد، والظلم، ما تستحقه من التوسيع والاهتمام والتدارس. وهذان نموذجان فقط، وغيرهما كثير. لكن، يبدو أن لكل شيءٍ وقته. وحاليًا، يمكن القول، إن جهود المزاوجة بين العلمانية والدين قد أخذت تزداد. ولسوف أعرض، فيما هو مقبل من فقرات، لبعضٍ من نماذجها. رغم أن ما يجري، في هذه الوجهة، لا يزال، في تقديري، في طور البدايات، ولكنها بدايات واعدة.

يرى كمال عبد اللطيف، على سبيل المثال، أن هناك ضرورة مستمرة، لتجديد النظر السياسي وتطويره. ويعني هذا ألا يرتبط استخدام مفهوم العلمانية، في الجدل السياسي، في السياق العربي الإسلامي، الراهن، بدلالاتٍ متحجرةٍ، مغلقةٍ، ونهائية. بل ينبغي أن يتحول استخدامه، في هذا السياق، إلى مناسبة لإعادة انتاجه، وإعادة تعريفه في السياق السياسي المحلي، بدلالاتٍ، جديدةٍ، قادرةٍ، على أن تستوعب متغيراتِ المجال السياسي، في أبعاده المختلفة. يرى عبد اللطيف، أن علاقة السياسي بالديني ليست علاقةً رياضيةً، ومن ثم، لا يمكن تحويلها إلى عمليةٍ حسابيةٍ مغلقة. فهي في حقيقتها، مجالٌ قابلٌ للتفجير، وللتشظية، بتعبيره.

أصبحت “علمانية الدولة”، بمعنى وقوف مؤسسة الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان، وحراسة مبدأ كفالة حرية الفكر، وحرية الاعتقاد، وحرمة الضمير، شرطًا لازمًا، ليقوم التدين لدى الأفراد على الاقتناع، لا على الخوف. ويرى، عبد الله النعيم، على سبيل المثال، أن علمانية الدولة، التي يفرق النعيم بينها وبين علمانية المجتمع، ضرورية للغاية، لكي يمارس المتدين دينه بطريقةٍ أصيلة، صادقةٍ، لا نفاق فيها. يقول النعيم:

لكي أكون مسلمًا عن اقتناع، وإرادة حرة، وهي الطريقة الوحيدة لكي يصبح المرء مسلمًا حقيقيًا، فإنني أحتاج دولةً علمانية. وأعني بالدولة العلمانية تلك الدولة المحايدة تجاه الأديان المختلفة، وهي الدولة التي لا تدّعي، أو تقوم فعلاً، بفرض الشريعة؛ أي، القوانين الدينية للإسلام. فالشريعة الإسلامية، ببساطة شديدة، لا يمكن فرضها عن طريق القهر والخوف من مؤسسات الدولة … هذا ما أعنيه بالعلمانية، في هذا الكتاب؛ وهو، تحديدًا، وجود دولة علمانية، تيسِّر إمكانية نشوء التقوى، وسط الأفراد، انطلاقًا من اقتناعٍ صادق.

 

منح الرأي سلطة المقدس:

لا يزال أهل التصور الديني الجامد، يرون أن السماء، قد شرّعت للبشر، مرةً واحدةً وإلى الأبد، وذلك، منذ نزول القرآن. ويرون أن ذلك التشريع سيبقى على ما هو عليه، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وبسبب ذلك المفهوم لا ننفك نسمع أن “الشريعة صالحة لكل زمان ومكان”. غير أن الفقهاء الذين روجوا لهذا المفهوم، وللغرابة، لم يلتزموه، حقًا. فقد اضطرتهم تغيرات المجتمعات، واختلاف حاجاتها، بل، واختلاف الزوايا التي يرى منها الفقهاء، أنفسهم، الأمور، إلى أن يلحقوا آراءهم هم بالشريعة؛ أي بالمقدس، أو ما ظنوه مقدسًا، لتصبح أمرًا لا تجوز مناقشته، أو تعديله. وهكذا أصبحت آراء الفقهاء جزءًا من هذا المقدس، رغم مجافات كثير منها لروح الدين، بل وللفطرة السليمة.

جرى ادغام آراء الفقهاء في بنية المقدس، على الرغم من أن آراءهم، في حقيقتها، آراء “علمانية”. فهي ليست مقدسة، وليست نهائية، بحكم كونها اجتهاد عقل بشريٍّ، محكومٍ بإطارٍ ظرفيٍّ وسياقٍ تاريخي، بعينه. ولكن من أجل تكريس الاستبداد باسم الدين، وقفل الباب على أي مجتهدين جدد، أُعلن، ما سمي، “قفل باب الاجتهاد”. وهكذا تحول الفقه الإسلامي إلى كهنوت جديد، لا يختلف عن الكهنوت الكنسي، الذي ثارت عليه أوروبا قبل قرون. فحالة الخنق التي عانت منها أوروبا في العصور الوسطى، هي ذاتها، ما تعاني منها المجتمعات الإسلامية اليوم.

على ذات هذه الأرضية الفقهية، ومنهاجها غير المتسق، وغير المنسجم مع ذاته، نشأت، فيما بعد، حركة الإسلام السياسي، في تجلياتها المختلفة، لتمزج الاستبداد الفقهي، الذي منح آراء الفقهاء قوة المقدس، بالاستبداد السياسي، الذي وجد أن أفضل سبيلٍ لحماية استبداده الأرضي، هي نسبة آراء البشر العاديين، بل، وحتى القاصرين منهم معرفيًا، إلى سدة المقدس. وهكذا، أصبح وكأنّ الجهة التي تشرع، وتحكم، وتقتل، وتعذب، وتمارس الظلم، وتسلب الحقوق، وتقوم بكل التجاوزات، هي السماء.

لقد نشأت العلمانية، في السياق الإسلامي، مع نشوء الحاجة للفقه، منذ القرون الأولى للدعوة الاسلامية. كل ما في الأمر، أن التسويغ الذي نشأت به، وقد كان تسويغًا صحيحًا، انتهى إلى حصر حق ممارسته، إلى حدٍ كبيرٍ، في أئمة المذاهب. فرغم أن الحياة قد تغيّرت في القرون الأخيرة، بصورةٍ لا سبيل إلى مقارنتها بالأحوال سادت في زمان أئمة المذاهب، فقد بقي الناس يظنون أن حل أي معضلة فقهية، لا يزال متوفرًا في تلك المذاهب، رغم قِدم أحكامها، وعدم مناسبة كثيرٍ مما قالت به، لزماننا الراهن. وليس أدل على هذا الاستبداد بالرأي، والاصرار على خنق العقول، الذي أدغم آراءه الأرضية القاصرة، بقداسة، وإرادة السماء، من حادثة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، التي جرت في الربع الأخير من القرن العشرين، لمجرد أنه جاء بآراء من داخل بنية الفكرة الإسلامية، اختلفت عما يراه الفقهاء، في الأزهر، ورابطة العالم الإسلامي، والمؤسسة الدينية الوهابية السعودية، وجامعة أمدرمان الإسلامية، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف السودانية.

يحمل نشوء الفقه، حين نشأ، أقوى الدلالات على أن الديني لا يمكن يستغني عن العلماني. بعبارة أخرى، لا يوجد تشريع سماوي يتضمن من التفاصيل ما يستوعب قضايا الحياة المتجددة، التي يخطئها العد، والتي لا يمكن مقارنة سياقها وتعقيداتها الراهنة، بأي مما كان عليه حال المجتمعات في الماضي. فلا بد من أن يقوم العقل، ودعنا نسمه هنا، “الرأي البشري”، أو “الرأي العلماني”، بالمزاوجة بين روح الدين ومراده، وبين تفاصيل حاجات الناس المتغيرة دومًا. وعمومًا فإن قصة تكاملية الديني والعلماني، ليست جديدة.

فما يتصوره البعض، تضادًا، وتوازيا ثابتًا، بين الدين والعلمانية، تراه التيارات الفكرية الأحدث، مجالاً متداخلاً له طرفان يسهمان بحوارهما، ونقدهما لبعض، في انتاج سيرورةٍ كليةٍ واحدة. ويرى روبرت كولز، أن العلمانية، بوصفها نزوعًا للعقلنة، انبثقت من داخل بنية الدين نفسها، كما في حالة الكاثوليكية، التي وَلِدت البروتستانتية، من أحشائها. وكما لم يستغن المقدس عن العقلي، “العلماني”، كذلك لن يستغني العقلي، “العلماني” عن المقدس. ما كان من الممكن للدين أن يستمر في حياة الناس، لولا الحوار الذي لم ينقطع بينه، وبين ما هو “علماني”. وما كان من الممكن للعلمانية، أن تستغني كليًا عن قيم الدين. فلقد نشأت المجتمعات البشرية، أول ما نشأت، على التصورات الدينية وكل القوانين، والأعراف، التي نظمت علائق المجتمع في مختلف حقب التاريخ، ولدى مختلف الجماعات االبشرية، كان لها بعدٌ ديني.

 

 الدين والعلمانية وما بعد الحداثة:

لقد تنبه علماء الاجتماع، وعلى رأسهم ماكس ڤيبر، منذ القرن التاسع عشر، إلى دور الدين العضوي في المتشكل الاجتماعي البشري. يقول عزمي بشارة، إن ماكس ڤيبر لم يخالف ماركس، في التأكيد على أهمية الاقتصاد، في التحكم بحياة الناس. غير أن دراسة ڤيبر للظروف الاجتماعية والسياسية، التي كانت سائدة في أوروبا، وأمريكا الشمالية، في الفترة ما بين القرن السادس عشر، والقرن الثامن عشر، جعلته يضيف، أن المصالح، التي يسعى الناس لتحقيقها في المجتمع، لا تنحصر في المصالح الاقتصادية، وحدها. فهناك مصالح أخرى تتعلق بالقوة، والسيطرة، والمنزلة. كما أن اعتناق دينٍ معيّنٍ، والانتماء إلى جماعةٍ معينةٍ، قد يعينان على فهم الناس وصوغهم لمصالحهم. يضاف إلى ذلك، أن المنظومة الدينية الثقافية لجماعةٍ معينة، قد يكون لها أثرٌ في أخلاقية الجماعة، بحيث يُسهِّل هذا الأمر، أو يُصعِّب، التكيف مع منظومات اقتصادية بعينها. ويمكنني أن أضيف هنا، أن أخلاقية الجماعات السودانية، المستندة على القيم التكافلية، التراحمية، لروح الإسلام، وجوهر مقاصده، وللتصوف وقيمه التشاركية، يجعل من الصعب عليها، أن تقبل، أو تستسيغ الرأسمالية المتوحشة، التي أتي بها اسلاميو السودان، وفرضوها على البلاد بالاستبداد، المستند على دعاوى دينية. فالدين، في بعض تجلياته، يمكن أن يمثل، وقد مثل بالفعل، في بعض منعطفات التاريخ، قوةً جماهيريةً رافضة للظلم، وساندة للعدل والمساواة.

أدار النصوصيون الدينيون، منولوجًا طويلاً مع أنفسهم، أيأس الناس من الدين، ومن إمكانية تحقق الحرية، والعدالة، والمساواة الاجتماعية، والاستنارة، والاشباع النفسي والروحي، والجمالي، في إطار المنظومة الدينية. وهو ما فتح الطريق للفكر العلماني العقلاني لكي يسود، بل ولتتطرف بعض جدائله، فتصم الدين، في جملته، بالمرحلية. ثم، أمسك الفكر العلماني الدفة، منذ عصر الأنوار، لكنه، أدار، كما فعل دعاة الدين، منولوجًا، جديدًا، مع نفسه، ولكن في الاتجاه المعاكس. قادت “ثورة العقل” الحداثية، إلى تشكيل صورة للوجود وللحياة ظن أصحابها أن صورة “تقدمية” progressive. غير أن هذه الصورة، رغم إعلاء أهلها لها، رآها القطاع الأعرض من الناس متسمةً بالبؤس، والفقر المعنوي، رغم دعاوى التحرر والتقدمية، التي جاءت بها. فالإطار العقلاني، الجاف، الذي صنعته الوضعية، لم يتعد في تعريفه للإنسان، من الناحية العملية الواقعية، أكثر من كونه كائنًا منتجًا ومستهلكًا. ويمكن القول، بصورة عمومية، إن المحاولة، اليوم، إنما تنحصر في الحفر والتنقيب في المنطقة الواقعة بين هذين النقيضين.

ما من شك، أن هناك اتجاهًا متناميًا، لتسييل المفاهيم، ومنها مفهوم “ديني” و”علماني”، بعد فترةٍ جمودٍ، اكتنفت دلالاتهما، وحصرتهما في خانة التعارض المطلق، خاصةً، في الاستخدامات الفكرية والسياسية، في الواقع العربي المعاصر. فعلى النطاق الكوكبي، أخذت تنشأ تياراتٌ جديدة، تحت تأثير أفكار ما بعد الحداثة. وأخذت، هذه التيارات، تتناول إشكالية “العلمانية” و”الدين”، بعيدًا أطر الثنائيات القديمة، المتعارضة، التي طالما حبست كثيرًا من رؤى حقبة الحداثة، في قمقم الجمود.

لم تعد التيارات الأجد في الفكر الغربي، تقبل فكرة الأضدادdichotomies ، التي تسير في خطوطٍ متوازية، لا تلتقي؛ أو قل لا تتداخل، أو تتعايش، وإنما تتعاقب فقط. تتجذر فكرة التعارض الدائم هذه، في ثنائية الأطر المعرفية، لفكر الحداثة. يقول هيوستن سميث، إنه منذ أن اختار ديكارت أن يمخر بعيدًا عن الذات، أو النفس المؤسطرة؛ أي، عندما اختار أن يبتعد بتلك النفس عن بقية العالم، انغرست الثنائية في تراب الأبستمولوجيا الحديثة، وهكذا بقيت في مكانها ذاك. فقصة الفلسفة الغربية برمتها، في مرحلتها الحداثية، يمكننا أن نرويها، اليوم، بوصفها بحثًا، مستمرًا، عن جسر يربط بين العقل، وبيئته المحيطة، وبين الذات والموضوع، وهي ذات النطاقات، التي سبق أن باعد بينها ديكارت.

أما في إطار الفكر التجديدي، في الدين الإسلامي، فقد أخذ مفهوم المزاوجة بين العَلمانية، والدين في التبلور. فالعلمانية التي تعني، التركيز على تحسين حياة الإنسان في هذا العالم، الذي نعيش فيه، بناء على التراكم المعرفي والخبرات التي أنجزتها البشرية، والابتعاد عن إدارة شؤون الناس بالنصوص المقدسة، أخذت تلقى اعتبارها الموضوعي بين أهل التفكير الديني، الذين يرون أن الدين لا يمكن أن ينفصل عن حياة الناس، ولكن عليه أن يفهم حاجاتهم المتجددة، ويستجيب لها.

فالواقع الذي، يمكن أن نقول عنه، من منظور سوسيولوجي، إنه يجسد “العلمانية”، واقعٌ يعمل من خلال انبثاق، واندياح طاقاته، وحاجاته المتجددة، في الواقع الاجتماعي، في مختلف الثقافات، على دفع الدين من أفق أدنى، إلى أفق أعلى. والعكس، بالعكس؛ فإن ما يقوم به الدين، حين تتدنى تأويلاته، ويزداد ضيقه بحيوية الواقع، يصبح مدفوعًا بقوة، بتحديات هذا الواقع إلى مواجهة خياريْ: إما أن يتسع، وإما أن يخرج، كليّةً، من المشهد. وهذا هو ما يضطره لطرح نفسه في صورة جديدة.

عبر هذه الجدلية، حدثت الثورة على الكنيسة، في أوروبا. كما حدثت الثورة على المَلَكية، بوصفها مبنيةً على حقٍّ إلهي مقدس، للأسر الحاكمة، في الحكم. وعبر هذه الجدلية، خرجت البروتستانتية من رحم المسيحية؛ الكاثوليكية، كما أشار روبرت كولز. وهكذا، أيضًا، خرجت الثورة الفرنسية، ووُلدت الجمهورية. فحين تضيق أنماط التدين على جسد الحياة النامي، يتمزق ثوب التدين، ويبتعد عن مركز السيطرة، والتوجيه المباشر، وينزوي في الخلفية. ويضطر هذا الوضع نمط التدين السائد، إلى توسيع ثوبه، وتجديده، والعودة، من جديد، لمواجهة الواقع، ولكن، في صورةٍ جديدة.

لم نكن نحن، في السودان، بعيدين عن الحد القاطع للفكر البشري، وهو يستشرف مجال المزاوجات الذكية. فقد كتب الأستاذ محمود محمد طه، منذ نصف قرن، عن جدلية الواقع والدين، من منظورٍ متسقٍ، تمامًا، مع علم الاجتماع، ومع ما استجد لاحقًا في تيارات ما بعد الحداثة. جاء في أحد نصوص الأستاذ محمود محمد طه عن “فكرة الدين”، ما يلي:

هذه الفكرة الواحدة، نبتت في الأرض، كما نبتت الحياة بين الماء والطين، وظلت متجاذبة بين أسباب السماء وأسباب الأرض. وكلما ألمّت بها أسباب السماء، رفعت قمّتَها. ثم إذا ألمت بها أسباب الأرض، أخذت قمتها تتطامن نحو القاعدة، حتى تطمئن. فتتسع القاعدة، وتنحط القمة. واتساع القاعدة هذا، إنما هو استعداد لارتفاع القمة، إلى قمةٍ جديدة، أعلى من سابقتها، عند إلمامة أسباب السماء المستأنفة. وإلمامة السماء في الأوج، نسميها زمن بعثة، وإلمامة الأرض في الحضيض، نسميها زمن فترة. وهكذا ظلت هذه الفكرة الكبيرة، تسير في مراقي الاكتمال، كما تسير الموجة، بين قمةٍ وقاعدة. وكل قمةٍ أعلى من سابقتها، وكل قاعدةٍ أوسع من سابقتها، إلى أن التحقت الأرض بأسباب السماء، أو كادت.

فاتساع القاعدة، وهو مجمل أحوال الناس التي يشيدونها بوسائلهم، متخطين في منعطفات كثيرة منها، حدود بعض تشريعات الدين، وموجهاته، بعد أن ضاقت، يمثل في نظر الأستاذ محمود، تهيئة للمسرح، تمكِّن الدين من العودة، ليخاطب الواقع، في مستوىً جديد. بعبارةٍ أخرى، إن ابتعاد الدين، تحت ضغط اتساع قاعدة الحياة، الذي ينتج منه خروجها عن قوالبه، هو الذي يهيئ المجال للدين للعودة، من جديد، ولكن في صورة أرقى من سابقتها. ولذلك، فإن الدين الذي يغيب عن المسرح، ثم لا يلبث أن يعود إليه، ليغيب مرة أخرى، لا يكون هو النصوص القابضة الحاكمة، المتسمة بانغلاق النهايات. لأن هذه النصوص الحاكمة، هي التي ضاقت، عمليًا، فاضطرت حيوات الناس، المتطورة دومًا، لكي تنفلت عن قبضها. فالدين لا يعود بنفس الصورة التي كان عليها قبل أن يغيب عن حياة الناس. وهذا هو ما حدث للديانات الكتابية التي تعاقبت على مسرح الحياة. فقد جاءت كلها بروح الدين، ولكنها جاءت في كل مرحلة بتشاريع متفاوتة، من حيث القرب من روح الدين.

أما روح الدين فهو ما لن تنفلت الحياة من قبضته. وروح الدين في القمة، هي المثال الأعلى للقيم الإنسانية، المتمثل في، الأمن والحرية، والعدالة، والمساواة، وسائر الأحلام البشرية الكبيرة، التي ظلت منتظرةً عبر حقب التاريخ. وتحكي هذا المفهوم، الآية القرآنية، التي تقول: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا، وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ ،كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ”. فإقامة الدين وعدم التفرق فيه، تعني إقامة روحه، وليس تشريعاته المرتبطة بقيود ظرفية تاريخيه. فرغم أن تشريعات كل من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى تشريعات مختلفة، إلا أنهم جميعًا يشتركون في “روح الدين”. وهذا ما أمروا بألا يتفرقوا فيه. أما من حيث التشريعات، فهم متفرقون فيها أصلا، بحكم اختلاف أزمنتهم، وأمكنتهم.

يعكس الدين في حقيقته، المثال. وفي مستوى المثال، لا تختلف الفلسفة، أو علم الاجتماع، مع الدين. أما الطرف الذي يُعاش ويُتمثل في حياة الناس، فهو يقع في دائرة أنماط التدين. وهو لا يعكس، بالضرورة، “روح الدين، ذاتها، وإن استلهم بعضها، وجسدها في الواقع. تتعارض التشريعات مع “روح الدين”، في حالات الإصرار على التفسيرات الحرفية الجامدة للنصوص. ومن ذلك، على سبيل المثال، التمسك الآن بحقوق المرأة المرحلية، التي منحتها لها الشريعة الإسلامية في القرن السابع الميلادي. وكذلك الإصرار على حكم الردة، أو الاصرار على قتل تارك الصلاة إن هو أنكرها، أو كسل عن أدائها. وكذلك، الاصرار على تشريع الرق، واتخاذ الإماء. فأنماط التدين، تتغير بتغير الأزمنة، وفي ذلك، فهي تتوافق مع اجتراحات العلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية، أو تتعارض معها.

ظلت “روح الدين”، وهو تعبير صكه طه عبد الرحمن، وكان عنوانًا لأحد كتبه، تأتي على أقساط مع النصوص الحاكمة، في كل عودة من عودات الدين، بقدر ما يطيق الناس. وقول الأستاذ محمود، إن الأرض قد التحقت بأسباب السماء، أو كادت، مما ورد في النص الذي أثبته له، في الفقرات السابقة، تعني، مقروءةً مع كثير من إشاراته الأخرى، المبثوثة في كتاباته، أن الفرد البشري قد أصبح قادرًا على “التلقي الكفاحي”، من الله. وتحمل عبارة “التلقي الكفاحي” من الايحاءات الصوفية التاريخية، ما قد يجعل بعض العقول المعاصرة، تراها تعبيرًا صوفيًا، مغموسًاً في إدام الغنوص والابهام. لكن ما تعنيه، حقيقيةً، هو أن نهاية عهود الكهنوت الديني، قد أزفت. فقد ارتقت العلوم، وارتقت الفهوم، وأصبحنا نستقبل شروق شموس الأفراد الراشدين، القادرين على إدارة معارك إنزال المثال إلى أرض الواقع، وفق نهج تعاقدي سلمي، يحتضن الجميع، بمختلف مشاربهم. فالنظرة الثاقبة تقول، ليس هناك فكر ديني، وفكر علماني، منفصلين، تمامًا. هناك فكر إنساني ما انفك يهفو، لكي يصبح جديلة واحدة، مجدولة من مختلف الشعيرات. وقد ظل هذا التوق للوحدة والاتساق والمؤالفة، ينمو باطراد، خاصة في نهايات القرن الماضي. وقد استوى، هذا الحراك، الآن، على سوقه، أو يكاد. وقد أخذ يُعجب الزُّراع من المبصرين. غير أنه، لا يزال يبعث الدهشة، والعجب، بل والتوجس، وسط من بقوا أسرى للثنائيات القديمة المتعارضة.

 

“ما بعد الحداثة” وحقبة الروحانية:

انبثق الاتجاه لإعادة الاعتبار للروحانية، من جديد، وربطها، عضويًا، ببنية العقل والنفس البشرية، من بنية التيارات الفلسفية الناقدة لحقبة الحداثة. وهي تيارات انبثقت، في الأصل، من التصورات العلمانية، نفسها، حوالي أواسط النصف الثاني من القرن العشرين. يعد الناقدون لبرادايم الحداثة، تجفيف الحداثة للروحانية في عالم اليوم، مجرد انقلابٍ متعجلٍ على سيرورة بالغة الطول. كما يرونه، انقلابًا غير متسق مع البنية الكلية، لتلك السيرورة الطويلة، التي امتدت منذ فجر الخليقة، حتى العصور الحديثة. يقول موريس بورمان، “إن التاريخ الإنساني ظل، ولأكثر من 99% منه، تاريخًا مروحنًا، رأى الإنسان نفسه فيه جزءًا متكاملاً معه. وقد أحدث العكس الكلي لهذا التصور، والذي حدث في الأربعمائة سنة الأخيرة، تحطيمًا لاستمرارية التجربة البشرية، ولتكاملية البناء النفسي للإنسان.”

ويرى زوهار، ومارشال، في بحثهما المهم، عن “الذكاء الروحي”، أن الفلسفة التي قامت على رؤية نيوتن للعالم، التي اتسمت بالذرية، atomism، أو قل، “الفردانية الاجتماعية”، أو “التذرية الاجتماعية”. كما اتسمت بالحتمية، determinism، والهدفية، objectivism، التي ولّدت وَهْمًا مفاده، أن كل شيء في العالم الطبيعي، يمكن التنبؤ به، كما يمكن، من ثَمَّ، التحكم به”. فالثورة العلمية التي أتى بها اسحق نيوتن ورصفاؤه، لم تقتصر على وضع الأساس للثورة العلمية، التي قادت للنهضة الصناعية، وحسب، وإنما تعدت ذلك، بأن جلبت معها تأثيرات سلبية، تمثلت في التآكل العميق للعقائد الدينية التقليدية، والرؤى الفلسفية التي شكلت الأساس للمجتمعات البشرية، حتى ذلك الوقت.

ويؤكد زوهار، ومارشال، أن التطور التقني، الذي قام على فيزياء نيوتن، وتصوره للعالم، قد جلب معه بركاتٍ كثيراتٍ، ولكنه أيضًا، جلب معه، في ذات الوقت، لعناتٍ كثيراتٍ. فقد اقتلعت الثورة التقنية، الناسَ من أرضهم في الأرياف، ودفعت بهم إلى المدن الكبيرة. كما أنها أربكت حركة نمو المجتمعات، بما قادت إليه من إضعاف للروابط الأسرية، وإزاحة للتقاليد الموروثة، والحرف اليدوية. لقد تم اقتلاع المعاني المصاحبة لأنماط العيش القديمة، من التربة التي نمت فيها. ثم جاء، بعد ذلك، الخطاب الفلسفي، الذي قام على النظرة النيوتونية للعالم، ليكمل الأمر، باقتلاع روح الإنسان نفسها.

لكن من الضروري أن نقول إن الثورة العلمية التي دشنتها فكرة نيوتن عن العالم، قد استتبعت ثورة فلسفيةً، ووعيًا سياسيًا نضاليًا، بهما تخلصت أوروبا من قبضة الكنيسة، والكهنوت. وانطلقت، من ثم، البرجوازية الأوروبية، في مشوار التحرير، الذي قام على التأكيد على حرية الضمير، وعلى التأسيس للحقوق الأساسية، وترسيخ التجربة الديمقراطية في ممارسة الحكم. لقد كانت تلك الصورة الجديدة للعالم، التي رسمها نيوتن، ضرورية جدًا، ليصبح التحرير ممكنًا. إذ لولاها، ما تجرأ الأوربيون، ولا قدروا، على مناهضة سلطة الكنيسة، التي ظلت تحرس بالعصا الغليظة، صورةً راكدةً للعالم، وللمجتمع، عاشت قرونًا طويلة.

 

تمازج الأضداد وفجر الروحانية الكونية:

لا تمكن المزاوجة، ولا التوليف، بين الفكرة العلمانية، والفكرة الدينية، في مستوى التصورات الفقهية المدرسية للدين، وإنما على مستوى الرؤية الروحانية الكلية، اللّامة، المبثوثة في جميع الأديان، على اختلافها، وكذلك، في مرتكزات البنى المجتمعية، التي تأسست، منذ فجر الخليقة، على تصور ديني للعالم، ذي بعدين؛ أحدهما محسوس، والآخر غير محسوس. في مستوى هذه الرؤية اللّامة، التي يتداخل فيها التصوري الديني، مع الواقعي الاجتماعي، تتبدى الاعتمادية المتبادلة بين الدين، من جهة، والعلوم الطبيعية، والإنسانية، من الجهة الأخرى. فالعلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية، لم تعمل، كما يظن البعض، وبالضرورة، لهدم الدين، كما أشارت دوروثي داي لروبرت كولز، وإنما ظلت تعمل، كما أبانت تيارات ما بعد الحداثة، لتوسيع ماعون الدين، وللحفاظ على المعنى، داخل حيوات البشر، حتى لا يضيع. والبحث عن المعنى هو الذي ألجأ الإنسان للتدين حين أرهبت جنانه البيئة المحيطة، عند فجر الخليقة. ولذلك، فالتدين ليس حالة عارضة. وكذلك، فإن صمود التدين، أمام العلم الحديث، وأمام تيارات الفكر الحديث، وأمام الانظمة السياسية الحديثة، التي حاولت أن تفرض العلمانية كنظرة إلى الكون، هو الذي جعل العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، تتجه، تحت ضغط هذا التحدي الاجتماعي القاعدي، الهائل، إلى توسيع ماعونها، أيضًا. وكما يرى هبرماس فإن ما يحدث لثقافةٍ ما من معالجات، ما، بواسطة النخب، لا يصبح في التو، وبالضرورة، مملوكًا لواقع الحياة اليومية.

ولتقعيد هذه الرؤية، على مستوى النقد “الفكري/سياسي”، العصري، يمكن اللمس على طروحات حماة البيئة، التي هي طروحات فلسفية، في المقام الأول، وليست مجرد حراكٍ سياسيِّ لنشطاء، وحسب، كما يظن كثيرون. فلسفة حماة البيئة تقوم على مفهومٍ عميقٍ لوحدة الوجود، في تمثلاتها، اللاعضوية والعضوية، من جهة، وتمثلاتها العقلية/الروحانية، من الجهة الأخرى. هذه الرؤية صاغها كلود ليڤي شتراوس، حين قال:

الإنسانوية، المرتبة ترتيبا جيدًا، لا تبدأ بنفسها، وإنما تعيد الأمور إلى أماكنها حيث ينبغي: إنها تضع العالم قبل الحياة، وتضع الحياة قبل الإنسان، كما تضع احترام الآخرين قبل حب الذات. هذا هو الدرس الذي يدرِّسنا له البشر الذين نسميهم “بدائيون ومتوحشون”؛ إنه درس التوسط والاعتدال، والأدب والخشوع في مواجهة عالمٍ سبق كائناتنا، وسيبقى من بعدها.

لقد انتجت الرؤية العلمانية للكون، الاقتصاد الرأسمالي. ورغم أن مرحلة التطور الرأسمالي كانت مرحلة ضرورية لتطور الحياة البشرية، فإن الخروج منها يصبح شرطًا، لكي تحتفظ كل من الحياة الطبيعية والحياة الاجتماعية بتوازنهما. لقد اتضح، وبصورةٍ فاضحةٍ، قصور النظرة المادية، الرأسمالية، الاستهلاكية، التي ترى في البيئة الطبيعية، والبيئة الاجتماعية، مجرد مورديْن لمراكمة الأرباح. فالعلمانية بهذا المعنى، تمثل أبشع أنواع الوثنية. فالوثن الأكبر في عالم اليوم، هو وثن الربح، الذي غايته الربح، لا غير، وعلى حساب كل شيء آخر. وهنا تصبح الرؤية الدينية القائمة على روح الدين، ضرورية للغاية. وقد ناقش غارودي هذه الإشكالية حيث قال، عن نمط اقتصاد السوق، الذي تعتمده الرأسمالية المتوحشة:

مثل هذا الاقتصاد يستند إلى تصور للإنسان مقصورًا على بعدين وحيدين: الإنسان منتجًا ومستهلكًا. وفي مرحلة الرأسمالية الصاعدة أعطاه “”هوبز” هذا التعريف المقتضب: “الإنسان ذئب الإنسان”. والمسألة التي ستكون وحدها هي الحاسمة هي: مسألة وحدة العالم وغايات الإنسان الأخيرة، التي لا يمكن أن يطرحها رجال الاقتصاد والسياسة، الذين يقبلون بمسلَّمة هوبز؛ مصدر جميع أنواع العنف على مستوى الأفراد، وكذلك على مستوى الأمم. هذه المشكلات الاقتصادية والسياسية تستند في نهاية الأمر، إلى مشكلة الغائية؛ أي، إلى مشكلة دينية.

الإخلال بشروط العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية، وبشروط العلاقة بين الانسان، والبيئة الاجتماعية، هو الكارثة العظمى التي تواجه عالم اليوم، وتهدده بالدمار الشامل. وهذا أمر أخذ يحدث، ولأول مرة، في تاريخ العالم، على مستوى الدول الصناعية، والدول النامية، سواءً بسواء. فالمنظومة التصورية، “الرأسمالية/الوثنية”، المهيمنة على عالم اليوم، تدمر البيئة الطبيعية، والبيئة الاجتماعية، معًا، من غير هوادة، وبصورةٍ غير مسبوقةٍ، في كل التاريخ الانساني. إن التحدي الذي نواجهه اليوم، تحدٍّ أخلاقي، في المقام الأول. وقد أضحى هذا التحدي، يواجهنا جميعًا، دون استثناء، وعلى قدم المساواة؛ يستوي في ذلك، ما توصف بأنها دول صناعية كبرى، وما توصف بأنها دول نامية. هذه هي، في تقديري، الزاوية المتاحة لنا الآن، للنظر الفلسفي، التي يمكن أن نلج منه إلى المؤالفة بين “العلمانية”، من جهة، و”روح الدين”، من الجهة الأخرى.

 

في تلمس المخرج:

لقد كان من الضروري أن يصل الإسلاميون إلى دست الحكم، حتى يتضح أن “تديين”، الدولة، وهي مجرد جهاز بيروقراطي منظم ومنسق لجهود الأمة، ليس سوى شعارٍ بلا محتوى. ولقد قدمت التجربة السودانية، في ربع القرن الماضي، أبلغ دليلٍ على فراغ هذا الشعار من المعاني العملية، وعلى عدم جدواه. فلا علاقة البتة بين رسم سياسات تنموية، واقتصادية، وتعليمية، وسياسة علاقات خارجية، ناجحة، ومثمرة، وبين الشريعة الإسلامية، الموروثة منذ القرن السابع الميلادي. فحين شرعت حكومة نميري في ممارسة ما أسمته “تطبيق الشريعة الإسلامية”، بتشجيعٍ، ومشاركة من الإسلاميين، لم ير الناس شيئًا إيجابيًا، يتعلق بأمر معاشهم، وتقدم اقتصاد بلدهم، وازدياد معدلات نهضتها. ما رأوه، حصرًا، كان قانون عقوبات بالغ الوحشية، وتجاوزاتٍ فظيعةً في إجراءات التقاضي. ويمكن القول، دون أدنى تردد، إن إجراءات التقاضي الموروثة من الحكم البريطاني، كانت أكثر توخيًا للعدالة، ولحفظ حقوق المتهمين، وكرامتهم الانسانية، مما قامت به “محاكم الطوارئ”. ولو نحن نظرنا جديًّا إلى الجوهر، وإلى المعني، كما ينبغي أن ننظر، واصطحبنا في رؤيتنا، روح الدين، لوجدنا أن القانون الموروث من الاستعمار البريطاني، هو القانون الإسلامي، حقيقةً، وليست قوانين سبتمبر، وممارسات محاكم الطوارئ التي سميت إسلامية.

يضاف إلى ما تقدم، فقد اتضح أن اختيار الطامعين في السلطة للقوانين الإسلامية، لم يكن من أجل تحقيق حياة أفضل للناس، بقدر ما كان من أجل إعادة أنماط الحكم المطلقة، وصور الاستبداد القروسطي، التي خلفتها كثيرٌ من الأمم، وراء ظهرها. فرافعوا شعار “أسلمة الدولة”، إنما يريدون إعادتها مرةً أخرى، تحت مظلة الدين، ليحولوا دون ارتفاع أصواتٍ معارضة لحكمهم. فتحت اللافتة الإسلامية، يصبح من يعارضهم، معارضًا لحكم الله، ولمشيئة السماء. وتحت اللافتة، الاسلامية الزائفة تجري المراهنة على العاطفة الدينية الفجة، وسط الجهلاء، فيُمنحوا حيزًا في المجال العام، لم يكن من الممكن أن يحتلوه بغير هذه الصيغة. وهكذا يجري عزل النخب، عن طريق دمغهم بـ “العلمانية”، التي لا ينفك التشهير بها، وإلصاقها بالكفر والإلحاد. وهكذا ينقلب الهرم الاجتماعي، رأسًا على عقب، وتسير، من ثم، عقارب الساعة إلى الوراء. ولقد قدمت التجربة السودانية، في كل هذه الأمور، أبلغ الأدلة والشواهد.

إبقاء الدولة “علمانية”، من حيث تنسيق العلائق بين مواطنيها، على قدم المساواة، وإدارة شؤونهم، وفق ضوابط القانون، ومنحهم حق الاعتراض، هو الذي يحفظ لها “إسلاميتها”. فمجرد الصاق بطاقة “إسلامية”، أو “شرعية” عليها، لا يعني شيئًا حين تتضمن هذه “الإسلامية”، أو الشرعية”، تقنينًا للتفاوت في الحقوق أمام القانون، أو ترسيخًا للقهر وللاستبداد، أو لمصادرة الحريات، وتطفيف مبادئ العدل. فالنظر الجوهري الذي يهتم بحقيقة المعاني لا ينصرف عن جوهر القيم بالبطاقات الزائفة وبالشعارات.

كل جهدٍ “علماني” لتيسير حياة الناس، وتوسيع نطاق حرياتهم، ورفع العنت عن كاهلهم، وتطوير أساليب عيشهم، وإخراجهم من ربقة الفقر، والجوع، والمرض، والجهل، وحفظ كرامتهم الإنسانية، هو جهد “إسلامي”، أيًا كان مصدره. وكل جهد يكرس الاستبداد والقمع، ويغمط الناس حقوقهم، ويحبسهم في خانة العوز، وقلة الحيلة، وفي متاهات البطالة، ويغلق أمام أعينهم نوافذ الأمل في الغد، ويعطل تقدمهم، ونموهم العقلي، والوجداني، فهو جهد “كُفري”، “وثني”، بل، هو، من حيث النتيجة العملية، طغيانٌ وفسادٌ في الأرض. هو كذلك، مهما اختار له أهله من الأسماء المضللة. ولذلك، فإن مدلول كلمتي “علماني”، و”ديني”، في مستوى شكل الدولة، ودور الدولة، بحاجة إلى إعادة نظر، بعيدًا عن العواطف الفجة، والأشواق الدينية الكاذبة.

أما “العلمانية” بوصفها رؤية للكون، ينبني عليها أسلوب للحياة الشخصية، يمارسه صاحبه، أو صاحبته، بعيدًا عن أعين المجتمع، فهو أمر لا يعني الدولة، ولا يعني المجتمع، في شيء. فخطاب روح الدين يقول: “وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر”. وعمومًا، فإن مجال مثل هذه الخيارات، في مجتمعنا محدود جدًا. ومع ذلك، فالحق فيها مكفول لأهلها، طالما لم يخرقوا القوانين الدستورية التي تنظم حياة المجتمع. ولذلك، لا ينبغي أن يشغل أمرهم بال شخصٍ رشيدٍ مدرك. ولا ينبغي أن يتخذ دعاة “الدولة الإسلامية” وجود مثل هذه الخيارات، لدى البعض، وهي خيارات لم يخل منها مجتمعٌ، لا في القديم ولا في الحديث، ذريعةً للقمع العام، والاستبداد، ومصادرة الحقوق المشروعة، باستخدام فقه سد الذرائع المصادر، بطبيعته، للحريات الشخصية، بل والحريات العامة، بل وللحق في التفكير، والتعبير عن الرأي.

 

خاتمة:

لقد آن الأوان لكي يخرج الجدل حول “علمانية” و”إسلامية الدولة” إلى دائرة جديدة، غير تلك التي ضمته لعقودٍ طويلة، واتسمت بالتبسيط الشديد، وبالسطحية. لقد كرس لحالة الدوران في تلك الدائرة غير المنتجة، وقوف أكثرية المثقفين العرب على السياج، في قضية الاصلاح الديني.  فقد اكتفوا بالفرجة، ظنًا منهم أن القضية لا تعنيهم، وإنما هي جدلٌ داخل سور الدين، لا شأن لهم به. ولربما كان لاعتقادهم أن الدين ظاهرة انقراضها حتمي، دور في وقوفهم على السياج، على ذاك النحو. لكن، اتضح بما لا يدع مجالا للشك، أن الدين باق في حياة عامة الناس. وهو لن يخرج منها، لأنه مثّل، منذ فجر الحياة على هذا الكوكب، استجابةً طبيعيةً لحاجة عميقة في نفوس البشر، تتعلق بإيجاد معنى للوجود، ومصدرًا للطمأنينة من المخاوف الوجودية. وقدرة الدين، بمختلف صوره، على مخاطبة هذه الحاجة، لدى عامة الناس، لا تماثلها قدرةُ أخرى، على الاطلاق. لكن، بقاء الدين وسط العامة، بمفاهيمه القديمة، المناقضة لكل صور الحداثة، جعل منه أداة للتخريب والانتكاس، لا تماثل قوتها، وخطرها، قوةٌ أخرى. ومن ينظر إلى ما جرى في العقود الثلاث الأخيرة، من تهديد الارهاب، والهوس الديني، للاستقرار ولأمن الشعوب، يدرك حجم الإشكالية.

تقف المفاهيم الدينية الإسلامية القروسطية، عقبة كأداء في وجه جهود التحديث، والتنوير، والدمقرطة. ويعود بقاء هذه المفاهيم، واستمراريتها، في شرقنا العربي الإسلامي، إلى حدٍ كبير، إلى ترك المثقفين، الحبل على الغارب، لرجال الدين، والإخلاء بينهم، وبين الجمهور، بالكلية. لقد خلق تحاشت غالبية المثقفين مناقشة قضية الدين، وتركتها بالكلية لرجال الدين وللجمهور، ما أبقى مجال الجمهور ومجال النخب، مجالين متوازيين لا يتداخلان. وهكذا وقعت غالبية الجمهور، في قبضة رجال الدين. فبعدت عقولهم عن روح الدين، والتصقت بحرفه.

إن نهج الإصلاح الديني هو النهج الأمثل للنهضة، لأنه نهج غير نخبوي، لا يبعد العامة عن مائدته. فالمثقف العميق الفكر، لا يتجه لنسف فكرة الدين من جذورها، وإنما يتجه لإصلاحها. فالدين متشكل اجتماعي تاريخي، قائم. وهو، من ثم، بنية لا يمكن تقويضها، ولا ينبغي أصلاً تقويضها، كما أنها، لا يمكن تجنب الاشكالات التي أخذت تسببها في الواقع الحياتي اليومي، على مستوى الكوكب، كما في ظاهرة الارهاب، بمجرد تجاهلها والالتفاف من حولها. يضاف إلى ذلك، أن التدين حمل في بعض تجلياته طاقةً ثوريةً تقف وراءها قوة جماهيرية بالغة الضخامة، وكذلك تنظيمات مجتمعية قاعدية، كما في الطرق الصوفية. وتبقى هذه القوة الضخمة، في مجتمعاتنا، عرضة لأن يستخدمها الجهلاء، أو المغرضون، لإرجاع الحياة إلى الوراء. كما تبقى في نفس الوقت موردًا، ثرًا، ضخمًا، يمكن أن يستغله الخيّرون المستنيرون، لدفع الحياة إلى الأمام. فإذا لم يدخل المستنيرون في دائرة الجدل الثائر حول قضية الدين والعلمنة، بخطاب مرتكز على روح العلمنة، وعلى روح الدين، في ذات الوقت، فإن هذه القوة بالغة الضخامة تنتهي في يد الجهلاء، وأهل الغرض، من الطامعين في السلطة والثروة، على حساب الجميع. وهذا ما نراه اليوم جاريًا، خاصة في السودان.

يمثل توليف المفاهيم، التي تبدو، لدى النظر القصير، مفاهيم متعارضة، تعارضًا كليًا، ومنها مفهوم “علماني”، و”ديني”، مدخلاً لانخراط النخب في معركة الإصلاح الديني. ويلزمني التنبيه هنا، أن معركة الإصلاح الديني، لا تقف عند الدين، وإنما تتعداه لتشمل إصلاح العلمانية ذاتها. فالمصطلحان بحاجة إلى إعادة الانتاج داخل فضاء التدين، وداخل فضاء العلمانية، بعد إخراجهما من دائرة الثنائيات المتعارضة التي احتوتهما منذ فجر حقبة الحداثة. بالانخراط في جدل الاصلاح الديني يجري اصلاح العلمانية الاجتزائية، الانتقائية، التي عاشت عليها نخب البيئات الاسلامية، فأصبحت غريبة في أوطانها. وقد لفظت الأوطان الأم قطاعًا منهم، فغاصوا في المهاجر البعيدة، معلقين إلى حد كبير، بين السماء والأرض. وبقي القطاع الأكبر في الأوطان الأم، على هامش ما يجري فيها، فأضحى فيها، غريب الوجه، واليد، واللسان، وحين يتحدث، إن هو وجد مجالاً للحديث، فإنه يرطن رطانات لا يفهمها أحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى