
مراجعة كتاب “ما بعد العلمانية في نقد بارادايم العلمنة” للمؤلف مجدي عزالدين حسن
أ. محمد الأمين خراشي
مقدمة:
يشير العنوان الفرعي للكتاب “نقد برادايم العلمنة” بحسب ما خطه كاتبه، إلى النقلة البرادايمية النقدية التي تحول معها نموذج العلمنة كما جرى فهمه في الأدبيات الكلاسيكية إلى طور نظري جديد أصطلح عليه ب “ما بعد العلماني”. وذلك نتيجة للنقد المتواصل لمفاهيم كثيرة أُنتجت في سياق الحداثة ومنها مفهوم العلمانية. إن الكتاب يشرح أولا الإطار النظري والمفاهيمي للعلمانية، ومن ثم يوضح المشكلات التي وقعت فيها وحتمت بدورها حدوث النقلة نحو نموذج جديد. ويتخذ الكاتب إبتداء موقفا تشكيكا ونقديا إزاء السرديات الحداثية الكبرى، والتي تشمل الخطابات والممارسات التي ساهمت في تشكيل “العلماني”. فمن جهة يسعى الكتاب إلى تتبع تاريخ مفهوم “العلماني”، ومن جهة أخرى يروم تغطية “ما بعد العلمانية” بوصفه منعطفا جديدا داخل حقل الدراسات الفلسفية والسيوسيولوجية المعاصرة. وفي إطار ذلك، يطالبنا الكاتب بتوخي الحذر في تعاطينا مع مفهوم “ما بعد العلمانية” وباعث ذلك هو أن المفهوم نفسه لا يمثل مقولة واحدة، وإنما وجهات نظر متعددة ومتنوعة، وأحيانا متعارضة. يغطي الكتاب أربعة فصول أساسية: الأول؛ عن العلماني، والثاني؛ يتناول ما بعد العلماني أو العلماني البعدي. أما الثالث؛ فجاء عن مقولتي (عودة الدين) و (إزالة العلمنة)، والفصل الرابع، يقرأ فيه المؤلف هذا النقاش النظري حول العلمانية ومنعطفاتها الجديدة من خلال سياقه الثقافي والاجتماعي، والذي أصطلح على تسميته ب “الأصولي”.
حول مفهوم العلماني:
يشير الكاتب في إطار تتبعه التاريخي للمفهوم، إلى أن “ثمة جذور للعلمانية في الفكر والفلسفة اليونانيين” وهو يشير هنا إلى صورة الله وعلمه وعمله في الفكر الأرسطي، والذي لا يعدو كونه مجرد خالق للعالم، دون تأثير أو تدخل فيه. إذ تقع مسؤولية رعاية شؤون العالم وتدبيره على الإنسان، هذا على صعيد الفلسفة. من جهة أخرى، فإن هناك وجهات نظر تؤكد على أن للعلمانية بذور كامنة في المسيحية والتي لم تنشئ بدورها دولة، وإنما تغلغلت داخل “كيان سياسي قائم هو الامبراطورية الرومانية”. لذلك لم يكن يطمح المسيحي في أكثر من أن لا تمنعه الدولة القائمة من ممارسة دينه وإقامة شعائره. مع إشارة الكاتب لمراحل أخرى تفوقت فيها الكنيسة على السلطة الزمنية، وصولا إلى سيطرة نموذج الدولة القومية التي قامت فوق الاعتبارات الدينية. وفي هذا السياق استعمل مصطلح (علمنة) للإشارة إلى “عملية نقل ومصادرة الأديرة والأراضي والأوقاف التابعة للكنيسة واستملاكها لصالح الدولة”.
عبر تتبع تاريخ المفهوم يقف الكاتب على العلاقة بين العلمانية والإصلاح الديني وعلاقتهما بالنهضة الأوروربية وتشكل الدولة الحديثة. ويؤكد، نقيض ما هو شائع، على أن الإصلاح الديني وحده لم يؤدي لا إلى العلمانية ولا إلى الدولة الحديثة، وإنما أنتج الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت والتي انتهت بعد 81 عام من حركة لوثر الإصلاحية. ويترتب على ذلك، أن هناك أربعة عوامل متداخلة هي التي ساهمت في تقويض النظام التصنيفي الديني، وهي: الإصلاح البروتستاتني، ونمو الرأسمالية الحديثة، ونشأة الدولة الحديثة، ومن ثم بداية الثورة العلمية. وساهمت هذه العوامل مجتمعة في السيرورات الحديثة للعلمنة.
يتطرق الكتاب إلى مفهوم العلمانية من ناحية فلسفية والذي يعني كما يوضح تفسير الحياة الإنسانية على مبادئ مادية مستقلة عن الدين. ويشير المفهوم داخل حقل الدراسات السوسيولوجية إلى التحولات المجتمعية من هوية مغلقة مرتبطة بالقيم الخاصة بالمؤسسات الدينية، إلى مؤسسات علمانية وقيم لا دينية. فالمعنى الواسع للعلمنة يفضي إلى تمييز المجال الديني عن الدنيوي وتحديد الأول بواسطة الثاني. ويذكر نموذجين للعلمانية، الأول هو الفصل المطلق بين الدين والدولة، والذي في ظله يرفض أي تدخل للدين في الدولة. والثاني؛ الفصل النسبي بين الدين والدولة، وفيه تتم الحماية الكاملة لحرية الأديان، ويعترف بالدين كدين رسمي للشعب -مثال الولايات المتحدة- ويستعمل لأداء القسم في تنصيب الرؤساء والوزراء. وعلى الرغم من وجود نماذج متعددة للعلمانية، إلا أن هناك قواسم مشتركة، من بينها أن الدولة العلمانية هي دولة المواطنة، والاحترام المتساوي للأديان حيث يتمتع الجميع بممارسة شعائرهم بشكل لا يفرض أي قيود على غير المتدينين. ويؤكد الكاتب على أن مفهوم العلمانية يعتبر جزءا من المفاهيم التي أنتجتها فلسفة الأنوار مثل العقلانية والليبرالية والمواطنة والعقد الاجتماعي..ألخ.
ما بعد العلماني أو العلماني البعدي:
لم يحتفظ التنوير بتلك المكانة التي كان يحلتها عند فلاسفة القرن الثامن عشر، إذ رُبطت الأزمات التي مر بها القرن العشرين بأسسه النظرية وأحكامه الأخلاقية، تلك الأحكام التي تنفي الاختلاف وتؤكد مركزية الأنا، بل تمنح للأنا أولوية على التعدد. وفي هذا السياق، فإن الدولة القومية نفسها -والتي هي نتيجة للتنظير العلماني داخل حقل الدراسات الفلسفية والسوسيولوجية- نُظر إليها من قبل بعض الفلاسفة بوصفها وسيلة جديدة للسيطرة والقولبة، باعتبار أنها لا تتسامح سوى مع الخيارات الليبرالية، ولم تستطع أن تجد صيغة جديدة تمكن المواطنين المتدينين من الحديث عن حججهم الدينية في الفضاء العام. أدى ذلك لبروز مراجعات نظرية طالت مفهوم العلمانية بوصفه مفهوما حداثيا. ومن هنا صك “ما بعد العلمانية” كفمهوم أراد من خلاله بعض المفكرين الانفتاح على التقاليد الدينية، وتحدثوا في ظله عن دور جديد للدين يمكن أن يلعبه في حياتنا المعاصرة. إذ لاحظ هؤلاء المفكرين، أن الدين لم يعد من مخلفات الماضي -كما كانت تعدنا الأطروحة العلمانية الكلاسيكية- وإنما، العكس، هناك تصاعد وتزايد لمظاهر التدين في الربع الأخير من القرن العشرين.
إن الأديان أثبتت قدرتها على الاستمرار، وعادت الجماعات الدينية للمشهد السياسي من جديد. ولكن هذه العودة للدين، لا يتمثل باعثها في تصدع النموذج الذي يتعلق بالفصل بين الكنيسة والدين، وإنما تتمثل قضيتها المركزية في التعددية. أي تعددية الأديان في السياق الغربي كالإسلام واليهودية. إن ما بعد العلمانية تأخذ هذا التعدد في اعتبارها، وتبحث عن صيغة سياسية وحقوقية لا تهمله أو تنفيه وإنما تستوعبه داخل الفضاء العام، لذلك ظهر الفلاسفة “الجماعتيون” الذين يدافعون عن حق الجماعات الدينية في استعمال حجهها السياسية التي تجد مرجعيتها دخل الدين الذي تنتمي إليه، في الفضاء العام، والتعامل معها كشريك في الحوار بل والانفتاح على إمكانية التعلم منها. وفي هذا المنعطف الجديد، ليس هناك قيود على الجماعات الدينية تمنع مساهمتها في المجال العام غير الرسمي، سواء استعملت لغتها الدينية أم لم تستعملها. ولكن “ثمة شرطا للجماعات الدينية التي تريد أن تساهم في المجال العام السياسي الرسمي يتمثل في ترجمة المضامين الدينية لخطابها إلى اللغة الرسمية المفهومة من قبل الجميع والمتاحة لهم”. إن الكتاب يشرح مفهوم (العلماني البعدي) عند ثلاثة من أبرز المنظرين للمصطلح وهم خوزيه كازانوفا، وشارلس تايلر، ويورغن هابرماس. مع تأكيده على بعض الاختلافات النظرية بين هؤلاء المفكرين في إطار تعاطيهم مع مفهوم ما بعد العلمانية. لكن ثمة قواسم مشتركة بينهم تمثّل بحسب المؤلف مبادئ كلية لمفهوم ما بعد العلمانية وتتمثل في: لم يعد الدين مجرد شأنا خاصا، ومن الخطأ وصمه باللاعقلانية المحضة. إن العلماني البعدي يمثل حالة وعي معاصر تتداخل وتتعايش فيه الرؤى العلمانية للعالم مع الرؤى الدينية له، مع وجود علاقة تكاملية بين المواطن العلماني والمواطن المتدين، وفي الوقت نفسه يتعامل كلاهما كأنداد في الفضاء العام.
(عودة الدين) و (إزالة العلمنة):
بحسب الكاتب، شاع في العقود الأخيرة، الحديث عن ما بعد العلمانية مقرونا بعودة الدين من جانب، وما بعد العلمانية وإزالة العلمنة من جانب آخر. لذلك يبدأ في نقاش دلالة “خروج الدين وعودته” إذ يفترض أن عودة الدين تعنى مبدئيا أنه قد خرج عن الفضاء العام ومن ثم عاد مرة أخرى. إن التنوير الأوروبي قد ورث الدين،المسيحي بالخصوص، وقدم وعودا بتلبية احتياجات الإنسان المادية والمعنوية دونما لجوء للدين. فالعقل والحرية هما اللذان يجلبان السعادة للبشرية. وبالتالي، فإن التنوير يمثل بمثابة طرد للدين، أو على الأقل قلص من دوره العمومي. لكن هذا التنوير، لم يجلب للإنسان السعادة والحرية، وإنما أدخله في أزمات متعددة منها الأنظمة الديكتاتورية في القرن العشرين، والاستعمار، وسيطرة السوق على كل مجالات الحياة. إن الأنظمة الشمولية في القرن العشرين “أشد فعالية في خنق الحريات من الأنظمة الاستبدادية التقليدية ذات الركيزة الدينية”.
وبالتالي فالدولة الليبرالية العلمانية غارقة في العنف إلى حد بعيد، وتجسد هذا العنف في التجربة النازية، والحرب العالمية الثانية، والاستعمار الذي وقع على الشعوب غير الأوروبية. وهذه كلها أمور دالة على الأزمة الكبيرة للعقلانية الأنوارية. وفي هذا السياق، كثر الحديث عن أهمية تجاوز الحداثة إلى مرحلة جديدة، وهي مرحلة بحث فيها العقل الأنواري عن مصادر له خارج ذاته. وذلك ما أعاد أوروبا إلى الحضارات القديمة ومصادرها الدينية. وفي هذا السياق تفهم مقولة عودة الدين للفضاء العام. إذ هناك اهتماما متزايدا بالدين تمثل في ظهور ضروب جديدة من الروحانيات، والحركات ذات الطابع الديني. إن الأصوليون في الغرب نظّروا لما بعد العلمانية بوصفها حدثا يعزز مواقفهم المعادية للتجربة العلمانية وأسسها النظرية. وكذلك فعل الأصوليون في الشرق، إذ تعاطوا مع نتائج مفهوم العلمانية في السياق الغربي ومنها عمموا فشله وعدم صلاحيته لمجتمعاتهم. من جهة أخرى، هناك من نظّر لعودة الدين بوصفها ردة للعصور ما قبل الحديثة، وإتاحة مساحة كبرى للدين قد تصبح في نهاية المطاف على حساب المنجزات الحقوقية والمدنية والسياسية التي أنجزتها وجذّرتها الحداثة. ولكن بالنسبة لهابرماس كما يوضح الكاتب، فإن “وضعية الدين في المجتمع (ما بعد العلماني) ليس هي ذاتها وضعيته في مجتمعات (ما قبل العلماني)”. إذ لا يتعلق الأمر بعودة الدين، وإنما دورا جديدا للدين يمكن أن يلعبه في الفضاء العام، وبالتأكيد يختلف عن دوره في المجتمعات الما قبل حديثة. وبالتالي فإننا أمام تيارين: الأول ينظر لما بعد العلمانية كشرط لتعايش الرؤى الدينية والوضعية للكون والحياة كما عند هابرماس، والثاني ينظر للمفهوم متصلا بإزالة العلمنة وإعادة المجتمعات الغربية إلى الدين.
التفكير في (ما بعد العلماني) في سياق (أصولي):
إن الكاتب ينطلق من فرضية أساسية، وهي أنه ينتمي لسياق مجتمعات لا يمكن تسميتها بالحداثية ولا المعلمنة، وبالتالي فإن أنسب وصف يلائم وضعيتها هو نعتها ب “المجتمعات الأصولية”. وهي مجتمعات لم تعرف بعد ثقافة الديمقراطية، كما أنها لم تنل حقوقها السياسية والمدنية والثقافية. هذا الافتراض الذي يؤكد استحالة وصف مجتمعاتنا بالحداثية والمعلمنة لا ينتج عنه ضرورة السير في طرق التحديث التي سلكتها أوروبا، فالحداثة نفسها ليست مقولة واحدة، وإنما هناك حداثات متعددة. وفي الوقت نفسه، فإننا لن نتتبع بشكل كسول ومقلد ما فكر فيه دعاة ما بعد العلمانية ومنهم هابرماس. وبالتالي فإن الكاتب ومن خلال سياقه الاجتماعي يتخذ موقفا نقديا إزاء الحداثة، ونزعاتها الما بعدية. لذلك نقيض كل تفكير بالوكالة، يقترح الكاتب ما يسميه التفكير “بالأصالة” والذي يمكن أن نقارب عبره المفاهيم من داخل واقع اجتماعي وثقافي ننتمي إليه. وفي إطار ذلك يقرأ مجدي عز الدين بعض المقولات الأساسية لهابرماس. فإذا كان هابرماس يتحدث عن أهمية اعتراف العلوم الدنيوية بالمكانة الابستمولوجية للاقتناعات الدينية، فإن مجدي ينبهنا إلى أن الاقتناعات الدينية في مجتمعاتنا -ليس لدى عامة الناس وإنما عند النخب أيضا- هي التي لا تعترف بالمكانة الابستمولوجية للعلوم الدنيوية، كما يتمتع الفهم الديني للعالم بأسبقية على التصورات العلمية للعالم. أيضا يتحدث هابرماس عن ما بعد العلمانية في ظل دولة ديمقراطية دستورية، تعترف بالمواطنة. في حين أننا بحسب مجدي لم نؤسس لدولة دستورية، كما لم نتعرّف بعد على المواطنة. أيضا، في مجتمعاتنا، فإن المؤمن غير محروم من التعبير عن رأيه -حتى نتحدث من جديد عن عودة الديني للسياسة- وإنما بالعكس، المؤمن يصدح برأيه في كل مكان، في حين أن العلماني والديمقراطي هو المحروم من هذا الحق، ليس فقط في التعبير والتفكير، وإنما في الحياة أيضا.
إن المشكلة الأساسية التي حاول هابرماس معالجتها كما يوضح الكتاب هي “ما مدى التأثير السلبي للعلمانية التي تستبعد الدين من المجال العام وتحصره في المجال الخاص، على الدور الذي يمكن أن تلعبه الجماعات الدينية في المجتمع المدني والمجال العام؟”. هذا السؤال بالنسبة لمجدي غير أساسي، ولا يتمتع بأي أهمية لسياق مجتمعاتنا، لأن المسألة التي يجب أن نواجهها تتلخص في التالي: ما مدى سلبية الحضور الطاغي للدين في السياسة والثقافة على الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات المدنية والحزبية القائمة على أسس فلسفية علمانية؟ إذ نتحدث هنا عن مجتمعات لم تصل بعد للمجتمع المدني، ولا للمجال العام، ولا الدولة الوطنية الدستورية، أي مجتمعات غير ليبرالية ولا ديمقراطية في الأساس. وبالتالي فإن تصور هابرماس لا يصلح إلا لبعض المجتمعات الغربية المعلمنة ولا يتوافق مع طبيعة الأسئلة التي يجب أن نواجهها ومتطلبات التغيير التي علينا إنجازها داخل مجتمعاتنا. فما بعد العلمانية تفترض مجتمعا علمانيا بالأساس، مما يجعل تطبيق المفهوم على مجتمعات أصولية مجرد اغتراب، أو تفكير بالوكالة.