بناء السلام وفض النزاعات

في ذكرى السلطان دينق مجوك.. زعامة المجد والمأساة(1-3)

أ. أتيم سايمون

أصدر الدكتور (فرانسيس مدينق دينق)، الكاتب والدبلوماسي المعروف، في مطلع العام (2021)، كتيباً صغيراً بعنوان (في ذكرى السلطان دينق مجوك، زعامة المجد والمأساة)، وذلك احتفاءً بالذكرى الخمسون لرحيل والده السلطان دينق كوال اروب بيونق (1969-2019)، تخليداً له كزعيم لعب أدواراً بارزة خلال فترة حكمه التي امتدت لزهاء الأربعة عقود، وقد صنع دينق مجوك خلال تلك الفترة تاريخاً لازال صداه يتردد حتى الآن.

ويذهب الدكتور (جون قاي يوه) في تقديمه للكتاب (Deng,2021:15)، إلى أن دينق مجوك أصبح تاريخاً قائماً بذاته، وقد حاول الدكتور (فرانسيس مدينق) في أجزاء الكتاب الأربعة أن يقدم قراءة مُغايرة لتجربة والده السلطان (دينق مجوك)، اهتمت بالجوانب المتعلقة بشخصيته من حيث التحديات التي مر بها وما حققه من انجازات في قيادة شعب دينكا نقوك، إلى جانب مساهمته المُقدرة في وصل وتعزيز العلاقات بين “شمال وجنوب” السودان آنذاك، بالإضافة إلى القضايا الخاصة بالأسرة بعد رحيله عنها في الفترة التي ظل يعرفها بالمأساة، في مُقابل فترة المجد التي يعرف بها فترة تولى الزعيم (دينق مجوك) مقاليد الأمور في قيادة شعبه. وبرزت المسائل الخاصة بوحدة وتماسك الأسرة خلال تلك الفترة في ختام الكتاب كأبرز التحديات التي عاشتها أسرته الممتدة، والتي تضم (مئتان من نساء السلطان، وخمسمائة من الأبناء والبنات، وما يقارب الألف من الأحفاد والحفيدات). ويضم الجزء الثاني من الكتاب (بروفايلات تعريفية بشجرة نسب الأسرة)، إلى جانب جداول تحدد زوجات وأبناء السلطان دينق مجوك. كما ضم الجزء الثالث من الكتاب الصادر بالعاصمة الكينية نيروبي، ترجمة عربية للمحتوى الإنجليزي، أنجزها الأستاذ (دينقديت أيوك).

يُمثل هذا الكتاب امتداداً للمشروع البحثي الذي ابتدره (فرانسيس دينق) في توثيق سيرة والده، وبالأخص في كتابه الذي حمل عنوان (رجل يُدعى دينق مجوك، سيرة زعيم ومُجدد)، والذي صدرت نسخته العربية عن مركز الدراسات السودانية بالقاهرة في العام (2004)، وهو الكتاب الذي صدر في نسخته الإنجليزية عن دار جامعة (ييل) في العام (1986)، أي بعد قُرابة السبعة عشر عاماً من وفاة السلطان (دينق مجوك) في أغسطس (1969). كما تطرق في كُتبه الأخرى (صراع الرؤى، ديناميات الهوية، ذكريات بابو نمر، جسور غير مرئية)، للأدوار والمساهمات التي لعبها (دينق مجوك) على المستويين المحلى والقومي أو سهمهما الداخلي والخارجي.

لقد حاول الدكتور (فرانسيس مدينق دينق) في كتاباته عن والده السلطان (دينق مجوك)، والذي يُعتبر بنظر العديد من الكُتاب والمؤرخين واحداً من أهم الشخصيات الزعامية في تاريخ السودان الحديث، وأكثرها إثارة للجدل (دينق2004:5)، أن يفرق ما بين الطابع المنهجي الأكاديمي الصارم في كتاباته، والعلاقة القرابية الخاصة، التي تربط بين الابن والوالد. وبالرغم من أن فرانسيس استطاع أن يوضح ذلك جلياً في غالب أعماله، إلا أن تلك الحقيقة ستظل واحدة من زوايا التوريط التي قد يتخذها البعض، للانتقاص من جهود الكاتب في توثيقه لحياة والده. ويوضح الكاتب ذلك بقوله :(دعوني أكون صريحاً، بصفتي ابنا لـ(دينق مجوك)، أعلم إن موضوعيتي هنا ستكون على المحك. لقد واجهت نفس التحدي حينما كتبت سيرته، (رجل يدعى دينق مجوك) (Deng2021:21).

وعلى الرغم من التزام (فرانسيس دينق) بقول الحقيقة، وبغض النظر عن العلاقة بينه ووالده، فقد كان دائماً ما يفتتح حواراته مع الأشخاص بمطالبتهم ألا يضعوا في اعتبارهم أنه بن (دينق مجوك)، حتى لا يصبح ذلك سبباً يجعلهم يتحدثون عن الجوانب المُشرقة فقط من حياته، أو ما يحب أن يسمعه الكاتب منهم عن والده، وقد كان ذلك واضحاً في المُقابلة التي أجراها مع (شول فيوك)، للحديث عن شخصية السلطان (دينق مجوك). قال له الكاتب :(المُهم  هنا أن نتحدث بحُرية، فعلى المرء أن يقول أي شيء يُريد قوله، سواءً كان ذلك جيداً أو سيئاً، لا أريدك أن تعتقد بأنك تتحدث إلى بن (دينق مجوك)، ومن ثم يجب عليك أن تقول عنه الأشياء الحسنة فقط، قُل كل شيء، فقد كنت  أنت أحد المُقربين من (دينق مجوك)، فإذا كان هناك ما هو إيجابي أو سلبي، وحتى إذا ما كان هناك ما يجعلك تشعر بالخجل من قوله، أرجوك قُله لي، وسأفكر فيه واقرر ماذا افعل حياله). (دينق 2004:18).

حرص (فرانسيس دينق) في مرحلة جمع المعلومات التي تسبق مرحلة الكتابة، على مقابلة كافة الفئات التي ربطتها صلات مختلفة مع السلطان دينق مجوك، كما استعان بعدد من إخوته وأعمامه ليكونوا جزءاً من فريق البحث الميداني. وتضمنت المقابلات عدداً من أعضاء أُسرة السُلطان (دينق مجوك) نفسه، أعيان مجتمع نقوك، بعض أعضاء مجتمعات الدينكا المجاورة لنقوك من الناحية الجنوبية، مسئولين في الحكومة السودانية، وإداريين سابقين عملوا في المنطقة خلال فترة الاستعمار البريطاني(Deng,2021:21)، وفي عدد من تلك المقابلات كان (فرانسيس دينق) يهتم بتقديم الصفة التي تربط الشخص الذي يقوم بمقابلته مع السلطان (دينق مجوك)، بما فيهم خصومه، وألد اعدائه، الذين كان يعرفونه بصفات الخصومة تلك، وذلك لما له من أهمية على طبيعة الشهادة التي يدلون بها، سيما وأن هناك شخصيات بدأت علاقتهم به في إطار الصداقة الحميمة، لكنها سرعان ما تحولت لمنافسة شرسة، قبل ان تنتهي الى عداء واضح. يقول دينق :(إن قيمة صورة أبي وإرثه، ونزاهتي ككاتب لسيرته، تعتمد على تقديمي له بموضوعية كانسان حقيقي، بنقاط القوة والضعف. لقد التمسنا من الأشخاص الذين قابلناهم تقديم صورة متوازنة عن الإيجابيات والسلبيات في حياة الوالد). (دينق،2021:22).

هناك عوامل أُخرى يجب أن نضعها في الاعتبار، فيما يتعلق باستخدام المنهج العلمي الصارم، والالتزام بقواعده المألوفة في إجراء المُقابلات، وجمع المعلومات التي تعتمد على المُقابلات الشخصية والتسجيلات. فهناك جوانب تتعلق بحساسية الثقافة المجتمعية المُتعلقة بسرد سيرة الاشخاص الذين رحلوا عن حياتنا، خاصة اذا كانوا يتملكون سلطة زمنية وروحية ممتدة ومتجاوزة. فهناك اعتقاد كبير في سطوة الزعيم ووجوده الروحي وسط غالب مُجتمعات جنوب السودان، بما فيها (دينكا نقوك)، وهي عوامل تجعل أي محاولة للتوثيق لسيرة القيادات المحلية والزعماء المجتمعيين تنحو نحو الاحتفاء الكبير بالمآثر، أكثر منه تعداد نقاط الضعف، و ذكر المآخذ والأخطاء التي وقع فيها الزعماء من منظور الأشخاص المقربين لهم، وهو ما نلحظه في معظم الشهادات المقدمة في كتابات (فرانسيس دينق) عن شخصية الزعيم (دينق مجوك)، وهي الجوانب التي حاول أن يستعين فيها بشهادات وتقارير الإداريين البريطانيين، إلى جانب المراجع و الكتابات الأُخرى ذات الصلة، ومن ثم استخدام أسلوب التحليل الخاص بالكاتب في تفسير الجوانب الجدلية المتعلقة بشخصية (دينق مجوك)، وتحديداً في الصراع حول الزعامة، وتفضيل إبقاء المنطقة في حدود (مديرية كردفان)، التي نقل إليها في عهد والده السلطان (كُوال اروب) في (1905)، بالإضافة إلى التأسيسات النظرية التي بناها على طبيعة العلاقة التي ربطت بين السلطان (كوال اروب)، وابنه (دينق مجوك)، مع أُسرة ناظر المسيرية الحُمر (نمر علي الجُلة)، ومن بعده ابنه (بابو نمر). واعتبارها نموذجاً يُعتد به في التعايش وتجسير العلاقات بين الشمال والجنوب، وبين المُكونين العربي والأفريقي، في كتاباته حول الهوية والتكامل القومي في السودان.

لم تمنع أغراض الصرامة، والدقة، والموضوعية في الالتزام بضبط التحيزات تلك، الدكتور (فرانسيس مدينق دينق)، من تصوير واقع العلاقة المتميزة جداً، والتي ربطته بوالده السلطان (دينق كوال اروب بيونق)، من بين العديد من أبنائه وبناته في الأسرة ذات النواة الكبيرة. وقد أفرد لتلك العلاقة مساحة كبيرة جداً في كتابه الأخير، والذي حمل عنوان (جسور غير مرئية، رحلة أفريقية عبر الثقافات) الصادر في العام (2021). وهي إصدارة أقرب ما تكون في محتواها للسيرة الذاتية للكاتب، أو مُستخلص مذكراته التي تحكي قصة حياته كاملة. فالسُلطان (دينق مجوك) بالنسبة للكاتب، يُعتبر أعظم رجل عرفه في حياته. هو بالنسبة له الزعيم الذي تسامت صورته بدرجة لا يمكن أن يصل إليها أي شخص آخر. كما أنه كان المُلهم الرئيسي بالنسبة له شخصياً في حياته، وما حققه فيها من نجاحات لا يمكنها أن تساوى في أي مرحلة منها، ما وصل اليه والده السلطان دينق مجوك. مُعتبرا أن كتابته عن سيرة والده تأتي في إطار محاولاته لاستعادة وإحياء ذكراه في حدود ما يفهمه شخصيا عنه.

اعتمد (فرانسيس دينق) في تقديم شخصية والده بعد مرور نصف قرن على رحيله، على ثلاثة زوايا نظر متداخلة لحياته وزعامته. أولها طبيعة العلاقة المتناقضة بينه ووالده السطان (كوال اروب)، وتلك العلاقة الجدلية التي جمعت بينه وبين أخيه غير الشقيق، ومنافسه في السلطة والزعامة (دينق مكوي)، المشهور بكنيته (دينق أبوت). والمنظور الثاني الذي اعتمده الكاتب في تفسير قصة حياة والده السلطان (دينق مجوك)، هي سجله الزاخر بالإنجازات غير المسبوقة، كقائد وزعيم محلي، والتي ساهمت في مواجهته للتحديات العديدة، التي مر بها خلال التنافس على القيادة. ويتمثل المنظور الثالث في العواقب الوخيمة لرحيله الذي حدث قبل أوانه، وما ترتب عليها من معاناة كبيرة وسط شعبه، الذي سقط بشكل تراجيدي من المكانة العالية التي كان قد وصل اليها تحت قيادته. وبالنسبة لـ(فرانسيس دينق)، فإن تلك المأساة ظلت تمثل أبرز التحديات في سبيل إعادة بناء المستقبل عبر استلهام الانجازات العظيمة التي قام بها السلطان دينق مجوك.

القت التعقيدات التي شابت علاقة السلطان (دينق مجوك)، بوالده الزعيم (كوال اروب) وأخيه غير الشقيق (دينق أبوت) بتأثيراتها الواضحة على شخصيته. حيث اعتمد نهجاً عصامياً شق به طريقه الى الزعامة، وقدم خلاله شخصيته المستقلة لمجتمع (دينكا نقوك)، ولجيرانه من (المسيرية) ومجتمعات (الدينكا) الاخرى، المجاورة لأبيي من الناحية الجنوبية. وكذلك الأمر مع سلطات الإدارة البريطانية. ومرد التوتر في علاقة (دينق مجوك) مع والده وأخيه، هي إحساسه بتفضيل اخيه غير الشقيق عليه في التعامل، مما كان يعني بالنسبة له أن والده كان يفضله عليه لتولى زعامة دينكا نقوك في المستقبل. وبرغم تلك العلاقة المتوترة، كان (دينق مجوك) يحترم والده كثيراً، وكان يتشاجر معه لأنه يرى بان والده كان يميل إلى قمع وهضم حقوق والدته في الأُسرة، وهو الشيء الذي لم يكن مقبولا لديه. ورغم ذلك كله، كان (دينق مجوك) يحرص على مراضاة والده في ذات الليلة، التي يتشاجر معه فيها. حيث يأتيه في الليل وهو يقود بقرة ويخبره قائلا :(أبي، أنا أُراضيك بهذه البقرة). (دينق،2021:27).

يعود التوتر في العلاقة بين السلطان (كوال اروب)، وابنه دينق مجوك، إلى ظروف زواج أمه (نيانآر)، من أبيه، فقد كانت هي المرأة الأولى، التي خطبها (كوال اروب)، لكنها رفضته، وهربت مع رجل اخر. بعد ذلك تزوج كوال من (أبيونق)، لكن (نيانآر) عادت اليه خاضعة، بعد إصابتها بمرض تم تشخيصه على أنه لعنة، بسبب رفضها للزعيم. ووافقت أخيراً على الزواج منه، وأعطيت لـ(كوال اروب)، بعد أن أصبحت (ابيونق) زوجته الاولى. لكنها لم ترزق بطفل حتى تلك اللحظة، ورزقت (نيانيار) بـ(دينق مجوك)، كأول مولود ذكر. بينما رزقت (ابيونق) أولاً بفتاة، هي (اقوروت)، وصار السلطان (كوال اروب) يُعرف بـ(والد اقوروت)، ثم تبعها ولد هو (دينق أبوت)، الذي يعرف باسم (دينق مكوي). نشأ الإخوان (دينق) سوياً، مع اعتبار أن (مجوك) هو الأكبر من حيث السن، ولأن دينق (الصغير)، هو ابن الزوجة الأولى، فقد كان يعتبر أنه المؤهل للقيادة الدينية والروحية. وبسبب ذلك الوضع الشاذ، لم تكن تلك الوضعية المعكوسة مُريحة بالنسبة لـ(دينق مجوك) مُطلقاً. (دينق2004:23).

وبسبب ذلك التوتر وطد (دينق مجوك) عزمه على أن يُناضل من أجل نفسه، وكان يقاتل كل من يقف في طريقه، لنيل كل ما يشعر انه له، مستخدما كافة الوسائل المتاحة، والتي كان بعضها ينسجم مع التقاليد، وبعضها يختلط بالمعايير الحديثة. ولسوء الحظ كان خصماه الرئيسيان هما أباه وأخاه غير الشقيق، (دينق أبوت). وبناء عليه طور مقولته الشهيرة (الطفل المحبوب عند والده ليس كالطفل المحبوب من قبل الله)، فهو كان يشعر في دخيلته بانه قد نال رضا الله، وهو الاهم بالنسبة له من محبة الوالد. ويقسم (دينق مجوك) بدوره الرجال إلى ثلاث مجموعات، هي (أبناء النساء)، (أبناء الرجال)، و(أبناء الله)، ووضع نفسه ضمن المجموعة الثالثة، التي تتسم بالحكمة والعقل والرحمة، والعدل في الحكم.

سلك (دينق مجوك) طريقه الخاص للوصول إلى زعامة (دينكا نقوك)، فمنذ صغره بدأ في فرض شخصيته من خلال تولي العديد من المسئوليات داخل الأُسرة، وذلك عبر توظيف الموارد المتوفرة، من أجل تعزيز مكانته بوصفه ابن الزعيم. حتى صار معروفا لدي الجميع، وبالأخص مجتمعات العرب وقبائل الجنوب الاخرى، عن طريق كرمه واستضافته للضيوف الوافدين على المنطقة.  وبدأ نفوذ (دينق مجوك) في التنامي من خلال المبادرات التي كان يقوم بها، من أجل ضمان السلام والاستقرار بين (دينكا نقوك)، وجيرانهم من (دينكا ريك)، و(عرب المسيرية). ونتيجة لذلك قرر الزعيم (كوال اروب)، تعيين ابنيه الإثنين (دينق مجوك)، و(دينق أبوت)، كنواب له لدى الحكومة. عندما لمس (دينق مجوك) تأييد والده المفتوح لأخيه (دينق أبوت)، قرر أن يناى بنفسه عن صُحبتهما، وأسس مجلسه الخاص كبداية لمرحلة جديدة من التصعيد المُرتبط بالتخطيط، للحصول على الزعامة. وقد استخدم (دينق مجوك) صداقته مع (بابو نمر)، ناظر عموم المسيرية، والذي أصبح تأثيره واضحاً على الإدارة البريطانية، ليس فقط في صعوده الشخصي، بل لإجبار والده على التخلي عن السُلطة. وكانت صداقة (بابو نمر)، قد توطدت مع (دينق مجوك) منذ ان كان يافعا، وبسبب تلك الصداقة سعى بابو نمر لإيجاد مُبرر يخلف به (دينق مجوك)، والده في زعامة القبيلة. وفي سبيل ذلك قام (نمر) بإقناع المفتش الإنجليزي، حيث أخبره بان (دينق مجوك)، هو الزعيم الحقيقي الذي سيرث الحراب المقدسة التي ترمز للسلطة، باعتبار ان أمه هي الزوجة الأولى. وقد كان بين (دينق مجوك)، و(بابو نمر) قسم أخوة، توصلا إليه عندما بدا (دينق مجوك)، يشعر بان اسم (دينق أبوت)، أصبح يتردد كثيراً). (دينق،2004:98). وتقول إحدى الروايات بأن (دينق مجوك)، أعرب عن قلقه لبابو نمر بقوله 🙁 إذا قُيض لدينق أبوت ان يصبح ناظر عموم دينكا نقوك، فإن أقدام “عرب العجايرة”، لن تطأ ارض الدينكا مرة أخرى)، كما تقدم بمقترح يقضي بالإطاحة بوالده السلطان (كوال اروب)، وتنصيبه بدلاً عنه على راس القبيلة. (Arop, 2018:85).

ساعدت كفاءة دينق مجوك الادارية في التعامل مع النزاعات القبلية التي فشل والده (كوال اروب) في إيقافها، وفي استيلائه على السلطة من والده. وإلى جانب العوامل التي سبق ذكره، فإن الزعيم، وبحسب تقاليد الدينكا هو الشخص الذي يستخدم الحُجة والاقناع في حل الازمات التي تحل بمجتمعه، وقد يستعين بالعقوبات غير الطبيعية في النهاية لإنزال العقوبات على الشخص العاصي وغير المتعاون. وحينما وقعت اعمال العنف القبلي بين مجموعات دينكا نقوك في العام 1941، تصرف (كوال اروب) بشكل لم يُرض البريطانيين، وهنا تدخل (دينق مجوك) بطريقة عملية، جعلته يحوز على موقع متقدم أكثر من والده لدى سلطات الادارة الانجليزية. وبعد فترة استدعت السلطان (كوال اروب) للشمال، بطلب من الحكومة. حيث تم أخذه إلى إدارة المركز في النهود، وأخبرته السُلطات بفشله في إيقاف المعارك في حروبات (مكير)، و(دوكورا)، و (ناي ناي)، وطالبته بالتقاعد، واختيار واحد من أبنائه لتولى الزعامة. وقال له المفتش الانجليزي 🙁 أخبرني أيهما تثق في أنه سيحكم القبيلة كما اعتدت ان تحكمها؟)، فأخبره (كوال اروب)، بأن ابنه (دينق مكوي)، هو الأنسب لتولى زعامة القبيلة. وهنا هدده المفتش بالاعتقال في حال إصراره على تنصيب (دينق مكوي) خليفة له. وازاء ذلك الموقف المتشدد تراجع (كوال اروب) عن تمسكه بـ(دينق مكوي)، وطالب الحكومة بالذهاب للمنطقة بحضوره، واستفسار الناس عن الشخص الأنسب لديهم، لتولى مهام السلطنة، ووعد (كوال اروب) بعدم التدخل في مسالة الاختيار.

بناء على تنازل (كوال اروب) من ترشيح الشخص الذي يراه الأنسب، بدأت فرص (دينق مجوك) في تولى الزعامة تتضح بشكل كبير، وقد لعب التحالف القائم بينه و(بابو نمر) دوراً كبيراً في حسم القضية لصالحه، لذلك عندما ذهب مفتش المركز الى المنطقة، انعقد مجلس ضخم، تحت الشجرة التي اعتاد (كوال اروب) على أن يُقيم فيها محكمته، وقد حضر الاجتماع جمع غفير من الناس، حيث قام المفتش بطرح القضية، مُشيراً إلى أنهم حضروا للمنطقة ليختار الناس الشخص الذي يريدون زعيما لهم. وقد انحصرت المنافسة بالتحديد بين (دينق مكوي)، و(دينق مجوك). هنا نهض أحد الأشخاص من قبيلة (أنييل) قائلا :(إن “دينق مكوي” ليس زعيمنا، إن “دينق مجوك” هو الزعيم، إنه زعيمنا الذي سيُحافظ علينا، وعلى نظام قبيلتنا. أما “دينق مكوي” فهو ليس زعيماً. “دينق مكوي” رجل شجاع، لكنه رجل شجاع بلا حكمة. أما “دينق مجوك”، فهو رجل شجاع، ويجمع مع الشجاعة، القُدرة على الإقناع. و”دينق مكوي”، مع شجاعته، إلا أنه لا يجيد التحدث).(دينق2004:111).

هكذا تم اختيار دينق مجوك ليكون خلفاً لوالده، وقد أيد الحضور هذا الرأي، كما لم يُبدي الزعيم (كوال اروب) أي اعتراض على كلمة القبيلة، وإنما طالب ابنه (دينق مكوي)، بترك الأمر، وان يدع (دينق مجوك) يأخذ مكانه. وتمت مُبايعة (دينق مجوك)، زعيماً عاماً للقبيلة. وبعد عام من تولي السُلطة، ذهب دينق مجوك للشمال لاستلام شعار المكتب (روب الشرف).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى