
نحو مشروع وطني سوداني ثلاثي الأبعاد من أجل السلام والانتقال المدني الديموقراطي النهضوي: ثانياً، إنهاء الحرب وبناء السلام المدني الديموقراطي(1-3)
روفيسور إبراهيم أحمد البدوى عبد الساتر
الملخص:
أبنا في الورقة البحثية الأولي من مشروع الثلاثية الوطنية بأن الحرب الفصائلية العسكرية الحالية قد تتحول إلى حرب إثنية-مناطقية واسعة، مما سيلحق دماراً بالغاً بمقدرات البلاد الاقتصادية والمؤسسية ويشكل تهديداً وجودياً للبلاد وسلامة أراضيها. لذلك، فإن إنهاء هذه الحرب قبل توسعها وبناء سلام مستدام هو ضرورة حتمية لبقاء السودان. نعالج في هذه الورقة البعد الثاني المتعلق بتحديات وفرص وقف الحرب وبناء السلام، استناداً إلى تحليل نموذج ما يسمى بـ “مثلث السلام” الذي تتشكل أضلاعه من مؤشرات عن متانة راس المال الاجتماعي والمؤسسات الوطنية (الضلعان المحليان للمثلث) واللذان يحددان مدى الحاجة إلى العامل الخارجي لدعم عملية السلام (الضلع الثالث). بإسقاط الحالة السودانية على هذا النموذج، يتضح أن الدعم الخارجي المتمثل في منبر جدة والمبادرات الإقليمية الأخرى المرتبطة به يبقي الرافع الأبرز لبناء السلام، بالنظر إلى ضعف القدرات الذاتية لبناء السلام نتيجة للانشطارات الهوياتية وتهتك النسيج الاجتماعي وانهيار المؤسسات القومية جراء هذه الحرب. علاوة على ذلك، برأينا أن تأمين فرصة حقيقية للسلام قد يستدعي النظر في إسناد المبادرات الإقليمية الحالية بمشاركة أممية فاعلة، بحيث يتم رفد الضلع الثالث من مثلث السلام بعملية تحويلية، متعددة الأبعاد لحفظ السلام تقودها الأمم المتحدة، وبمشاركة إقليمية. لكي يكتسب الدعم الخارجي الشرعية الكافية، وبالتالي الفعالية المطلوبة، يجب أن يكون ممتلكاً وموجهاً من قبل جبهة مدنية ديمقراطية عريضة القاعدة، لا تستثنى أحداً يؤمن بخيار الشعب في الحرية والسلام والعدالة ومرجعية ثورة ديسمبر المجيدة، تستهدي بعقد اجتماعي متين يشمل بعدى السياسة والاقتصاد وبناء توافق عريض حوله عبر سردية وطنية. أيضاً، يتطلب تحقيق الانتقال المدني السلمي الديموقراطي المستدام مشروعاً نهضوياً شاملاً لإحداث تحولات اقتصادية كبري، الأمر الذي يستدعي أن تختار النخب الانتقالية والمنتخبة لاحقاً “الرهان على التنمية” والسعي إلى “الشرعية الاقتصادية” وعدم الاكتفاء بـ “الشرعية السياسية” الانتخابية فقط. هذا الاستحقاق الوطني سيكون محور الورقة الثالثة والأخيرة، بإذن الله.
كلمات مفتاحية السودان، الحرب العسكرية، الحرب الإثنية-الجهوية، بناء السلام، مثلث السلام، منبر جدة، العملية الأممية متعددة الأبعاد، الانتقال المدني الديمقراطي، العقد الاجتماعي، السردية الوطنية، المشروع الاقتصادي النهضوي.
هذه الورقة مساهمة شخصية متواضعة في الحوار الوطني السوداني عن سبل وقف هذه الحرب اللعينة وبناء السلام المدني الديموقراطي النهضوي، وبالتالي التحليل والأفكار وخاصة التوصيات الواردة فيها لا تمثل بالضرورة مواقف حزبية أو فئوية بعينها لأي جهة كانت.
1. مقدمة:
لقد اضطلعت الورقة الأولى من ثلاثية “المشروع الوطني السوداني ” (البدوي، 2024أ) بالمساهمة في مشروع الاستنارة ونزع الشرعية عن الحرب العسكرية الفصائلية الطاحنة التي يشهدها السودان منذ أبريل، 2023 وزيادة الوعي بمخاطرها الوجودية المحتملة على البلاد والشعب السوداني وكذلك تبعاتها السلبية على الأمن والسلم الإقليمي. لقد ألحقت هذه الحرب المأساوية أضراراً كبيرة بالقاعدة الصناعية والتعليم والمرافق الصحية في البلاد، كما أدت أيضاً إلى انهيار النشاط الاقتصادي، بالنظر إلى أنها، على عكس الصراعات المسلحة السابقة، قد اشتعلت في عاصمة البلاد، حيث مركز السلطة السياسية والاقتصاد، ثم توسعت لتشمل كبريات المدن السودانية في وسط وغرب البلاد. وكحرب داخلية، هذا الصراع غير مسبوقٍ من حيث شدة العنف وحجم الموت والدمار المرتبط به، ناهيك عن الأزمة الإنسانية الهائلة التي خلفها، حيث تماثل القوة التدميرية للطرفين حالة حرب الدول وليس حالة الحروب الأهلية التقليدية التي عادة ما تدور في مناطق ريفية نائية وتستخدم فيها آلة حربية أقل فتكاً وتطوراً.
بالرغم من الأزمة الإنسانية التي لا يمكن تخيلها والكلفة الاقتصادية الهائلة لهذه الحرب وهي بالكاد أكملت عامها الأول، وفي ظل تضاؤل فرص إنهائها في غضون الأشهر القادمة ، فقد حاججنا في الورقة الآنفة الذكر بأن الأسوأ مازال قادماً، وذلك لأن احتمالات توسع هذه الصراع إلى حرب اثنية/جهوية متطاولة تظل كبيرة جداً. فالمجتمع السوداني الذي ظل يعاني من التشرذم والاستقطاب العمودي على أسس اثنية، قبلية وجهوية وسياسية أيضاً، والتي تزداد تشدداً وتطرفاً بسبب الحرب الجارية، من المرجح أن تسهل معه عمليات التجنيد والتحشيد وإثارة الغرائز على أسس الانتماءات ما دون القومية. في الواقع، وكما تشير بعض الأدلة المبكرة، فإن هذا ما يحدث بالفعل ومن قبل طرفي النزاع.
أيضاً، فقد احتوت الورقة الأولى من الثلاثية على محاكاة وتحليل للكلفة الاقتصادية باستخدام نموذج النمو طويل الأجل (Long-term Growth Model: LTGM)، مع الأخذ في الاعتبار المؤشرات الرئيسة والافتراضات الموضوعية المتعلقة باقتصاد السودان في عام 2022، كسنة الأساس قبل اندلاع الحرب. هذا وقد أفادت نتائج تقدير ومحاكات هذا النموذج بأنه حتى في ظل افتراضات محافظة للغاية، ستكون الحرب مكلفة جداً حتى ولو كانت حرباً قصيرة الأجل. أما في حالة الحرب الاثنية طويلة الأجل والتي قد تستغرق 15 عاماً أو أكثر، وهي للأسف الاحتمال الأرجح، ستكون المخاطر ذات أبعاد وجودية لوحدة البلاد وسلامة أراضيها.
تأسيساً على ما خلص إليه مبحثنا الأول نحسب أن إنهاء هذه الحرب والعمل على بناء السلام المستدام من البديهي أن يكون على رأس سلم الأجندة الوطنية في هذا المنعطف التاريخي الأخطر منذ ما يقارب السبعين عاماً من مسيرة السودان المستقل.
في القسم الثاني من هذا المبحث سنقوم باستطلاع نقدي مختصر لتجارب البلاد مع مبادرات بناء السلام والتي شملت أربع اتفاقيات لتقاسم السلطة مدعومة إقليمياً ودولياً وثلاثة بعثات أممية/إقليمية. للأسف لم تفشل هذه الاتفاقات في الحفاظ على السلام فحسب، بل أدى بعضها إلى نتائج كارثية، مثل تقسيم البلاد في عام 2011 وإعاقة المسار الدستوري نحو الديمقراطية خلال الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر، الأمر الذي ساهم في التمهيد لهذه الحرب العسكرية الحالية. تقطع الورقة بأن عوار هذه الاتفاقيات، والذي ساهم في إفشالها، أنها كانت محصورة على النخب العسكرية والجيوش المتحاربة تحت إمرتهم. عليه، خلصت هذه الورقة إلى أن عملية إنهاء الحرب وبناء السلام المستدام يجب أن تكون عملية “تشاركية” يكون المجتمع المدني السوداني والقوى الديمقراطية المدنية في قلبها.
يقيّم القسم الثالث تحديات بناء السلام من خلال تحليل نموذج ما يسمى بـ “مثلث السلام” لأستاذي العلوم السياسية بجامعة ييل الأمريكية (Yale University)، بروفيسور مايكل دويل وبروفيسور نيكيلس سامبانيس ، حيث اختبر الباحثان فرضية أن احتمال نجاح عملية السلام تتناسب طردياً مع مساحة هذا المثلث، باستخدام قاعدة بيانات عابرة للبدان تغطى مساحة زمنية منذ الحرب العالمية الثانية. تتشكل أضلاع هذا المثلث من مؤشرات عن متانة راس المال الاجتماعي و القدرات المحلية من مؤسسات “صلبة” و”ناعمة” – (الضلعان المحليان للمثلث) – واللذان يحددان مدى الحاجة إلى العامل الخارجي لدعم عملية السلام ( الضلع الثالث). بإسقاط الحالة السودانية على هذا النموذج يتضح بأن رأس المال الاجتماعي، المأزوم أصلاً كنتيجة لتسيد الزبائنية الجهوية واشتعال الحروب الاثنية خلال حقبة نظام الإنقاذ، قد تم تدميره جراء هذه الحرب، إضافة إلى القدرات المحلية المتدنية وتجريف المؤسسات القومية، المنهارة أصلاً منذ زمن بعيد، يتطلبان عملية حفظ سلام أممية/إقليمية “تحويلية، متعددة الأبعاد” – كضلع ثالث لمثلث السلام. غير أننا نسارع إلى التشديد على أنه لكي يكتسب هذا الدعم الخارجي الشرعية الكافية، وبالتالي الفعالية، يجب أن يكون ممتلكاً وموجهاً من قبل جبهة مدنية ديمقراطية عريضة القاعدة.
نحلل في القسم الرابع مشروع البناء الوطني المتعثر كنتيجة لفشل النخب السودانية في إدارة التنوع المجتمعي والتنافس الانتخابي بين القوى الديمقراطية في أعقاب نجاح الثورات مما أدى إلى هشاشة وضعف الحكومات الديمقراطية والتي بدورها كانت فرائسَ سهلة للانقلابات والأنظمة الاستبدادية التي حكمت البلاد لفترات طويلة. بالمقابل، أدى الفشل في تحقيق تحولات تنموية اقتصادية واجتماعية ذات بال إلى الحروب الأهلية والانقلابات وعدم الاستقرار السياسي. في هذا السياق نحاجج بأن الخروج من هذه “المتلازمة السودانية” الكارثية يتطلب بناء عقدٍ اجتماعيٍ متين يشمل بعدى السياسة والاقتصاد وبناء توافق عريض حوله عبر سردية وطنية فعالة تنتشل البلاد من حالة الإحباط وتنافر الرؤي جراء هذه الحرب المأساوية التي احتنكت البلاد وشعبها.
وأخيراً، يختتم القسم الخامس بتلخيص أهم نتائج هذا المبحث في سياق توصيات تتعلق بقضايا بناء السلام المستدام وأهم الاستحقاقات الوطنية بشأن الجبهة الوطنية القمينة بقيادة مشروع تحول سلمى ديموقراطي نهضوي، يستهدي بعقد اجتماعي وازن ذو أبعاد سياسية واقتصادية وسردية وطنية متينة لحشد إجماع وطني واسع لدعم مشروع التجديد الوطني المنشود.
2. اتفاقيات تقاسم السلطة والثروة في السودان ومآلاتها الكارثية:
بقدر ما كان للسودان أكثر من نصيبه العادل من النزاعات، فقد كان أيضاً حقلَ تجاربٍ بامتياز في مبادرات بناء السلام، والتي شملت أربعة اتفاقات لتقاسم السلطة مدعومة من المجتمعين الدولي والإقليمي. لكن، للأسف، فشلت جميعها في تحقيق سلام مستدام، بل إن بعضها أدى إلى نتائج كارثية.
تم توقيع اتفاق السلام الأول، وهو ما يسمى باتفاقية أديس أبابا للسلام، في عام 1972 بين حركة المعارضة المسلحة الأولى في جنوب السودان وحكومة الجنرال جعفر نميري، حيث تمكنت هذه الاتفاقية من إنهاء الحلقة الأولى من الحرب الأهلية التي بدأت قبل استقلال البلاد في عام 1956 بفترة وجيزة واستمرت في تشكيل مستقبلها منذ ذلك الحين. وعلى الرغم من توقف القتال لأكثر من عقد من الزمان (1972-1983)، إلا أن حرباً أشد فتكاً ودماراً اندلعت مرة أخرى لأكثر من 20 عاماً، انتهت بعد توقيع ما يسمى “اتفاقية السلام الشامل” في عام 2005 بين “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بزعامة الدكتور جون قرنق ونظام الإنقاذ بقيادة الجنرال عمر البشير. لكن نهاية التمرد الثاني في جنوب السودان، قد أدى في نهاية المطاف إلى تقسيم البلاد وإنشاء دولة جنوب السودان عام 2011. وعلاوة على ذلك، وبينما كان يجري التفاوض على هذه الاتفاقية، اندلعت مرحلة جديدة من الحرب الأهلية في إقليم دارفور في عام 2003، مما شكل أول نزاع سياسي مسلح في الجزء الشمالي من البلاد منذ الاستقلال.
ونظراً للحجم الهائل من الوفيات والمعاناة الإنسانية المرتبطة بالصراع في دارفور، والقلق من أن يؤدي ذلك إلى عرقلة مفاوضات السلام الجارية آنذاك في اتفاق السلام الشامل، تم توقيع اتفاق سلام دارفور في عام 2006 تحت رعاية نيجيريا والاتحاد الأفريقي، وبدعم من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وجهات إقليمية ودولية أخرى. وعلى غرار اتفاق السلام الشامل، يستند اتفاق سلام دارفور على اتفاقات تقاسم الثروة والسلطة بين حركات دارفور والحكومة المركزية. ومع ذلك، وعلى عكس اتفاق السلام الشامل، الذي يشمل حركة معارضة مسلحة مهيمنة، تحت قيادة واحدة، فإن حركات دارفور كانت منقسمة إلى عدة فصائل. لذلك، ليس من المستغرب استمرار الصراع المسلح، حيث تحول التوازن العسكري لصالح الحركات غير الموقعة على الاتفاق. وبالفعل، لم يكتسب اتفاق سلام دارفور المصداقية الكافية لدى الحركات وتم التخلي عنه في نهاية المطاف عندما انضمت الحركة الوحيدة الموقعة عليه من جديد إلى العمل المسلح.
كان اتفاق السلام الشامل الأخير هو اتفاق جوبا للسلام الذي تم توقيعه في أكتوبر 2020 في جوبا، عاصمة جمهورية جنوب السودان. جاء هذا الاتفاق بعد أكثر من عام بقليل من تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى (حكومة الكفاءات) في سبتمبر 2019، إثر اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، 2018. وكان الجانب الحكومي ممثلاً بالسلطة المدنية-العسكرية الانتقالية، بينما كان الموقعون الآخرون بعض الحركات المسلحة التي كانت تخوض معارك منخفضة الحدة مع النظام السابق. وقد أدى اتفاق جوبا للسلام إلى حل حكومة “الكفاءات” وتشكيل حكومة محاصصة سياسية، تهيمن عليها قوى الحرية والتغيير والحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق .
ولسوء الحظ، مثل سابقاتها، لم تكن اتفاقية جوبا للسلام والأمن عملية سلام ذات قاعدة عريضة من شأنها تمكين المجتمع المدني في المناطق المتأثرة بالنزاعات في البلاد. بالتالي وفرت آلية لصفقة جانبية بين المكون العسكري وبعض، وليس كل، الحركات المسلحة في اتفاق جوبا. لذلك، وبمجرد انضمام هذه الحركات إلى الحكومة الجديدة، سرعان ما انحازت إلى جانب هذا المكون والذي أصبح معادياً بشكل متزايد لجهود شركائه المدنيين للمضي قدماً في الأجندة الانتقالية الحيوية بشأن الإصلاحات الأمنية وتفكيك الإمبراطوريات الاقتصادية للنظام السابق. لم تكتفِ الحركات الأكثر نفوذاً في جوبا بدعم انقلاب القصر في أكتوبر/تشرين الأول 2021 من قبل قيادات القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والذي أطاح بالحكومة التي يقودها المدنيون وأنهى المسار الدستوري للانتقال الديمقراطي، بل استمرت أيضاً في المشاركة في نظام ما بعد الانقلاب. لا ينبغي أن يكون هذا التحول الكارثي للأحداث مستغرباً – والذي نزعم بأنه في نهاية المطاف قد أوجد الظروف المواتية لاشتعال الحرب العسكرية الفصائلية الحالية – بالنظر إلى حقيقة أن بعض حركات المقاومة المسلحة السودانية لها تاريخ في إبرام الصفقات مع الأنظمة العسكرية الاستبدادية، قبل اتفاق جوبا للسلام وانقلاب أكتوبر 2021 بوقت طويل (إبراهيم، 2021).
وكما نوقش على نطاق واسع في الأدبيات السودانية حول النزاعات وبناء السلام ، فإن حقيقة أن اتفاقي السلام الأولين اللذين تمحورا حول ترتيبات تقاسم السلطة قد تم التوصل إليهما في ظل حكم استبدادي شخصاني يفسر سبب عدم استدامة الاتفاق الأول، بينما أدى الاتفاق الثاني إلى تقسيم البلاد واشتعال عمليات المعارضة المسلحة والعنف الاثني/القبلي في دارفور. وبالنظر إلى تشرذم حركات المعارضة المسلحة في دارفور، فإن فرص بقاء اتفاق سلام دارفور في ظل حكم نظام عمر البشير الاستبدادي كانت أقل بكثير. وحتى في بيئة سياسية أكثر انفتاحاً وشفافية في أعقاب ثورة ديسمبر/كانون الأول، فإن استفراد الأطراف العسكرية بهذا الاتفاق قد تبين لاحقاً علاقته بمواقف بعض هذه الحركات المتماهية مع مشروع الثورة المضادة.
بالإضافة إلى تقديم الدعم لمختلف الأطراف السودانية الموقعة على الاتفاق، أسس المجتمعان الدولي والإقليمي ثلاث عمليات لحفظ السلام تهدف لدعم جهود بناء السلام. أولها بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان (AMIS)، التي بدأت عملياتها في عام 2004، بقوة قوامها 150 جندياً، وبحلول منتصف عام 2005، ارتفع عددها إلى حوالي 7000 من قوات حفظ السلام والمراقبين المنتشرين في جميع أنحاء المنطقة لمراقبة اتفاق سلام دارفور. وبهذا المعنى، كانت بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان بعثة “رصد ومراقبة” في حدها الأدنى. وبعد ثلاث سنوات، تأسست بعثة جديدة مشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور (يوناميد :UNAMID) في ديسمبر 2007. وسعت هذه البعثة إلى الاستعاضة عن بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان (AMIS) سيئة التجهيز وقليلة العدد بقوات مختلطة أكبر حجماً وأفضل تجهيزاً قوامها حوالي 19555 عنصراً عسكرياً و6432 من الشرطة، إضافة إلى مكونٍ مدنيٍ كبير. وتم تكليف البعثة بمهمة أمنية موسعة تتمثل في ردع العنف وضمان إنهائه. وعلاوة على ذلك، من المتوخى أن تقدم البعثة الدعم الشامل لعملية السلام؛ والمساعدة في بناء المؤسسات في المجالات الحاسمة لسيادة القانون والحوكمة وحقوق الإنسان؛ وتيسير المساعدة الإنسانية . إلا أن غياب الإرادة السياسية وطبيعة الأنظمة الشمولية الحاكمة آنذاك قد كان عائقاً أمام نجاح هذه البعثات أيضاً.
في أعقاب ثورة ديسمبر 2018 وتشكيل الحكومة الانتقالية، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 2524 (2020)، الذي أنشأ بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة في المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) في يونيو 2020 (United Nations Integrated Transition Assistance Mission in Sudan: UNITAMS). كانت هذه بعثة سياسية خاصة، لتقديم الدعم للسودان لفترة أولية مدتها 12 شهراً خلال فترة انتقاله السياسي إلى الحكم الديمقراطي. وفى سياق هذا التفويض ستدعم بعثة اليونيتامس تحقيق الاستقرار في السودان من خلال مجموعة من المبادرات السياسية ومشاريع بناء السلام والتنمية، بما في ذلك مساعدة البلاد على تحقيق أهداف الإعلان الدستوري الصادر في أغسطس/آب 2019، وتنفيذ الخطة الوطنية لحماية المدنيين. وكذلك في الجانب الاقتصادي ترتكز المرتكزات الاستراتيجية المحددة للبعثة على أهداف التنمية المستدامة .
وبناءً على طلب الحكومة الانتقالية المدنية، قرر مجلس الأمن الدولي أيضاً إنهاء تفويض بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور بعد ستة أشهر من تأسيس بعثة اليونيتامس. ويبدو أن الدافع وراء هذا القرار هو الرغبة في إفساح المجال للحكومة الانتقالية المدنية للاضطلاع بالمهام الرئيسة التي كانت موكلة حتى ذلك الوقت إلى اليوناميد. وكانت هذه المشاريع حيوية، بما في ذلك دعم عملية السلام وحماية المدنيين وتيسير إيصال المساعدات الإنسانية ودعم الوساطة في النزاعات بين القبائل. ومع ذلك، كان حل اليوناميد خطوة غير حكيمة من قبل الحكومة الانتقالية والأمم المتحدة، لأن الفراغ الأمني لم يكن من الممكن ملؤه من قبل السلطات العسكرية السودانية التي لم تكن محل ثقة كاملة من قبل بعض المجتمعات الدارفورية النازحة في المعسكرات التي كانت تحميها اليوناميد. علاوة على ذلك، بعد الانقلاب في عام 2021، أصبحت يونيتامس معطلة بسبب عدم تعاون المؤسسة العسكرية التي عارضت المبادرة منذ البداية. وأخيراً بعد اندلاع الحرب في مارس 2023، قرر مجلس الأمن الدولي عدم تجديد تفويضها.
تتسق النتيجة المخيبة للآمال لاتفاقيات السلام السودانية المتعددة وعمليات الأمم المتحدة المرتبطة بها مع تنبؤات أدبيات بناء السلام، والتي تشير إلى أن اتفاقات السلام التي تقتصر على الأطراف العسكرية في الحرب الأهلية، من غير المرجح أن تؤدي إلى انتقالات ديمقراطية شاملة في مرحلة ما بعد النزاع. بدلاً من ذلك، حتى وَلو كان ذلك على حساب بعض التعقيدات المتعلقة بتعدد المشاركين وتنوعهم، يجب أن يكون لأصحاب المصلحة المدنيين، مثل الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمجتمعات المحلية مقعداً على طاولة المفاوضات.