بحوث ودراسات

دولة (56): في العلاقة بين التشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، والحروب والثورات عقب الاستقلال: حرب 15 أبريل نموذجا:(1-3)

أ. الطيب على حسن عيسى

ملخص البحث:

في 15أبريل اندلعت الحرب في السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وكان السودان قد اختبر عقب الاستقلال، أزمنة متطاولة من الحروب والثورات والتي تمخضت عن توقيع أكثر من 46 اتفاقية للسلام، والتي نفترض هنا وجود آليات بنيوية تعمل على إنتاج هذه الحروب ويطرح هذا البحث، نموذجا تفسيريا يربط بين حرب 15 أبريل وجميع الحروب السابقة التي انتظمت تاريخ السودان، والتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان؛ وذلك عبر تتبع التحولات الجذرية التي أحدثتها مؤسسات  الدولة الاستعمارية على مستوى علاقات السلطة والاقتصاد داخل الاجتماع-السياسي السوداني:  ويخلص البحث إلى، أن حرب 15 أبريل وكل الحروب السياسية التي انتظمت تاريخ السودان، تجد جذورها التاريخية في التشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، الذي فرض مؤسسات استعمارية ذات طبيعة احتكارية واستبدادية، تعمل بنيويا على خلق شروطا اجتماعية للحروب والثورات.

 

كلمات مفتاحية: الدولة الاستعمارية، دولة (56)، الدائرة الداخلية/الخارجية للصراع، التناقض الرئيسي/الثانوي، سياسة المليشيات.

المقدمة:

في 15 أبريل 2023، اندلعت الحرب بين كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في ولاية الخرطوم، وهما القوتان اللتان تشكلان الجيش الرسمي للدولة السودانية، الأمر الذي يشير إلى إنهيار المنظومة الأمنية للدولة السودانية، وهو انهيار يؤكده انتقال الحرب التي اندلعت في الخرطوم لتشمل (14) عشرة ولاية من أصل (18) ولاية في السودان، مخلفة أثناء انتقال المعارك إلى هذه الولايات، ملايين النازحين واللاجئين، وعشرات الآلاف من القتلى من السودانيين، نتيجة المعارك الضارية، ويأتي ذلك في ظل وجود تقارير دولية تفيد بأن المجاعة تهدد ما يفوق نصف سكان السودان[1]، ولعل نظرة فاحصة لطبيعة هذه الحرب وطبيعة الأطراف الفاعلة فيها، والانقسام الاجتماعي الذي تجذرة داخل المجتمع السوداني كلما طال أمدها وتوسعت؛ كلها تشير إلى أنها حرب بين قوى اجتماعية وتتجاوز التوصيفات السائدة لها حاليا، إلى أنها حرب ذات جذور تاريخية بعيدة، كما يؤكد تقرير بعثة تقصي الحقائق (the Independent International Fact-Finding Mission for the Sudan) التابعة مجلس حقوق الإنسان (Human Rights Council-HRC)التابع للامم المتحدة (United Nations-UN)  الذي صدر عقب سنة ونيف على اندلاع حرب 15 أبريل الجذور التاريخية البعيدة لهذه الحرب التي نشير إليها هنا، مقررا ” دخل السودان في دوامة من العنف والتشظي منذ الاستقلال، والذي  كان عنفا مؤسسيا ومتواصلا حتى في أوقات السلام” [2]، ولعل  دوامة العنف والحروب  التي دخل فيها السودان عقب الاستقلال، تشير إلى وجود مشكلات بنيوية في مؤسسات الدولة، خاصة وأنها حروب وتمردات وثورات كانت دائما ما  تنشأ نتيجة المظالم التاريخية ذات الصلة بالتهميش الاجتماعي والتطور غير المتكافئ بين القوى الاجتماعية، حيث أن السودان اختبر أزمنة متطاولة من الصراعات المسلحة،والمعاناة السياسية والحروب التي تمخضت عن توقيع “أكثر من 46 اتفاقية للسلام، تعاني جميعها من نقطة ضعف مشتركة، وهي التركيز على إنهاء الصراع دون معالجة جذوره ومحاسبة المسؤولين من الانتهاكات الواسعة،”[3] وبغض النظر عن فشل كل هذا الكم من اتفاقيات السلام، إلا أن كل هذه الحروب التي تستدعي هذا العدد الكبير من اتفاقيات السلام، تشير إلى وجود آليات ودينميات تاريخية تؤدي إلى إنتاج هذه الحروب والثورات.

أيضا نشير إلى أن حرب 15أبريل -مثل كل ظاهرة اجتماعية كبرى- ذات جذور تاريخية بعيدة وذات صلة وثيقة بتاريخ تشكل وتطور الأطراف المتصارعة؛ وفي تاريخ تشكل كل من الدعم السريع والجيش على حد سواء، وبالطبع تاريخ الصراع الاجتماعي على الثروة والسلطة في السودان، خاصة وأن هذه الحرب ترتبط بالتناقضات الاجتماعية داخل الدولة السودانية؛ والتي تمظهرت تاريخيا في انقسامات وتناقضات اجتماعية حادة داخل المجتمع السوداني، كانت السبب الرئيس في اندلاع حروب وتمردات سابقة ضد الدولة، وعدد كبير آخر من الحروب الإثنية والقبلية في أقاليم السودان المختلفة. ونشير هنا إلى إننا نصف التغيرات التي تحدثها حرب 15 بالتغيرات المهولة، نظرا لأن  طبيعية التحالفات العسكرية والسياسية الجديدة التي تفرضها هذه الحرب، تشير إلى حدوث تغيرات جذرية في بنية وعلاقات السلطة في السودان ، وربما دخول الاجتماع-السياسي إلى مرحلة جديدة من تاريخ الصراع الاجتماعي على السلطة في السودان، ولعل ما يؤكد ذلك، أنها تفرض أوضاعا سياسيا واقصادية واجتماعية جديدة في السودان، حاصة عقب أن أصبحت كل من قوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع تتناصفان السيطرة على البلاد، ولعل ما يؤكد جذرية هذه التغيرات هو، أنها باتت تتمظهر حتى داخل القاموس السياسي السوداني، وبشكل خاص مع بروز مصطلحات مثل الجمهورية الثانية، التأسيس الجديد للسودان، نهاية دولة (56)، العقد الاجتماعي الجديد. وكم كبير من المصطلحات، حيث يدلل بروز اصطلاحات سياسية مثل هذه داخل القاموس السياسي السوداني، على أن هنالك واقعا جديدا داخل الاجتماع-السياسي السوداني، يتطلب مصطلحات وتوصيفات سياسية جديدة، وبعبارة أدق، نقرر ن حرب ال15 من أبريل ونتيجة للمتغيرات المهولة التي تفرضها تفرض أيضا، حاجة أخرى إلى توصيفات جديدة للصراع الاجتماعي في ضوء هذه المتغيرات.

تهدف هذه الدارسة  إلى موضعة حرب 15أبريل في سياقها التاريخي ضمن  تاريخ الصراع الاجتماعي على الثروة والسلطة في السودان،  بغرض إعادة تعريفها وتوصيفها كظاهرة، ونطرح هنا نموذجا تفسيريا يربط بين حرب 15 أبريل وجميع الحروب السابقة في تاريخ السودان، والتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، وذلك عبر فحص طبيعة أو بنية المؤسسات التي فرضتها القوى الاستعمارية وطبيعة السلطة ونظام وأساليب الحكم فيها، إضافة إلى تتبع التحولات الجذرية على مستوى علاقات السلطة والاقتصاد داخل  الاجتماع-السياسي السوداني، وكذلك تتبع التطور التاريخي للقوى الاجتماعية السودانية في علاقتها بمؤسسات الدولة الاستعمارية ، ذلك أن حالة عدم الاستقرار السياسي التي انتظمت البلاد عقب الاستقلال، والتي تمظهرت في عدد لا يحصى من الحروب والثورات والتمردات، هي نتيجة مباشرة لما نسميه بالدولة الاستعمارية وسياساتها، وإعادة انتاجها عقب الاستقلال وسيكون ذلك في أربعة أقسام:  (1)التأسيس الاستعماري الأول للدولة الحديثة في السودان (1821-1885) ويبحث التأسيس الاستعماري للحكم المركزي وللدولة الحديثة في السودان بواسطة الاستعمار التركي المصري، وطبيعة المؤسسات التي فرضها في السودان، وكذلك أهم التغيرات التي أحدثها الحكم المركزي  (2) يبحث التأسيس الاستعماري الثاني للدولة الاستعمارية في السودان: ويبحث طبيعة المؤسسات التي فرضها الاستعمار البريطاني-المصري في السودان، وطبيعة نظام الحكم والسلطة فيها، وأهم التغيرات التي فرضتها بنية الدولة الاستعمارية داخل الاجتماعي-السياسي السوداني وفي تاريخ الصراع الاجتماعي على السلطة في السودان    (3)الدولة الوطنية: إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية: يبحث العلاقة بين الممارسة السياسية للنخبة الوطنية التي حكمت السودان عقب الاستقلال، واستمرار السياسات الاستعمارية، ويفحص أهم التحولات على مستوى علاقات السلطة داخل الاجتماع-السياسي السوداني التي حدثت عقب الاستقلال (4) الدولة الاستعمارية وآليات إنتاج الحروب والثورات حرب 15 أبريل نموذجا: ويبحث العلاقة بين  طبيعة مؤسسات الدولة الحديثة في السودان ونظم وأساليب الحكم وعلاقتها بالحروب والثورات التي انتظمت تاريخ السودان، ويتتبع الجذور البعيدة لحرب 15أبريل بوصفها تتويجا لسلسلة من الحروب ذات الأسباب المشتركة التي ترتبط بالتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان.

 

1-التشكل الاستعماري الأول للسودان الحديث:  الاستعمار التركي-المصري(1821-1885):

 

إن الإطلاع على الأدبيات السياسية السودانية، يكفي حتى ندرك أن الإشكالات البنيوية التي تعاني منها الدولة السودانية الحديثة، هي في المقام الرئيسي مشكلات ترتبط بتاريخ تشكل الدولة الحديثة في السودان، وتشكل ما يمكن تسميته بالاجتماع السياسي السوداني الحديث[4]، وبالتالي فإنها أيضا وبدرجة أولىى مشكلات ذات جذور تاريخية بعيدة، يمكن تتبعها حتى إلى ما قبل الفترة الاستعمارية الأولى من تاريخ السودان، والتي سنسميها هنا  بحقبة “السودان القديم”[5] تمييزا لها عن حقبة السودان الحديث، التي تبتدئ بحقبة الاستعمار التركي-المصري (1821-1985)،  ذلك أنه وفي هذه الحقبة قد تشكلت الجغرافيا السياسية للسودان الحالي،  كما أن السودان عرف فيها لأول مرة في تاريخه مؤسسات الدولة الحديثة، . ولعل أول  ما يجب تأكيده هنا، أن السودان ما قبل هذا التاريخ  (1821) الذي يشير إلى بداية الغذو التركي-المصري، كان مقسما إلى عدة ممالك وسلطنات مستقلة، لكل منها سلطة مركزية وحدود جغرافية منفصلة، كما أن لكل منها نظم وأساليب حكم وعلاقات سلطة واقتصاد خصوصية الطابع تختلف من دولة إلى أخرى ومن إقليم إلى أخر،  وبالتالي أيضا، قوى اجتماعية مختلفة تتصارع كل منها في دولة مستقلة، وبعبارات أخرى، إن المنطقة التي تسمى حاليا بجمهوية السودان وجغرافيتها وحدودها السياسية الحالية،  لم تعرف تاريخيا “الحكم المركزي الموحد”  قبل هذه اللحظة التاريخية. وهنا نقرر أن لحظة الاستعمار التركي-المصري لحظة مفصلية في تاريخ السودان، ذلك أنها أدت إلى تغيرات مهولة في بنية مجتمعات الممالك والسلطنات المستقلة، وفي  علاقات السلطة في جغرافيا “السودان القديم” وكذلك في العلاقات بين المجتمعات التي تشكل الآن الشعب السوداني: لعل أهمها إنشاء حكم مركزي يضم عدة أقاليم كبرى كانت بمثابة دول وممالك وسلطنات منفصلة، ألا وهي المنطقة التي عرفت تاريخيا ب”سنار أو السلطنة الزرقاء” أو “مملكة الفونج” والتي كانت تحكم أجزاء واسعة من شمال وسط وشرق السودان، والمنطقة التي عرفت تاريخيا ب”كردفان”، والتي تسمى تاريخيا ب”سلطنة المسبعات وتقلي”،  وكذلك المنطقة التي عرفت تاريخيا ب”سلطنة دارفور”، وأيضا منطقة جنوب السودان التي تشكل الآن دولة منفصلة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن  لفظ “بلاد السودان” كان يشير إلى جغرافيا تشكل السودان الحالي والمنطقة التي تسمى حاليا ب”منطقة الساحل، وفي هذا السياق، نجد أن الرحالة محمد بن عمر التونسي يوثق هذه الحقيقة التاريخية بدقة، فقد كتب في العام 1803م قبل أقل من عقدين حيث يقول، “أما دارفور فهو الأقليم الثالث من ممالك دارفور، ذلك أن القادم من المشرق إلى بلاد السودان، أول مملكة أو أقليم يعرض له -هو- مملكة سنار، ثم كردفان، ثم دارفور، فظهر أنها الأقليم الثالث، وبحسب ذلك يكون أقليم وداي هو الرابع، والباقرمة هو الخامس، برنو السادس، …”[6]، ونلاحظ أن كلمة السودان -بحسب التونسي- كانت تشير إلى الجغرافيا التي تمتد من ساحل البحر الأحمر حتى منطقة الساحل جنوب الصحراء، وبالتالي إلى عدة ممالك وسلطنات ودول، وليس إلى دولة واحدة ذات حكم مركزي كما  تشير الكلمة الآن،  وبهذا المعنى  فإن لحظة الحكم التركي-المصري، هي لحظة تأسيس الدولة السودانية الحديثة وتشكل الجغرافيا السياسية للسودان الحديث، وبالطبع أنحلال وزوال الممالك والسلطنات التي كانت تحكم الجغرافيا السياسية  “للسودان القديم” ما قبل الاستعمار التركي-المصري.

إنه ينبغي أن نفهم أن الحكم التركي-المصري كان العامل الرئيس في تغير العلاقات الاجتماعية والسياسية بين  القوى الاجتماعية غير المتجانسة من حيث اللغة والعرق والدين، والتي كانت لكل منها تاريخ تطور سياسي واقتصادي مختلف، وذلك نظرا لشساعة جغرافيا السودان الحديث التي تضم قوى اجتماعية متباينة وممالك وسلطنات ذات تاريخ وتطور اجتماعي مختلف، وهي شساعة يصفها حاج حمد قائلا: “إن السودان ليس بلدا واسعا فقط، بل هل -وهنا النقطة الخطرة- مجال التدامج القومي لكل شعوب القارة الأفريقية من ناحية، ولتدامجها مع العرب من جهة أخرى”[7]، وما نشير إليه، أن الحكم التركي-المصري أنشأ حكما مركزيا في جغرافيا تضم قوى اجتماعية مختلفة من حيث اللغة والعرق والدين، والتطور السياسي والاقتصادي، الأمر الذي كان مؤذنا بانطلاق دينميات اندماج هذه القوى الاجتماعية المتباينة عبر جهاز الحكم المركزي الحديث، وانطلاق الصراع الاجتماعي  داخل الاجتماع-السياسي السوداني الحديث الذي بدأ يتشكل بالتوازي مع الحكم المركزي. وجدير بالذكر هنا، أن قوى الاستعمار التركي-المصري لم ترسم حدود الدولة السودانية الحديثة، استناد إلى التاريخ السياسي والديموغرافي للمنطقة، وإنما استنادا إلى سياسات الهيمنة العسكرية التي تقوم على ضم المناطق التي تصلها جيوشها إلى جهاز الدولة الحديث، والذي كانت القوى الاستعمارية تعمل على تأسيسه بالتوازي مع ضم المناطق الجديدة إلى سيطرتها، وهنا يقول المؤرخ محمد سيعد القدال “انتقل السودان بعد عام 1821، من نظم سياسية ذات علاقات محدودة بالعالم  الخارجي، إلى كينونة موحدة بدأت تخطو نحو الارتباط بالسوق الرأسمالية العالمية عبر علائق  تجارية وسياسية وثقافية متفاوتة الدرجات “[8]وعلى هذا، فإن الحقبة الاستعمارية التركية-المصرية كانت تؤذن بانطلاق صيرورة الصراع الاجتماعي في جغرافيا السودان القديم في مستوى جديد، مستوى نتج عن تحول القوى الاجتماعية المتباينة، والتي كانت تتصارع بشكل منفصل في الممالك والسلطنات التي أنهتها الدولة الاستعمارية، إلى الاندماج في حكم موحد، الأمر الذي كان يعني أيضا تأسس أجتماع-سياسي وطني سوداني حديث، تتصارع داخله هذه القوى الاجتماعية المتباينة وتتطور تدريجيا بشكل متفاوت، وبعبارات أدق، وبالتوازي  مع تأسيس  الدولة الاستعمارية الأولى، كانت تتشكل ملامح القوى الاجتماعية الرئيسية في الاجتماع-السياسي السوداني الحديث، والتي حتما ستكون متباينة المصالح والطبيعة نظرا لغياب الحكم المركزي تاريخيا في جغرافيا السودان القديم[9]، ومن هنا نقرر أن الدولة الاستعمارية الأولى،كانت أيضا لحظة انتقال الصراع الاجتماعي  في جغرافيا السودان، من مرحلة السودان القديم الذي كان فيه الصراع بين القوى الاجتماعية محددا بالنظم المركزية في الدويلات التي كانت تشكل جغرافيا السودان  القديم، إلى مرحلة الصراع الاجتماعي في السودان الحديث، حيث يتحدد الصراع الاجتماعي  بالدولة المركزية، ويتخذ طابع وطنيا.

أيضا تجدر الإشارة هنا إلى ملاحظة تاريخية مهمة، وهي  أن توغل الجيش الغازي كان يجد مقاومة شرسة من قبل القوى الاجتماعية في أطراف السودان، حيث نلاحظ أن توغله “في الجنوب استمر حتى (1840) ولم يتم استتباع الأقليم بالكامل، كما أن  توغله في كردفان ودارفور كان تدريجيا حتى (1970)”[10] الأمر الذي يشير إلى أن  تشكل جغرافيا السودان الحالية، استغرق عدة عقود، حيث أن تمدد الحكم المركزي،  دائما ما كان يواجه بمقاومة من قبل مجتمعات “السودان القديم”، وهنا يقول القدال، “إن هذه التكوينات السياسية والإقليمية بدأت بعد العام 1821 تتشكل في كينونة سياسية، هي التي عرفت بالسودان، أن تلك الكينونة لم يكتمل تأسيسها في عام أو بضعة أعوام، بل تواصلت عملية التوسع الاستعماري طوال العهد التركي-المصري حتى آخر حقبة من وجوده”[11] وهو الأمر الذي جعل بنية الدولة الحديثة في السودان ونظام حكمها المركزي الجديد هشة، حيث أن مؤسسات الدولة الجديدة غير متجذرة في الجغرافيا التي أصبحت تشكل السودان الحديث، خاصة في الأقاليم التي تشكل أطراف الحكم المركزي الاستعماري الحديث، ورغم هذا التشكل التدريجي لجهاز الدولة الحديث في السودن، إلا أننا نرجع لحظة تأسيس السودان الحديث كدولة لها جهاز حكم مركزي  إلى العام (1833) ، على الرغم من أن هذا التاريخ يسبق الاستتباع الاستعماري الكامل لكل من جنوب السودان وكردفان ودارفور وشرق السودان، ذلك أن لحظتها “تم  إعلان “الخرطوم” عاصمة إدارية للحكم التركي-المصري، بالتزامن مع فرض نظام ضرائب قاسي، وإنشاء عدة مصالح ومؤسسات حكومية وعدة مظاهر أخرى لجهاز الدولة الحديث والحكم المركزي في السودان”[12]. وهي مؤشرات تكفي لاعتبار هذه اللحظة، لحظة التأسيس الأولى للدولة السوادنية الحديثة الحالية، خاصة أن الضم التدريجي لبقية أقاليم السودان إلى الحكم الاستعماري التركي-المصري، كان يعيد تشكل جغرافيا السودان الحديث التي نعرفها حاليا، بحيث تتخذ العاصمة الموحدة الأولى في تاريخ السودان الحديث صفة مركز الدولة، وتتحول الأقاليم الأخرى شمال، شرق، غرب، جنوب إلى هوامش وأطراف هذ المركز. ونشير هنا إلى أنه ونتيجة لذلك وتدريجا تغير القاموس السياسي القديم ليتم تعريف دارفور وكردفان بأنهما غرب السودان، وكذلك جنوب السودان، وأصبحت منطقة البحر الأحمر تعرف بشرق السودان،  ونشأت تباعاً كل التوصيفات السياسية الحديثة التي نستخدم كثير منها الآن.

في هذا السياق أيضا، نشير أيضا إلى ملاحظة مهمة، تتعلق بالنموذج التفسيري الذي نهدف إلى طرحه لتفسير الصراع الاجتماعي على السلطة في السودان الحديث، وتفسير الحروب والثورات والتمردات والانتفاضات التي انتظمت تاريخ السودان، وهي  أن هنالك فارقا كبيرا من حيث البنية بين الدول الحديثة التي نشأت نتيجة تطور تاريخي طبيعي، وبين تلك الدول الحديثة التي نشأت بفعل قوى خارجية، وهو ما سنأتي ونفصل فيه تاليا، ولكننا سنكتفي هنا بتقرير، أن تأسس الدولة الحديثة في السودان نتيجة تدخل قوى خارجية، هي في الأساس قوى ذات طابع استعماري، يجعل مؤسساتها مصممة بشكل أساسي “لتنمية خير القوى الاستعمارية لا الشعب صاحب الأرض”[13] ، الأمر الذي يتمظهر في مشكلة شرعية تواجهها السلطة الاستعمارىة، ذلك أن جهاز السلطة الحديث الذي أسسه المستعمر التركي-المصري في السودان كان بمثابة جهاز سلطوي يهدف كلية لخدمة أطماع القوى الاستعمارية، والتي تتلخص في تأمين الموارد الاقتصادية، بغرض تمويل الحملات التوسعية لمحمد علي باشا في مصر. ومشكلة الشرعية هذه يمكن ملاحظتها في مقاومة المجتمعات المحلية لمؤسسات الدولة الحديثة والحكم المركزي، ولعل مشكلة الشرعية التي تواجهها المؤسسات استعمارية الطابع هي أيضا، ما يفسر عدم تجذر مؤسسات الدولة الحديثة التي فرضتها القوى الاستعمارية داخل المجتمع السوداني، وعدم قدرتها على الحلول محل البنى التقليدية للسلطة، وأيضا تتمظهر مشكلة الشرعية هذه في تركز الجهاز الاداري الحديث للدولة الاستعمارية الأولى(1821-1885) وتمدده بشكل حصري في مناطق الوسط والشمال: ذلك أن جهاز السلطة الاستعماري كان لابد أن يكون مرتبطا بالنيل وبالطرق التجارية القديمة التي تتركز في الوسط والشمال، بغرض تسهيل نقل الموارد التي يتم استخراجها بواسطة جهاز السلطة الاستعماري من السودان إلى مصر. ومن المهم هنا أنه نقول: إنه ونتيجة تركز الجهازي الإداري للدولة الاستعمارية الأولى، وكذلك تركز مؤسسات الدولة الاقتصادية والخدمية والمشاريع الزراعية -على قلتها- في الوسط والشمال، إبتدأت الصيرورة التاريخية لتحول كل من أقاليم كردفان ودارفور وجنوب السودان والشرق إلى هوامش لمركز سياسي واقتصادي بدأ في التشكل لحظتها عبر ممارسات القوى الاستعمارية.

نخلص هنا، إلى أن كون تأسس جهاز الدولة الحديثة في السودان، كان بفعل قوى استعمارية يعني، أن نظامها الإداري وسياساتها الاقتصادية وكل بنيتها ومؤسساتها مصممة في المقام الأول لخدمة مصالح قوى خارجية هي القوى الاستعمارية، وليس خدمة مصالح الشعب السوداني، ولعل  هذا ما سيفسر تكون جهاز السلطة بشكل حصري في بدايته من العسكريين والإداريين المستعمرين، وفي ذلك يقول القدال “شكل الجيش الذي قام بعملية الغزو أساسا آخر للنظام الإداري. فتحول بعد اكتمال الغزو إلى أداة إدارية في بلاد غريبة عليه وشاسعة ومضطربة. وكان القادة من العسكريين هم حكام المناطق، ولهم استقلالهم إذ يتبعون رأسا إلى القاهرة. وتركزت مهمتهم في استتباب الأمن. وبعد استقرار الأوضاع بقي الطابع العسكري ملازما للنظام. . فكان الإداريون بداية بالحكمدار الحاكم العام حتى الإداريين الصغار، كلهم من العسكريين، وفرض هذا الطابع العسكري نظاما إداريا مركزيا صارما، وتمازج المنهج العثماني مع الطابع العسكري ليتسم النظام الإداري بالتسلط المطلق. فكان نظاما غريبا على تقاليد أهل البلاد وأعرافهم ومعتقداتهم”[14]، ونستنج هنا أن الطبيعة العسكرية للدولة الحديثة في السودان في بدية تشكلها وتمددها في جغرافيا السودان، تتصل بطبيعتها الاستعمارية، التي سنفصل فيها في القسم التالي من هذا البحث، لكن نكتفي هنا بتقرير، أن التأسيس الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، كان يفرض مؤسسات دولة حديثة تعاني من مشكلة شرعية، الأمر الذي يفرض تمديد جهاز الدولة بواسطة العنف والقهر، ومن هنا الطبيعة الاستبدادية لمؤسسات الدولة الاستعمارية الأولى التي فرضتها القوى الاستعمارية في جغرافيا السودان القديم، ونزوع المجتمعات السودانية في دويلات السودان القديم إلى مقاومتها، واسقاطها بالنهاية.

نشير هنا أيضا، إلى أن أهم التغيرات الجذرية التي أحدثها بنية الدولة الاستعمارية في السودان، تتصل بتغير العلاقات السياسية والاقتصادية في جغرافيا السودان القديم ، خاصة وأن ملامح قوى اجتماعية واقتصادية حديثة في السودان، بدأت بالتشكل تدريجياً نتيجة اتصالها ببنية وجهاز الدول الحديث، وهي قوى إجتماعية تتكون بشكل حصري من المجتمعات التي قبلت التعاون مع  القوى الاستعمارية.  وهنا نشير إلى أن القوى الاستعمارية كانت تدرك حوجتها إلى حليف من المجتمعات المحلية، يسهل عليها تأسيس وإدارة الجهاز الإداري  للدولة بمساعدتهم، ويبدو أن القوى الاستعمارية قد وجدت ضالتها في بعض الزعماء المحليين، حيث يقول  القدال “لقد أدى الزعماء الذين تعاونوا مع النظام خدمة كبيرة له. كانوا بمثابة القنطرة الأولى التي عبر بها إلى واقع السودان، ثم أصبحوا أدوات اتصاله بالناس”[15]، ونشير هنا، إلى أن تحالف القوى التقليدية مع القوى االاستعمارية، كان يعني أنها قد بدأت بالارتباط ببنية الدولة الحديثة  عبر الوظائف الحكومية والتعليم الحديث وعلاقات الإنتاج الحديثة التي ترتبط بالتجارة والزراعة والانشطة الاستخراجية والاقتصاد الاستعماري ، وبالتالي تحولها التدريجي إلى طبقة اجتماعية حديثة  نتيجة ارتباطها بجهاز الدولة الحديث،  وهذا ما حدث بالفعل، ولابد هنا من تقرير: إن هذه القوى الاجتماعية السودانية الحديثة التي بدأت بالتشكل التدريجي حول جهاز السلطة الاستعماري، كانت تتكون بشكل حصري من  المجتمعات التي عرفت في الأدبيات التاريخية والسياسية السودانية باسم “الجلابة، والتي  نسميها في هذا البحث بالقوى الاجتماعية النهرية[16]، وفي ذلك يقول القدال “وجد الأتراك ضالتهم في فئتين. وجدوها أولا في قبيلة الشايقية. فكونوا منهم جيشا غير نظامي يتبع للدولة، وأوكلت لهم مهام أمنية ونظامية، وكان يقودهم زعماء من بينهم ولم تعط لهم مرتبات، بل كانوا يمنحون أرضا لزراعتها ويستخلص منها الفرد أمر معاشه وتمدهم الحكومة بالسلاح”[17] أما الفئة الأخرى فهي بعض القبائل الكبيرة في السودان، التي تتعاون ليس من واقع المشاركة الفعلية في الحكم فحسب، وإنما لوجود مصالح اقتصادية مشتركة حيث أن “ذلك التعاون ليشمل زعماء القبائل الذين احتلوا مناصب إدارية عالية. فأصبح بعضهم مديرا لمديرية، وأنعم عليهم بلقب بك وباشا منهم الشيخ أحمد باشا أبو سن شيخ مشايخ الشكرية الذي أصبح مديرا للخرطوم، وحسين باشا خليفة ناظر العبابدة الذي أصبح مديرا لبربر ودنقلا، والياس باشا أم برير الذي أصبح مديرا لكردفان ثم خلفه ابن عمه ومنافسه أحمد بك دفع الله وكلاهما من الجلابة الجعليين، والزبير باشا رحمة مدير بحر الغزال. وهناك من ترقى في مجال العسكرية مثل آدم بك العريفي،”[18]  . ولعل تحالف مجتمعات الجلابة مع المستعمر هو الذي مكنها من بين كل مجتمعات السودان القديم من التطورت لتصبح طبقة اقتصادية سياسية ذات نفوذ واسع ،كما أنه تحالفها مع الاستعمار التركي-المصري أمن لها نماء اقتصاديا وسياسيا  وتطورا متسارعا  للتتحول في خضم حركة التاريخ التي وصفناه أعلاه، إلى  قوى اقتصادية  تحتكر الوظائف الإدارية والعسكرية وتهيمن على التجارة في مختلف أقاليم السودان. وهي القوى الاجتماعية ذاتها التي ستتحالف مع المستمعر الإنجليزي-المصري الذي سيغذو السوادن نهاية القرن التاسع عشر في العامل(1898) ذلك أن الثورة المهدية التي اسقطت الاستعمار التركي-المصري، اسقطت أيضا امتيازاتها الاقتصادية والسياسية التي أمنها لها تحالفها مع القوى الاستعمارية، وفرضت علاقات سلطة ونموذح سياسيي واقتصادي قطع التطور التاريخي للقوى الاجتماعية الحديثة التي تعود جذورها إلى المجتمعات النهرية  في شمال ووسط السودان.

أيضا، يمكن النظر إلى التحالف بين مجتمعات الجلابة وقوى الاستعمار التركي-المصري، على أنه الرافعة التاريخية التي وضعت القوى الاجتماعية النهرية في هرم السلطة داخل الاجتماع-السياسي السوداني، وليس هذا فحسب، بل إن تحول الإسلام إلى دين الدولة الرسمي في العهد التركي-المصري، رفقة تحالف القوى الاجتماعية النهرية  ومجتمعاتها العربية-المسلمة -ثقافيا على الأقل- مع القوى الاستعمارية، كان يعني تحول مقولتي الإسلام والعروبة بشكل رسمي إلى محددات مهمة في علاقات السلطة داخل الاجتماع-السياسي السودان الحديث، حيث يؤكد أليكسي يلونين “أصبح الدين المذهبي العثماني يستخدم بشكل متزايد كوسيلة للسيطرة، حيث كان الإسلام السني المذهبي بمثابة قوة مركزية، تنظيم شؤون  السودانيين، وتم ترسيخه كدين للدولة.”[19].  وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأتراك أسسوا   نظام حكم يستند إلى الفقه العثماني كمرجعية، وهنا يشير القدال إلى أنه “رغم أن دولة الفونج كان بها نظام قضائي إسلامي، إلا أنه لم ينشأ في ظل دولة مركزية تفرض نفوذها على مؤسسات الحكم وتدبرها مركزيا، مما أعطى رجاله درجة من الاستقلال. أما الأتراك فقد أخضعوا المؤسسة القضائية لسلطة الدولة المركزية إخضاعا تاما. فالدولة تعين القضاة وتمنحهم مرتبات وتفصلهم. وتفرض في كثير من الأحيان كلمتها لتغيير مجرى العدالة” [20] وفي سياق ذلك نلاحظ أيضا أن  الحكم التركي-المصري اهتم أيضا، بتدريب بعض السودانيين خاصة من المجتمعات التي تعاونت معه، وهو تدريب  في علوم الشريعة، حيث أصدر الخديوي “أمرا بلزوم تشويق وترغيب الأشخاص الملمين بعلوم الفقه والنحو من أهالي السودان في الحضور إلى الجامع الأزهر وملازمتهم الإقامة فيه لمدة سنتين أو ثلاث سنوات لتكتمل علومهم وهذا لأجل نشر وتعليم أصول أحكام الشريعة والديانة في الأقطار السودانية حيث يندر وجود العلماء والفقهاء فيها”[21]  وليس هذا فحسب، بل إن الحكم التركي- قد ابقى على بعض الزعماء المحليين في مناصبهم، خاصة في جغرافيا السودان السناري أو مملكة الفونج التي تسمى حاليا بإقليمي وسط وشمال السودان،حيث يذكر القدال “تعامل الأتراك مع القيادات المحلية منذ بداية الغزو، حيث أبقوا على بعض الزعماء المحليين في مناصبهم، مثل النوبة ودنقلا وبربر والحلفاية وسنار وفازوغلي، ولكن بعد أن سلبوهم استقلالهم الذي كان مصدر منعتهم، فتحولوا إلى موظفين تابعين للسلطة المركزية الأجنبية”[22]

ولعل من المهم هنا، أن نشير إلى أن تحالف القوى الاجتماعية النهرية مع القوى الاستعمارية، كان يعني أيضا تعزز مكانة هذه القوى الاجتماعية داخل الاجتماع-السياسي السوداني  نتيجة الامتيازات التي تعود عليهم من التحالف والارتباط بمؤسسات وأساليب حكم الدولة الاستعمارية الحديثة، وهنا نلاحظ أن عددا من التشكيلات الدينية بين القوى الاجتماعية النهرية، خاصة ذوي النزوع المذهبي المقارب للإسلام السني العثماني: تمكنت من الحصول على امتيازات سياسية واقتصادية، مكنتهم من أن يصبحوا النواة الرئيسية للقوى الاجتماعية الحديثة التي سترث الدولة مستقبلا. أيضا، نشير إلى أن تحول الإسلام  والعروبة إلى محددات مهمة من محددات علاقات السلطة في السودان، يعود إلى تاريخ أبعد من لحظة الحكم-التركي، لكن ليس في كل جغرافيا السودان،حيث يؤكد يلونين أن صعود القوى الاجتماعية العربية سلطويا في جغرافيا أفريقيا كان نتيجة عوامل تاريخية متعدد، حيث يقول “وقد تم تسهيل هذه العملية من خلال المكانة البارزة المتزايدة للعرب في مجتمعات الساحل بسبب تقاليدهم الأبوية وازدهارهم الاقتصادي بشكل أساسي كتجار، حيث أن الاختلاط مع المجتمعات المحلية ذات النسب الأمومي عمومًا، أنتج أحفادًا مستعربين مع تزايد تدريجي في الوصول إلى مناصب السلطة” [23]، ويضيف يلونين، “ويرجع ذلك جزئيًا إلى تحسن وضعهم الاقتصادي والسياسي، حيث تمكنت العناصر المستعربة من اكتساب مكانة اجتماعية من خلال التركيز على الإسلام والادعاء بنسبهم إلى المملكة العربية السعودية والنبي مسلم، مما مكنهم من تأكيد مكانتهم الاجتماعية”[24] .  وما يهمنا في هذه الملاحظة التاريخية المهمة، هو أن تركز جهاز السلطة ومؤسسات الدولة الاستعمارية الأولى في الوسط-الشمال وفرض الإسلام دينا رسميا للدولة ، كانت العوامل التاريخية التي تطورت عبرها المكانة الاجتماعية للقوى الاجتماعية النهرية، حيث يشير حاج حمد إلى القوى الاستعمارية التركية-المصرية قد فضلت “حركات صوفية معينة في وسط السودان وبالذات طائفة الختمية، .. وبعض القبائل وبالذات الشايقية”[25] مما أمن لها تطورا اقتصاديا وسياسيا متسارعا: بحيث أصبحت قبائل وطوائف دينية ذات نفوذ وهيمنة سياسية واقتصادية.

فيما يتعلق بالثورة المهدية (1881-1898)، نشير إلى أنها كانت أيضا متغيرا مهما في تاريخ السودان الحديث، خاصة أنها كانت الثورة الشعبية التي أنهت الحقبة والدولة الاستعمارية الأولى (1821-1885)، ونشير إلى أنها وبدرجة أولى، ثورة القوى الاجتماعية السودانية في الأطراف على الدولة المركزي الحديثة في المركز وقواها الاستعمارية وحلفائها المحليين، ذلك أنها تتكون بشكل رئيس-وقتها- من تشكيلتين اجتماعيتين أساسيتين، الأولى تتمثل في زعماء الطرق الدينية وجمعاتهم التي أكتسبت فعالية سياسية كبيرة داخل المجتمعات السودانية في فترة ضعف السلطنات والممالك التي كان يتكون منها  “السودان القديم” قبل التأسيس الاستعماري للدولة الحديثة، والتي تزايدت فاعليتها السياسية أيضا بعد أن أصبح الإسلام المذهبي دينا رسميا للدولة إبان الاستعمار التركي المصري-بحيث أصبحت قادرة على تحشيد السودانيين،  أما التشكيلة الثانية الرئسية في الثورة المهدية  فهم زعماء القبائل خاصة القبائل العربية الرعوية في غرب السودان والتي تشكل القوى الاجتماعية الرئيسية للثورة المهدية، والتي سنسميها هنا بالقوى الاجتماعية العربية الرعوية، والتي ستكون أحد أبرز القوى الاجتماعية التي تتصارع  على السلطة داخل  الاجتماع-السياسي السوداني الحديث. ونؤكد هنا، أن الثورة المهدية كانت نتيجة تحالف الزعماء الدينيين مع زعماء القبائل، ضد قوى استعمارية أزلت واستغلت السودان والسودانيين. ولعل ما يفسر أن الثورة المهدية كانت نتيجة تحالف هاتين التشكيلتين، هو أنها كانت رد فعل على السياسة التركية-المصرية التي تقوم على “الإفادة من زعماء الدين -مثلهم مثل زعماء القبائل- كأدوات للحكم، وكانت الأسرة الميرغنية تجد تفضيل خاص، وارتبط الختمية بالحكم التركي-المصري بروابط وثيقة”[26]، ومن هنا الإرتباط الوثيق بالقوى الاجتماعية في أطراف السودان، ذلك أنها كانت اصطفافا مضادا من قبل هذه القوى الاجتماعية في أطراف السودان ضد الاصطفاف الآخر للتشكيلات القبلية والدينية النهرية المتحالفة مع القوى الاستعمارية.

أيضا، تكمن أهمية الثورة المهدية في تاريخ السودان، في أنها كانت بمثابة لحظة تبلور ما يمكن تسميته ب “الإرادة الوطنية” لأول مرة في تاريخ السودان، حيث أن المشاركة الواسعة فيها من قبل السودانيين من مختلف الأعراق والديانات والطرق والمذاهب والقبائل كانت أيضا بمثابة لحظة تأسيس “الحس الوطني” المشترك بين السودانيين، ولكن ولأن القوى الاجتماعية الرئيسة في هذه الثورة كانت أقل حداثة من تدير جهاز الدولة المركزي الحديث، لم تنجح القوى الاجتماعية السودانية في تطوير هذا الحس الوطني الناشيء، وذلك يعود من ناحية أيضا، إلى كون “الدولة المهدية” كانت تمثل ما يمكن تسميته بتجربة “الحكم الوطني الأولى” أو الدولة الوطنية الأولى (1885-1899) في السودان الموحد الحديث. ونتيجة لهذه العوامل وعوامل أخرى مثل السياسة الاقتصادية للمهدية، وكذلك الحصار الخارجي، وكون الغذو الخارجي كان بأدوات أكثر حداثة من تلك التي تمتلكها القوى الاجتماعية الثوري نتيجة لتطورها التاريخي،  لم تستطع ثورية القوى الاجتماعية التي أسست الدولة “الوطنية الأولى” أن تدير الدولة  وجهاز حكمها الحديث، الأمر الذي سهل إنهيارها وهزيمتها أمام المستعمر الجديد.. وما يجب تقريره هنا أن غياب  عوامل مثل:  عدم وجود الحكم المشترك في فترات سابقة  أو وجود دين أو لغة مشتركة بين كل  السودانيين والتي تعد عواملا مهمة ومساعدة في تبلور وتطور مفاهيم مثل الأمة، الشعب، المواطنة، والدستور، و..الخ، كانت أهم أساب انهيار الدولة الوطنية الأولى (1885-1899) ، وهي عوامل كانت ذات أثر حاسم في تعثر استكمال بناء الدولة الحديثة في السودان.

 

المصادر والمراجع:

[1] (HRC) Independent International Fact-Finding Mission  for the Sudan Report, Stockholm, 5 September 2024, pp6-9

[2] Ibid, p6

[3] Ibid, p6

 [4]  نقصد بالاجتماع السياسي السوداني الحديث النظام الاجتماعي الحديث الذي  نشأ بالتوازي مع تشكل الدولة الحديثة والحكم المركزي في الحقبة الاستعمارية الأولى (1821-1885). وهو النظام الاجتماعي الذي تحكمه الهوية الوطنية الحديثة، والتي يعرف السودانيون أنفسهم “كسودانين” بهذا المعنى الذي نستخدمه الآن نحن مواطنوا السودان الحاليين: استنادا إليها. وهذه الهوية الحديثة المؤسسة للاجتماعي الحديث هي التي استبدلت الهويات الوطنية القديمة التي كانوا يعرفون انفسهم استنادا إليها، ذلك أنه لما كانوا يعيشون في اجتماع سياسي يرتبط بالسلطة أو المملكة التي يعيشون فيها فقد كانوا يعرفون أنفسهم على سبيل المثال كمواطنين في سلطنة الفونج أوالمسبعات أو دارفور لا كمواطنون سودانيين بالمعنى الحالي.

[5] نقصد به السودان ما قبل (1821) حيث كانت تسوده ممالك وسلطان كل منها ذات نظام حكم مركزي، حيث كانت كل من أقاليم شرق وشمال ووسط السودان تشكل الجغرافيا السياسية لسلطنة الزرقاء التي تسمى سلطنة الفونج. أما أقليم كردفان فقد كنت تحكمه سلطتة المسبعات وكانت دارفور تشكل سلطة إسلامية مستقلة أما جنوب السودان فقط كانت تسوده نظم عشائرية لا مركزية. وبعبارة أدق: حقبة السودان القديم هي الحقبة ما قبل الحكم المركزي الذي عرفه السودان في الحقبة الاستعمارية الأولى (1821-1885)

 [6] محمد بن عمر التونسي، تشحيذ الأذهان في سيرة بلاد العرب والسودان. (الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1965) ص133

[7] محمد ابو القاسم حاج حمد، السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل (دار ابن حزم للطباعة والنشر، بيروت، 1996) ج1 ص33

[8] محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث(1820-1955)، (الخرطوم، مركز عبد الكريم ميرغني، 2002) ص20

[9] لمزيد من المعلومات حول السودان القديم ما قبل الحكم المركزي الموحد راجع : مرزوقي، حسين، بلاد السودان في كتب الجغرافيين والرحالين العرب والمسلمين، (تونس: المجمع الأطرش للكتاب المختص، 2018).

[10] Aleksi, Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa The Case of “Marginalizing State in Sudan, Politica y Cultura, núm. 32, 2009, pp 44-48

[11] القدال، تاريخ السودان الحديث، سبق ذكره،  ص19

[12] Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p45

[13] Ibid, p45

[14] القدال، تاريخ السودان الحديث، سيق ذكره، ص 73

[15] القدال، تاريخ السودان الحديث، سبق ذكره، ص76

[16] “القوى الاجتماعية النهرية” مصطلح نشير به إلى تلك التشكيلات الدينية، والقبلية، والاقتصادية، والسياسية التقليدية والحديثة التي وجدت تاريخيا في وسط-وشمال السودان حول نهر النيل، والتي تتكون من جماعات متباينة الأصول بعضها عربي والآخر أفريقي كوشي، الأمر الذي يجعل تسميتها بالعربية حصرا أمر إشكاليا، وأيضا نشير به أيضا رفقة هذه التشكيلات الأولى، إلى التشكيلات السياسية والاقتصادية الحديثة التي ظهرت نتيجة تحالف القوى الاجتماعية النهرية مع القوى الاستعمارية،  مثل “الموظفين، كبار التجار، النقابات، الأحزاب، الجمعيات و..الخ، ونستخدمه هنا لسببين:أولا، لتجنب استخدام المصطلحات الشائعة في الأكاديميا السودانية، مثل “المجتمعات الإسلاموعروبية”، “عرب الشريط- النيلي” الطبقة الإسلاموعروبية” نظرا لارتباطها بمشروع السودان الجديد، الذي يعرف الصراع الاجتماعي في السودان على أنه صراع ثقافي في المقام الأول بين مجموعات عربية وأفريقية، وهو الأمر الذي يفرض تعريف المجتمعات الأفريقية في الهامش على أنها الحامل الثوري لمشروع السودان الجديد، وثانيا، نتجنب عبره اختزال الصراع الاجتماعي على السلطة في السودان إلى صراع عرقي فقط، حيث نؤكد عبره أن الصراع الاجتماعي في السودان حتى وإن كان ذو ابعاد عرقية، إلا أنها ليست محركاته الأساسية، حيث نجد  أن المجتمعات العربية في الهامش كانت مهمشة أيضا، ولها مظالم تاريخية مثل المجتمعات الأفريقية، كما أن القوى النهرية ليست عربية ومسلمة حصرا، وليس أسلامو-عروبية حصرا على المستوى الثقافي، حيث نلاحظ وجود مجوعات أفريقية مؤثرة داخلها، مثل المجموعات الكوشية في الشمال، ولكل ذلك نرى أن مصطلح القوى الاجتماعية النهرية أدق وذي قدرة توصيفية أعلى.

[17]  القدال، تاريخ السودان الحديث، سيق ذكره، ص77

[18] نفس المصدر، ص79

[19] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p45

[20] القدال، تاريخ السودان الحديث، سبق ذكره،   ص76

[21] المصدر السايق، ص76

[22] نفس المصدر، ص76

[23] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa::p44

[24] Ibid:p44

[25] حاج حمد، السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل، سبق ذكره، ص66

[26]  المصدر السابق، ص68

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى