
كاتب مفكر وباحث سياسي سوداني، وفنان تشكيلي، وناشط مجتمع مدني. عمل باحثاً بالمركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات، في قطر حيث ترأس قسم التحرير وتولى إدارة تحرير دورية سياسات عربية
* ما هي رؤيتك التحليلية لإزدواجية المعايير فيما يتعلق بالانتهاكات المصاحبة للحروب فى السودان…؟
الإنتهاكات والتجاوزات سمةٌ ملازمةٌ لجميع الحروب، ليس في السودان وحده وإنما في كل أنحاء العالم وعبر كل العصور المختلفة، وأسوأ الحروب هي الحروب التي يشعلها طرف ما على طرف داخل البلد الواحد، وهي ما تسمى بالحرب الأهلية؛ هذه الحروب التي تجري داخل البلد الواحد تفتح أوسع الأبواب للانتهاكات، وعمومًا فإن الحرب تعني– من الناحية العملية تقويض حكم القانون، فالحروب والتوترات والإضطرابات الداخلية يصحبها عادةً وفي أحسن الحالات، إعلان لحالة الطوارئ. وإعلان حالة الطوارئ تعني تعليق حكم القانون وإخضاع كل شيء للتقديرات العسكرية تمنح حالة الطوارئ الفرد العسكري سلطات تقديرية تصل حد إطلاق النار، وفقاً للتقديرات الميدانية لذلك الفرد؛ سواء كان من قوات الشرطة أو قوات الجيش أو من الأجهزة الأمنية، كما تمنحه أيضاً- حصانة من المساءلة القانونية، لا يجدها عادةً حين يكون حكم القانون قائماً.
الحرب بهذه السمات التي ذكرناها تفتح الباب واسعاً للتجاوزات، بما في ذلك القتل غير القانوني والاغتصاب والنهب وغير ذلك؛ لذلك من يشعل الحرب عليه ألا يشتكي إطلاقًا من الانتهاكات والتجاوزات، لقد أشعلت كتائب الإسلاميين الحرب لضرب قوات الدعم السريع لأنها وقفت مع الاتفاق الإطاري، وهذا ما أثبتته إفطارات رمضان المصورة والموجودة على تطبيق يوتيوب، بسبب سوء التقدير وعدم التحسب للعواقب فشلت.
لقد تحول الجيش السوداني إلى مليشيا تخدم تنظيماً عقائدياً تقوم عقيدته في الأساس على ألا بأس أن يقتل المرء مخالفيه في الرأي؛ منذ أن قام الإسلامويون بانقلابهم المشؤوم على النظام الديمقراطي. الحرب هي تقويض القانون حيث تمنح الفرد العسكري إطلاق النار وفق تقديراته
* ولكن الا توافق أن التركيز الإعلامي على إنتهاكات الدعم السريع دون الطرف الآخر في الحرب بات واضحاً…..؟
لو نظرنا إلى التسليط الكثيف للضوء على إنتهاكات قوات الدعم السريع، فإننا نجده تسليطاً إنتقائياً أحادي الجانب، لا يتعدى كونه جزءاً من بروباغندا الحرب التي تقف وراءها الإستخبارات العسكرية وجهاز الأمن، يعاونهم في ذلك أُجراؤهم من إعلاميي النظام البائد؛ لكن ما من لا شك أبداً أن قوات الدعم السريع قد قامت بإنتهاكات واسعة النطاق وبعض هذه الانتهاكات مصورٌ ومنشورٌ، ولا يستطيع أحدٌ إنكار ذلك، بل إن قيادة الدعم السريع نفسها، لم تنكر وقوع تلك الانتهاكات. الجيش السوداني تحول إلى مليشيا تخدم تنظيماً عقائدياً
* هناك إنتهاكات تاريخية للجيش السوداني لم تجد حظها من تسليط الضوء الاعلامي مع استمرارها بصورة واضحة في الحرب الحالية؟
نعم في المقابل ظل الجيش السوداني يمارس نفس هذه الإنتهاكات منذ الاستقلال وإلى هذه اللحظة؛ ولو بقي الجيش بصورته الراهنة وبقياداته الراهنة فسوف يواصل في نهج الانتهاكات هذا ما بقي ممسكاً بالسلطة، فهو ليس جيشاً مهنياً احترافياً لقد تحول الجيش السوداني منذ أن قام الإسلامويون بانقلابهم على النظام الديمقراطي في عام 1989، إلى مليشيا تخدم تنظيماً عقائدياً تقوم عقيدته في الأساس على أن ألا بأس أن يقتل المرء مخالفيه في الرأي؛ فحرب الجنوب على سبيل المثال؛ التي اشتعلت عشية الاستقلال ومُورس فيها قتل المدنيين الجنوبيين على نطاق واسع، حوَّلها الإسلاميون حين جاءوا إلى السلطة بالإانقلاب في عام 1989، إلى حرب بين المسملين والكفار، وقد شهدت حرب الجنوب انتهاكات مروعةً على مدى عقود؛ شملت حرق قرى المدنيين برجالها ونسائها وأطفالها، كما شملت إغتصابات لا عدَّ لها، وقد جرى نفس الشيء في دارفور وفي جبال النوبة وفي النيل الأزرق على مدى سنوات عديدة، وجرى في بعض تلك الإنتهاكات محو مئات القرى بأكملها، من الوجود تمامًا؛ وهذا موثق بصور الأقمار الصناعية.
أما مؤخَّراً جداً، بعد أن استعاد الجيش الجزء الشرقي من مدينة أمدرمان القديمة، فقد تواترت الأنباء حول قيام أفراده بنهب البيوت في أحياء ود نوباوي والعمدة والقلعة والركابية والمسالمة وأبو روف وغيرها؛ بل وأنشأ أفراد الجيش سوقاً علنية للمسروقات في موقف صابرين للمواصلات في محلية كرري. وأيضاً- مثلما نهبت قوات الدعم السريع سيارات المواطنين بغير حق- نجد أيضًا أن والي النيل الأبيض أمر قبل أسبوعين تقريباً سكان ولايته الذين يملكون عربات ذات دفع رباعي بتسليمها للجيش! فعلى أي قانون استند هذا الوالي سوى قانون الحرب الذي يعني الا قانون..؟ ما قام به والي النيل الأبيض انتهاكٌ وتجاوزٌ لا يختلف عن ذاك الانتهاك والتجاوز الذي جرى من قوات الدعم السريع، ولا سبيل هنا لاستخدام معيارين، لأن المعيار واحدٌ وهو مخالفة حكم القانون في الحالتين.
لقد سبق أن قلت في تسجيلٍ راج كثيراً في وسائط التواصل الاجتماعي، أن الجيش الأمريكي على ترابط وحداته وتماسكها وحداثة أجهزته الإلكترونية التي تربط كل جندي بمسلسل التراتبية القيادية، حدثت منه انتهاكاتٌ مروِّعةٌ في العراق؛ وقد حدثت منه مثل تلك الانتهاكات في أفغانستان، ومن قبل ذلك في حرب فيتنام- ففي العراق نهب الجنود الأمريكيون المتاحف وبيوت الناس، كما جرت إنتهاكات للأعراض- وفي الحرب العالمية الثانية في الفترة ما بين 1932- 1945م أجبر الجيش الياباني 200 ألف امرأة في الصين وكوريا والفلبين وغيرها من مناطق شرق آسيا على أن يصبحن مستعبدات لممارسة الجنس مع الجنود فيما سمي معسكرات الاغتصاب– وهي معسكرات هيأها وأشرف عليها الجيش الياباني لراحة جنوده وقد تقدمت اليابان بالإعتذار عن هذه الفظائع لكلٍّ من الصين وكوريا والفلبين.
الشاهد في كل ما تقدم، أن على من أشعل الحرب ألا يشتكي من التجاوزات والانتهاكات.
وقديماً قال الشاعر زهير بن أبي سلمى:
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
من يرد إيقاف الإنتهاكات، عليه أن يوقف الحرب، بدل أن يتحدث عن الإنتهاكات، لأنه لم توجد قط حربٌ نظيفة؛ في أي زمان وأي مكان؛ فسبي النساء ظل يجري في مل الحروب، بما في ذلك الحروب الإسلامية- ولا يعني استمرار الحرب، ومن ثم استمرار ذوبان سلطة القانون- سوى الاستمرار في الإنتهاكات، وفي كل أنواع الفظائع التي تتبع الحرب، وعلى رأسها موت الناس بالسلاح وموتهم جوعاً ورهقاً وبسبب الأوبئة، بل وبسبب الضغوط النفسية الهائلة التي تفوق طاقة البشر على الاحتمال. الحرب كسرت شوكة العنف التي استند عليها الإسلامويون في إبقاء السلطة في أيديهم وإقصاء جميع من عداهم
هل يمكن أن تقود تداعيات الحرب إلى تحقيق سلام مستدام يصبح قاعدة لبناء مشروع الدولة السودانية…..؟
تاريخنا السياسي بمجمله منذٌ الاستقلال، كان يشير إلى أن هناك حرباً طاحنة قادمة؛ كل المبصرين المدركين كانوا يعرفون ذلك- وقد نبهوا إلى خطورة اندلاع حرب شاملة كانت كل الممارسات السياسية الخاطئة تشير إلى أنها قادمة، لا محالة وذلك! بسبب تطاول الفعل السياسي المضطرب، كليل البصيرة، لقد كانت الحرب تدور في الأطراف البعيدة من المركز وكانت الانتهاكات الفظيعة تجري منذ الاستقلال، لكن أهل الوسط والشمال لم يكترثوا لما ظل يجري عبر كل تلك العقود الطويلة؛ ولم ينتبهوا إلا بعد أن زحفت الحرب من الأطراف واشتعل أوارها في المركز ومحيطه؛ هذه الحرب كانت ضرورية لكي تتغير بنية الوعي وسط قطاع عريض من العسكريين والسياسيين وكذلك من المواطنين، لكي ترتفع درجة الحساسية والتعاطف لديهم مع من ظلَّوا يكتوون بفظائع الحرب لعقودٍ طويلة من الزمان. رغم مأساة الحرب فإنها ستكون الجسر المفصلي الذي ستعبر منه البلاد
يقول بعض المراقبين مع فظاعة هذه الحرب إلا انها اول حرب تحدت البندقية للحركة الإسلاموية في داخل مركزها الذي كانت تنطلق منه للأطراف في توزيع العنف؟
كسرت هذه الحرب شوكة العنف التي استند عليها الإسلامويون في إبقاء السلطة في أيديهم وإقصاء جميع من عداهم عنها، حتى أضحوا مثل الضيوف في بلادهم، من يستقوي على العزل باستخدام العنف سيواجه حتماً من هو أقوى وأعنف منه- وهذا ما حدث لصلف الإسلامويين وطغيانهم وتجبرهم، وأشعلوا الحرب فمرغت الحرب أنوفهم في الرغام وفضحتهم وسط السودانيين وعلى مستوى العالم.
عموماً، كل فترات السلم الراسخة التي نعمت بها الكثير من الشعوب عبر التاريخ القديم والحديث، لم تأتِ إلا بعد حربٍ طاحنة؛ لذلك أنا متفائل أن هذه الحرب، رغم هذه المأساة الضخمة التي تسببت فيها، ستكون الجسر المفصلي الذي ستعبر منه البلاد إلى حالة السلام المستدام.
هذه الحرب أوصلت العنف والوحشية إلى أقصى مدى يمكن لهما أن يبلغاه، ومن ثم فقدت فعاليتهما كأداتين لممارسة السياسة، كان لابد لنزعات العنف والوحشية الكتيمة المداراة لوقتٍ طويل بالزيف والتمظهر الكاذب، أن تنفجر لكي تتبرأ فقط، حين يستوثق الناس عبر التجربة العملية بالغة الإيلام من لا جدوى للعنف، ستقوى نزعة السلام، وستسلس الحياة وتلطف، ويبدأ الاستقرار والسلام المستدام؛ حيث تبدأ التنمية الحقيقية للأفراد وللبلاد– وهو ما سيقود إلى النماء والأزدهار المتصل الحلقات.
إلى أي مدى ساهم خطاب الكراهية على التوقيف والاعتقال الانتقائي والقتل على أساس الهوية؟
خطاب الكراهية لا يكون فعالاً إلا في البيئات التي تستجيب له. فالمشكلة ليست في خطاب الكراهية في حد ذاته، لأنه موجود في كل أقطار الأرض. فقط يصبح خطاب الكراهية مشكلة في سياق الثقافة الاجتماعية السائدة والأوضاع السياسية المتردية، كالوضع الذي نحن فيه الآن. أعني، الثقافة القابلة لكي يستقيظ فيها هذا الخطاب حين ينفخ الخبثاء والوضعاء رقيقي الدين في بوقه. يمثل خطاب الكراهية أكبر الأدوات تهديدًا للسلم الأهلي.
وبطبيعة الحال فإن الأنظمة الديكتاتورية تعتمد في بقائها على تفتيت وحدة الشعوب. وفي السودان مارس نظام الإنقاذ سياسة التفتيت هذه عبر إيقاظ النزعات الدينية المتطرفة واستخدام المال والمناصب لشق الأحزاب السياسية. يضاف إلى ذلك، عمل على إحياء الروح القبلية والعشائرية والمناطقية والطائفية بصورة غير مسبوقة.
وقد قام الإسلامويون بذلك، لضرب وحدة الشعب، وشل قدرته على التوحد لمواجهة نظامهم القمعي القائم. وفي ظروف هذه الحرب الكارثية اللعينة التي أشعلوها وأفلت زمامها من أيديهم، بفضل الله، ذهبوا إلى إيصال خطاب الكراهية إلى حدوده القصوى، آملين في اصطفاف الناس وراءهم. وقد أحدث تأجيج هذا الخطاب فظائع عديدة لا تزال تتواصل. فقد حدثت من جرائه عمليات طردٍ واعتقالٍ، بل وتصفيةٍ في مجازر جماعية لأفراد أبرياء لمجرد أنهم من دارفور أو كردفان، أو بسبب سحنهم ولون بشرتهم. وهؤلاء الضحايا لم يكونوا سوى بسطاء أتى بهم حظهم العاثر لطلب العمل في ولايات الشمال والوسط النيلي. بل بلغ خطاب الكراهية وتأثيراته درجة القتل الجماعي العشوائي بإلقاء البراميل المتفجرة من الجو على المدنيين في دارفور وسوق ليبيا ومختلف المدن والقرى، ومؤخرًا في معسكر زمزم، بزعم أنهم يمثلون حواضن لقوات الدعم السريع. كل هذه التجاوزات ينبغي أن تُرصد؛ لأن يوم الحساب عليها سيأتي لا محالة. نهاية الأمر نحتاج عقب هذه الحرب إلى نظام تعليمي يخاطب مثل هذه العلل في عقول الصغار منذ الطفولة الباكرة. كما نحتاج خطابًا إعلاميًا جديدًا فاعلاً في نبذ خطاب الكراهية، تسنده قوانين رادعة تحاكم المجرمين، بل وتحاكم من يمارسون الترويج الخطابي والكتابي له.
ما هي رؤيتك لعملية بناء وتأسيس جيش قومي ومهني ما بعد الحرب؟
هذا أمر لا مناص منه. فالجيش الذي خضع للأدلجة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي تحول إلى مجرد ميليشيا لحراسة حكم الإسلامويين الأيديولوجي الإقصائي. ثم ما لبث أن تحول من “مليشيا جهادية” لحراسة مشروع ديني أيديولوجي أحادي، إلى قوة باطشة لحراسة نظام حكم كليبتوقراطي لصوصي، غايته نهب الموارد. وأصبح من ثم أداة تعمل في خدمة طبقة اجتماعية من الإسلاميين، جعلها احتكار السلطة والثروة طبقةً بالغة الثراء.
وبهذا وقع الجيش وسائر القوى الأمنية في حفرة الزبائنية التابعة للطبقة الثرية المتجبرة الحاكمة. والآن، اتضح عمليًا، وبما لا يقبل الجدال، أن البلاد تحتاج جيشًا مهنيًا جديدًا، تمام الجدة، وتحتاج، كذلك، منظومةً أمنيةً جديدة أيضًا. النور حمد: اتضح عمليًا، وبما لا يقبل الجدال، أن البلاد تحتاج جيشًا مهنيًا جديدًا، تمام الجدة..
ويقتضي تأسيس الجيش الجديد تغييرًا في مناهج الكلية العسكرية، لتحوي بالإضافة إلى العلوم العسكرية العصرية، تغيير تصوُّر ضباط الجيش الخاطئ لأنفسهم. وهو اعتقادهم الخاطئ أن دورهم هو ممارسة الحكم، وليس حماية ثغور البلاد وحراسة الدستور الديمقراطي.
ما هو تصورك لمستقبل علاقات السودان الخارجية، خصوصًا مصر وإثيوبيا في الفترة التي ستلي الحرب؟
علاقتنا بمصر بصورتها القائمة الآن، علاقة سامَّة. والذي جعلها سامَّةً هي الأطماع المصرية التاريخية في السودان.
مصر تكره أن يكون في السودان حكم ديمقراطي وبرلمان يقرر في السياسات وصحافة حرة تراقب الأداء الحكومي. ظلت مصر على الدوام تفضل وجود ديكتاتور في سدة الحكم في السودان، لتدعمه للبقاء في السلطة والعمل من أجلها ضد تطلعات شعبه. بهذا يبقى الديكتاتور السوداني أسيرًا لمصر ينفذ لها ما تريده من السودان. ودعونا نستذكر سلوك مصر منذ أن قامت ثورة ديسمبر 2018 ومحاولاتها المتكررة لشق الثوار وإجهاض الثورة وإغراق صفوفها بفلول النظام القديم، من أجل إبقاء العسكر في سدة الحكم.
من الجانب الآخر، فإن لإثيوبيا، هي الأخرى، مطامع في السودان. فعينها على السودان أكثر من عينها على جاراتها الأخريات، خاصة فيما يتعلق بالناحية الاقتصادية، بسبب الإمكانات الهائلة التي لدى السودان. لكن تصحيح العلاقة مع إثيوبيا أسهل، وبما لا يُقاس، من تصحيح العلاقة مع مصر. هاتان الدولتان الجارتان تعانيان انفجاراً سكانياً ضخماً. فكلتاهما تعدى تعداد السكان فيهما المئة مليون نسمة. والسودان بمائه وأراضيه الواسعة وقلة سكانه، مقارنة بمساحته، موضع نظر هاتين الدولتين.
ما ينبغي هو أن تقوم العلاقة مع هذين القطرين الجارين على أساس المصالح المتبادلة، وفق أسس شفافة وعادلة، خادمة لغرض الطرفين. لكن، هذا في نظري، أقرب إلى التحقق مع إثيوبيا منه مع مصر. فمصر سبق أن استعمرتنا، ولا تزال تنظر إلينا كمستعمَرة سابقة وكجزء لا يتجزأ منها جرى اقتطاعه منها.
هذا الوضع اصطحب معه نظرةً دونيةً للسودان وللسودانيين، وحصرًا للعلاقة معنا في الإطار الأمني وحده. وهو ما جعل ملف السودان في مصر ملفًا أمنيًا تابعًا لجهاز الاستخبارات، وليس لوزارة الخارجية. يزور بلادنا مدير الاستخبارات المصرية عشرات المرات، ولا يزورها وزير الخارجية إلا نادرا. وهذا وضع رسخه، وإطالة انبطاح العسكريين والسياسيين السودانيين لمصر لأسبابٍ متنوعة، لا يسمح المجال بالخوض في تفاصيلها.
إذا لم يُجبر السودانيون مصر على تصحيح نظرتها إلى السودان ليجري وضع علاقتنا معها في إطار تبادل المصالح المشتركة بندية، فلن يستقر السودان على الإطلاق، ولن يتحقق فيه أي نمو اقتصادي. فمصر تريد السودان مجرد مخزنٍ للمواد الخام رخيصة الثمن، لتضع عليها هي القيمة المضافة لخدمة اقتصادها. ولا يعنيها في هذا إطلاقًا إن جاع شعب السودان، أو تعطلت لديه التنمية الاقتصادية. بل، إن تخلف السودان الصناعي وحكمه بواسطة عملائها من السودانيين إنما يعينها وفقا لنظرتها القاصرة على استنزاف موارده. فهي تمارس نفس النسق الذي فعله المستعمرون الأوربيون في المستعمرات في القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين. وعلينا أن نتذكر أن وقوف مصر إلى جانب البرهان منذ صعوده إلى مجلس السيادة، واشتراكها بفعالية معه لإرباك الثورة وتصفيتها، قد آتى أكله لصالح مصر. فتحكُّم البرهان وشلته في سلطة القرار وقيامه بالانقلاب على رئيس وزراء الفترة الانتقالية عبد الله حمدوك من مصر من نهب موارد السودان بصورةٍ لم تتح لها بتلك الضخامة، في كل تاريخها الطويل، منذ عهود الفراعنة.