
جدل التنوير؛ شذرات فلسفية – لـ ماكس هوركهايمر، ثيودور ف. أدورنو
“يعتبر كتاب جدل التنوير من أوائل الكتب التي تصدرت مكتبة مدرسة فرنكفورت. فهو يعود إلى حقبة الأربعينات من القرن الماضي وقد كتب بالتشارك بين ماكس هوركهايمر وتيودور ف. أدورنو. إلا أن فكرة الكتاب وهمومه لا تجعلنا نقف عند الهم النظري الذي قد يوحي به العنوان. أي المعالجة النظرية لمعنى التنوير كما أنتج ذلك كانط في مقالة معروفة له حول الموضوع. ولا معالجة سياسية بالمعنى الصرف للكلمة، حيث يجيء الكتاب في مرحلة سياسية صعبة من تاريخ مدرسة فرنكفورت، ومن تاريخ الملاحقات التي تعرض لها أصحاب هذه المدرسة في تلك الفترة. ما حمل معظم الأعضاء فيه على ترك فرنكفورت ومحاولة التأسيس مجدداً في الخارج، من فيينا إلى الولايات المتحدة. الأمر الذي نجد انعكاساً له في هذا الكتاب، خاصة في الفصل الذي يتعلق بمناهـ. ضة الســ. ـا. مية. نذكر بالطبع الأصل اليهـ. و . دي الذي يعود إليه هذان المؤلفان إلى جانب زملاء آخرين لهما في مدرسة فرنكفورت.
يشكل الفصل الأول من الكتاب إجابة على معنى التنوير، فيشدد على فكرة التقدم التي ارتبطت بالتنوير، وفكرة التخلص من الخوف، وفكرة التحرر، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى المأزق الذي وقعت فيه هذه الأفكار، لا سيما الوقوع في أسطرة التنوير وتالياً العقل. هذا العقل الذي بلغ حدوداً قصوى صار من الضروري استعادته ليكون أكثر إنسانية وأقل آلية وأقل تمجداً، وأقل وقوعاً في الشمولية التي بلغت أوجها في الفترة التي كتب فيها هذا الكتاب أو قبلها بقليل. أي بعد ما حل بألمانيا في تلك الفترة. والواقع أن المؤلفين لا يستعيدان هذه الفترة من جانب تاريخي محض، بقدر ما يستعيدانها بما أوحت إليه الآلة الفكرية من مأزق بات يسترعي إيجاد حل له. من هنا كان هذا النقد للتنوير، بل كانت كل الفلسفة النقدية التي سادت ما يعرف بمدرسة فرنكفورت، حيث الإجماع والسياسة لا يفترقان عن الفلسفة وعن مقولات العقل المنطقية والأنطولوجية.
وبالتمازج مع أسطورة العقل، يستعيد المؤلفان الأسطورة الإغريقية، ولكن بارتباطها بالتأويل وعلاقتها بالممارسات الفكرية والاجتماعية، وعلاقتها بالجسد وبالعقل، أي أنهما يقدمان عقلنة جديدة لها، أو تنويراً استعادياً لها. وإذا كان الاهتمام منصباً على اليومي والمعيش في تلك الفترة، فإن العودة إلى الوراء تعتبر تمهيداً أيضاً لفهم أشكال الاضـ. طـ. ـهاد الذي تعرضت له بعض الفئات في إطار الحملة المنظمة التي سادت تحت ظل النظام السياسي في تلك المرحلة. وبالتالي، فإن الفصل المخصص لذلك يكتسب قيمة راهنية، إلى جانب القيمة الفلسفية والعقلانية التي يتسم بها. وهذا يشير إلى مسؤولية الكاتب في وجوب استعادة هذه الأحداث والتكلم فيها كونه مسؤولاً، أي ملتزماً. ونحن نعلم أن مدرسة فرنكفورت قد أولت هذا الالتزام حداً أقصى. صحيح أنها تبنت في الإجمال خطاً ماركسياً، أقله من حيث المنهج، إلا أن ذلك كان بالارتباط بعلم الاجتماع وبالفلسفة، ما أضاف إلى هذه المدرسة أبعاداً لم تكن مألوفة، وما فرضها مدرسة فكرية قائمة بذاتها ومتواصلة رغم ما أصابها من شتات لفترة زمنية معروفة.
تحفل الدراسة أيضاً بفصل طويل حول صناعة الثقافة، وما أصاب الثقافة (الألمانية بشكل خاص) من تحوير ومن مصادرة. على يد الصناعة أياً كان شكلها أول الأمر، وعلى يد الصناعة الإعلامية تالياً. ولا ننسى أن الكتاب قد صدر في مرحلة صعود معينة لأجهزة الإعلام، الراديو بشكل خاص، والسينما، ومن ثم التلفزيون.
“وقد حلل المؤلفان هذا الصعود بشكل واف وأشارا إلى الخلل الذي يصيب الثقافة حتى تصبح هذه خاضعة وسيلة إعلامية، وخاصة حين تكون هذه الوسيلة الإعلامية خاضعة للسلطة الوحيدة الراعية لها. وهذا ما أحسن النظام الحاكم في ألمانيا آنذاك استغلاله في تلك الفترة، خاصة بالنسبة للإذاعة، أو للراديو. هذا الجهاز الصاعد آنذاك المنسي في أيامنا، لولا المحطات القصيرة وكثرة الأغاني وأسباب اللهو الأخرى.
أما زمن هوكهايمر وأدورنو، فقد كان هذا الجهاز من أهم أجهزة الدعاية المعروفة. وقد أحسن الإعلام في ظل النظام الحاكم آنذاك استغلاله وقيادة شعب بكامله من خلال توجيهات الزعيم واللفيف من الإعلاميين الذين التفوا حوله وصاروا أعلاماً بل رموزاً لا يمكن تجنبها. ما يقال على هذه الوسيلة يقال مثله على السينما التي أوجدت النجم، والتي ما زالت إلى أيامنا تصنع نجوماً. وفي هذا الصدد نجد تحليلاً نفسياً ذهنياً رائعاً يصلح لفترة أربعينات القرن الماضي، كما يصلح لأيامنا. من هنا يظل الكتاب صالحاً وراهناً، ومن هنا كانت ترجمته إلى اللغة العربية.