بحوث ودراسات

المدينة في جنوب السودان النشأة.. الملامح وسمات التطور(5-6)

أ. أتيم سايمون

 *سمات وملامح المدينة في جنوب السودان:

يبدو واضحا من خلال تتبع التطور التاريخي لنشأة المدينة في جنوب السودان، تشابه الظروف التي أنتجت الواقع الحضري في مختلف المناطق التي تطرقت اليها الدراسة، فقد ارتبط قيامها في جميع تلك المراحل بالعامل الإستعماري المتمثل في تحقيق أهدافه المختلفة سواء كانت سياسية أو اقتصادية، لذلك نجد الطابع المعماري المتشابه في غالب المدن الثلاثة “جوبا، واو وملكال”، والتي إستقر بها المقام كعواصم إقليمية لكل من الاستوائية وأعالي النيل و بحر الغزال، بعد أن تنقلت في عدد من المراكز خلال فترات الحكم التركي والإدارة الأنجلو مصرية في بدايات القرن التاسع عشر، مثلها مثل بقية المدن الأفريقية التي ظهرت خلال تلك الحقبة، فقد كانت مدن المستعمرات تمثل مراكز إدارية وسياسية أكثر من كونها مراكز صناعية، لذا قامت تلك المدن كمراكز خاصة بالمستعمرين و التجار الأجانب من الأرستقراطيين.

حيث تم تقسيمها إلى مناطق الحكومة ومنطقة سكن الأهالي، وقد كانت أنماط التفاعل بين الأهالي والنطاق الحيوي للمدينة محدودة ومحصورة في نطاق العمل والخدمات المطلوب منهم تقديمها، مثل مساهمتهم في بناء المدينة كعمالة في أغلب الأحوال، حيث نشأت النواة الأولى لمناطق سكن الأهالي من هؤلاء المواطنين الذين تم استجلابهم من القرى المجاورة للمشاركة في اعمال التشييد، هذا وقد عكست المدن الرئيسية الثلاث في جنوب السودان البيئة الاستعمارية في مبانيها التجارية، والمنازل المخصصة لسكن الأسرة الواحد (USAID,2007:5)، فبعد الإستقلال أصبحت المدينة لاتضم بداخلها فقط نمطين متمايزين إقتصادياً وطبقياً وثقافياً للأحيHء أحدهما تقليدي وطني والآخر حديث له طابعه الأوربي، وأنّ ثمّة إنفصالًا بين هذين النمطين كما كان الوضع خلال المرحلة الإستعمارية.(ناصف، 2009م:199)

خلال حقبة ما بعد الإستقلال عكس تطور المدينة في جنوب السودان التغيرات التي أحدثها إنتقال السلطة السياسية من الإنجليز إلى الحكومات الوطنية التي استولت عليها الأحزاب السياسية الشمالية، نتيجة لضعف الحراك السياسي في جنوب السودان بسبب حالة العزلة التي فرضتها السياسة البريطانية حتى العام 1946م، فتحولت تلك المدن التي نشأت بشكل مستقل إلى مراكز للإدارة السياسية الجديدة ومركزا لاستقرار النخبة الشمالية، وبعض القيادات السياسية التي ظهرت في أعقاب قيام مؤتمر جوبا في المدن الإقليمية الثلاثة، التي  أصبحت تعبر في دلالاتها المورفولوجية عن الثقل الإجتماعي للمجموعات السكانية المقيمة في تلك المناطق، ومع تطور الأوضاع السياسية واندلاع الحرب الاهلية بعد تمرد توريت 1955م.

تحولت غالب المدن الجنوبية الثلاثة إلى معسكرات للجيش الذي كان يسعي لفرض سيطرته على الأوضاع في جنوب السودان، وتشكل البناء السكاني للمدينة في حقبة الحرب الأهلية على ضوء الهجرات الريفية التي قام بها المواطنين الذين كانوا يبحثون عن الأمان داخلها، في وقت فر فيه معظم السكان الحضريين إلى المدن الكبيرة في مناطق شمال السودان او في مناطق اللجوء في معسكرات دول شرق افريقيا، وبهذا تراجعت المدينة عن أداء وظائفها الأخرى بعد أن تحولت لمراكز سياسية وإدارية تحت سيطرة الجيش.

وقد أحدثت فترة توقيع إتفاق أديس أبابا للسلام التي استمرت زهاء العشرة أعوام(1972م-1983م) نوعا من الإستقرار النسبي الذي شهد تطورا في البنيات التحتية للمدن الإقليمية الثلاثة وبالأخص مدينة جوبا التي صارت عاصمة إقليمية لجنوب السودان حيث شهدت قيام بعض المؤسسات الحكومية الجديدة كمباني الوزارات ومجلس الشعب الإقليمي وتأسيس جامعة إقليمية وبنآء مقرات سكن الموظفين الحكوميين و قيام مشروعات تنموية قدمتها بعض الدول في اطار سياسة إعمار ما دمرته الحرب، فظهرت إمتدادات سكنية جديدة مثل حي الكويت، وتأسيس مستشفى الصباح، بالإضافة إلى بناء وحدات سكنية للمعلمين وبعض المدارس الجديدة، إلّا أنّ جل الإهتمام إنصرف لعملية إعادة اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم الأصلية.

وتوسعت مدينة جوبا بفعل الهجرات الجديدة التي شهدتها لأغراض ترتبط بالعوامل الإقتصادية مثل التوظيف إلى جانب توفر بعض الخدمات الرئيسية فيها، وقد كان ذلك خصما على بقية المدن الأخرى في جنوب السودان، والتي لم تشهد أي تنمية مثيلة حلال تلك الحقبة، وقد تجلى ذلك عندما اضطر العديد من مواطنيها للعودة إليها بعد انتهاج الحكومة لسياسة إعادة تقسيم الإقليم الجنوبي حيث وجدوها بلا خدمات او منشآت تستطيع تلبية إحتياجاتهم الحياتية العادية، لذلك سرعان ما قرروا البحث عن مراكز إستقرار جديدة في المدن الأخرى في مدن شمال السودان مثل الخرطوم وكوستي ومدني وغيرها.

ومع اندلاع الحرب الأهلية الثانية في 1983م، عادت مدينة جوبا وبقية العواصم الإقليمية الأخرى في واو وملكال لتصبح ثكنات عسكرية تحت سيطرة القوات الحكومية، فأثناء فترة الحرب توسعت مدينة جوبا بسبب معدلات النزوح الكبيرة، كما أجبرت أعمال العنف الكثير من الأسر للفرار إلى الخرطوم إلى جانب هروب الكثيرين من النطاق الخارجي إلى داخل المدينة بحثا عن الحماية، وقد حدث ذات الشيء في كلا من واو وملكال  باعتبار أنها كانت تمثل المناطق الوحيدة الآمنة في تلك الإقليم، وأصبحت المدن الثلاث مقرا للعديد من الإثنيات التي أقامت معسكرات خاصة  بها بشكل مؤقت على أمل العودة إلى مناطقهم الأصلية متى ما تحسنت الأوضاع، وقد كان العديد من المهاجرين إلى تلك المدن يتعاملون معها كمحطات عبور لمناطقهم ولكن لظروف متعلقة بالحرب والاستقرار طاب لها المقام في تلك المدن واتخذتها مقرا لها وخلال تلم الفترة أصبحت تلك المدن مقرا للصفوة من القيادة السياسية ولكن بطابع اثني.

خلال فترة الحرب الأهلية الثانية والتي امتدت لما يقارب العقدين من الزمان نال الإرهاق كثيرا من المدن في جنوب السودان، التي إستطاعت أن تخلد ذكرياتها من خلال تسمية الأحياء والمناطق السكنية فظهرت اسماء عديدة وثقت لتلك الحقب والممارسات في عدد منها وتحديدا بالعاصمة جوبا، وتعتبر تلك الاسماء سجلًا يحكي التطور والظروف التي عاشتها كل منطقة بشكل مختلف عن الأخرى على الرغم من مطالبة البعض بتغيير تلك الاسماء.

بعد توقيع إتفاق السلام الشامل عاد الكثير من المواطنين الذين كانوا قد فروا من تلك المدن بسبب الحرب إلى مناطقهم، إلّا أنّ الغالبية العظمى منهم عادت إلى جوبا العاصمة الإقليمية لجنوب السودان، وتعددت الأسباب التي قادتهم لاختيارهم جوبا تمثلت في العامل الإقتصادي المتعلق بالعمل والوظيفة، إلّا أنّ وجود الأقارب في جوبا كان واحداً من العوامل المحفزة لحضور غالبية الناس إلى جوبا (Mosel, 2011:4).

ونجد أنّ غالبية المناطق السكنية في مدينة جوبا وبقية المدن الجنوبية الأخرى من العواصم الإقليمية تقطنها حاليا معظم المجموعات السكانية المنحدرين من ذات الإقليم، منهم السكان الأصليين و العHئدين إلى جانب بقية المجموعات المهاجرة، بالإضافة لمعسكرات النازحين القديمة التي اندمجت مجتمعاتها مع سكان المدينة.

من المظاهر والسمات التي شهدتها المدن الثلاثة الكبرى أيضا هي ظاهرة التمدد الحضري التي افضت إلى إحتوائها للمناطق الريفية المحيطة بها، حيث اتسعت مدينة جوبا لتحتوي مناطق الرجاف وشمال الباريا، وتمددت غربا باتجاه مونيكي، قوديلي، قوري ومنطقة شمال الباريا، كما توسعت جنوبا ناحية الرجاف وضمت إليها مناطق “توكيمان”، وذلك نتيجة لعوامل الهجرة الريفية في المساكن العشوائية، من بينها على سبيل المثال مناطق قومبو ولولوغو التي تحولت من قرى صغيرة إلى مراكز وامتدادات حضرية مأهولة، وبهذا حملت تلك المدن سماتها الحضرية الخاصة، لكنها جمعت الخصائص المشتركة لسكان الأقاليم التي وجدت في محيطها، فاصبحت جوبا عاصمة إقليم الإستوائية ومركزها الرئيسي وكذلك الحال بالنسبة لمدينتي واو وملكال، لذلك يمكن ان نطلق على كل من تلك الأقاليم صفة إقليم المدينة، والذي تصفه الدراسات العلمية بأنّه يقوم على أساس الترابط و التفاعل بين المدينة محل الدراسة وما حولها من رقعة جغرافية، وحين يكون ذلك الترابط قويا والتفاعل واضحاً تتحدد ملامح الإقليم المعني.

هذا وتؤكد المؤشرات الواقعية إرتفاع نسبة السكان في مدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان بعد الإستقلال، واتساع الفجوة بينها وبين بقية العواصم والمدن الأخرى، الشيئ الذي جعلها تتخذ صفة المدينة الواحدة الكبيرة، أو المدينة الدولة بعد أن أصبحت مركزاً لحركة المواصلات، الإقتصاد، التعليم، السياسة والمنظمات الدولية((Shuchiro:2013:142. خاصة بعد الآثار التدميرية التي أحدثتها الحرب الاهلية التي شهدتها البلاد في الأعوام 2013م و 2016م، والتي حولت مدينتي واو وملكال إلى مدن مهجورة ومعسكرات كبيرة لحماية المدنيين ، وبعد أن تفرقت أعداد كبيرة من مواطنيها ما بين معسكرات النزوح واللجوء في مدن الجوار بشكل ملحوظ، كما تعرضت ملامحها التاريخية والحضرية للتخريب والدمار وشهدت أدوارها تراجعا حقيقيا نتيجة لذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى