أدب وفلسفة

المادية التاريخية والقيامة الدنيوية: دراسة في التصوُّر الماركسي للزمن التاريخي(2-2)

أ. الطيب علي حسن

القسم الثاني: الماديَّة التاريخيَّة والقيامة الدنيويَّة:

ناقش سالم يفوت مقولتي الزمان المقدَّس والمدنَّس من خلال مراجعته لفكرة الزمان في التراث المسيحي وهو يرى أنَّ الزمان المقدَّس في التراث المسيحي هو” الزمان الحقيقي، أنه زمان متسلسل ومتعاقب، خطِّي الاتِّجاه ومتَّصل الأحداث، فاعله هو الله، وممثّله هو الكنيسة بوصفها مؤسَّسة بادية للعيان، واقعيَّة، رغم أنها من طينة تعلو على الطبيعة من حيث أنه لا يطالها الأثر المدمِّر والمخرِّب للزمان المدنس ولا يجوز عليها تأثيره”[7]وهذا التاريخ المقدَّس له بداية محدَّدة ونهاية محدَّدة، أما بدايته فهي لحظة خلق الله للعالم وأما نهايته فهي يوم المعاد الذي ظل يحكم تصوّر رجال الدين للتاريخ طوال فترة العصر الوسيط، خاصَّة فيما يتعلق بإحساسهم بقرب يوم المعاد هذا.

ويقرِّر سالم يفوت أن” ما ينبغي استخلاصه من هذا الاعتقاد بقرب يوم المعاد، إنّ الزمان في تصور رجال الدين في العصر الوسيط، تاريخ ذو معنى تحكمه معقوليَّة وغائيَّة، إنها معقوليَّة خطيَّة يحكمها منطق السقوط والانحدار، فالعالم يسير في اتِّجاه انهياره وانحطاطه”[8] هذا فيما يتعلَّق بالتاريخ المقدَّس أما التاريخ المدنس فهو تصوّر قائم على أن” الزمان التاريخي زمان متّصل اتِّصال حلقات الحضارة واتِّصال تقدّمها المتواصل من البسيط إلى المعقد، ومن الأقل نضجا إلى الأكثر نضجا، إنه زمان ذو بداية، وبدايته هم الأقوام البدائيون الذين تشهد حالهم على ما كانت عليه البشريَّة في نشأتها، كما أن له غاية، وغايته هي ما يحصل من تحوّلات في مركز الحضارة الساخن”[9] على هذا فإن الزمان التاريخي المدنس يطرح رؤية خطيَّة أيضا للزمان، لكنهاتصاعديَّة وليست انحداريَّة كما هي في الزمان التاريخي المدنس.

والآن لنتساءل عن، إلى أي من التصورين للزمان تنتمي الماديَّة التاريخيَّة؟ ما يمكن قوله هنا أن الماديَّة التاريخيَّة تتقاطع مع نقاط مهمة في كلا التصورين، فهي وإن كانت في عموميتها تنتمي إلى التصور المدنس للزمان بحكم أنها لا تجعل لحظة بداية الزمان التاريخي، هي لحظة الخلق وانما لحظة ظهور الاقوام البدائيَّة، وكما أنها لا تعجل إرادة الله هي المسيرة للتاريخ ولا تؤمن بالرؤية الانحداريَّة للتاريخ وإنما الارتقائيَّة. إلا أنها تقول بشيء مشابه للإرادة الإلهيَّة في التاريخ المقدس، فقولها بالحتميَّة التاريخيَّة يقلل من دور الإنسان في صناعة تاريخه وتغدو قوانين الاجتماع هي الفاعلة الأساسيَّة للتاريخ. وهنا يحقّ لنا التساؤل، أليس هذا استبدال لمقولة فاعليَّة الله للتاريخ في الرؤى الدينيَّة بمقولة ميتافيزيقيَّة أخرى هي مقولة الحتميَّة التاريخيَّة؟ كما أن الماديَّة التاريخيَّة تقول بأن الزمان خطي متصاعد، إلا أنها تحدِّد له نقطة معيَّنة سيصلها وهي الطور الشيوعي الذي أسميته بالقيامة الدنيويَّة، وهذا ما يجعلها تتقاطع مع التصوّر المقدَّس للزمان التاريخي ويضعها في تعارض مع الزمان المدنّس في نقطة مهمَّة، وهي أن الزمان التاريخي المدنس لا يحدِّد نقطة نهاية للتطور التصاعدي، لأن الغاية النهائيَّة للتاريخ وفقا له، هي التطوّر ذاته والذي يعني الارتقاء من طور أقل نضجا إلى طور أكثر نضجا وهكذا دواليك. وهنا نجد أن الماديَّة التاريخيَّة تشترك مع التواريخ المقدَّسة في كون التاريخ يتَّجه إلى نقطة محدَّدة هي القيامة الأخرويَّة في التواريخ المقدسة والقيامة الدنيويَّة في التصوُّر المادِّي للتاريخ.

هنالك شبه كبير بين القيامة الدنيويَّة التي تطرحها الماديَّة التاريخيَّة والقيامة الأخرويَّة التي تطرحها روئ التاريخ المقدَّس بمختلف أشكالها. وإذا ما فحصنا التصوّر الماركسي للمجتمع الشيوعي فسنجد أن السمة الأساسية للقيامة الأخرويَّة متوفّرة فيه، ألا وهي انتفاء الصراع الاجتماعي، ممّا دعا الكثيرين إلى وصفها باليوتوبيا. فها هو كارل بوبر يقول متحدِّثًا عن نبوءة ماركس بالمجتمع الشيوعي” وقد تنبَّأ للمجتمع بتطوّر ينتهي به إلى مجتمع يوتوبي مثالي لا مكان فيه للقهر السياسي أو الاقتصادي، وقد عمل على تحقيق هذا النظام اليوتوبي الذي تنزوي فيه الدولة ويتعاون فيه الأفراد على أساس من الحريَّة، فيقوم كل منهم بالعمل الملائم لقدراته”[10] أعتقد أن يوتوبيا الماركسيَّة حول المجتمع الشيوعي تجد جذورها في التصوّر المسيحي للفردوس. وأزعم هنا أن الماركسيَّة لم تتحرَّر بالكامل من التصور الديني الأسطوري للتاريخ. وهذا يتَّضح في النص التالي” في الطور الأعلى من المجتمع الشيوعي، بعد أن يزول خضوع الأفراد المذل لتقسيم العمل ويزول معه التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي، وحين يصبح العمل لا وسيلة للعيش وحسب، بل الحاجة الأولى للحياة أيضا، وحين تتنامى القوى المنتجة مع تطور الأفراد في جميع النواحي، وحين تتدفَّق جميع ينابيع الثروة الجماعيَّة بفيض وغزارة، حينئذ فقط بالإمكان تجاوز الأفق الضيق للحقّ البرجوازي تجاوزا تاما”[11] إنّ هذه اللغة الإنجيليَّة تجعل هذا التصور يشبه كثيرا التصور المسيحي لآخر مراحل الحياة التي سينزل فيها المسيح للأرض ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا والتمهيد لعالم أخروي قائم على المساواة بين الناس. لأن تجاوز الأفق البرجوازي للحق يعني قيام المساواة التامة بين الناس.

فالأفق البرجوازي للحق قائم على مبدأ الملكيَّة الخاصة التي تنتج جميع أشكال التفاوت الطبقي التي تنتفي في المجتمع الشيوعي. وهنالك شبه آخر بين الفردوس الأخروي والفردوس الأرضي الذي تطرحه الماديَّة التاريخيَّة، وهو أن الإنسان يصبح كائنا خيرا، حيث نجد أن لينين يقول في ذلك” أما فيما يخص نبوءة الاشتراكيين العظام بحلولها فهي تفترض إنتاجيَّة عمل غير إنتاجيَّة العمل الحاليَّة، إنسانا غير الإنسان الحالي التافه الذي يستطيع كالأخوة المترهبين الذين وصفهم الكاتب بوميالوفيسي أن يبدّد لوجه الشيطان الثروات العامَّة ويطلب المستحيل”[12]. إن هذا القول بخيريَّة الإنسان بشكل تام، ارتبط تاريخيا، بمفهوم الجنة أو الفردوس. وحتى في الديانات التي لا تقول بالفردوس تجعل من التطهّر من الشر، ووصول النفس إلى كمال الخير شرطًا لنجاة الروح ولعل هذا هو الجذر الديني لتصوّر الماديَّة التاريخيَّة لخيريَّة الإنسان المثاليَّة هذه، وتجدر الإشارة إلى أن الماديَّة التاريخيَّة بحكم نفيها للميتافيزيقا التي لم تنجح تماما في التخلّص منها، طرحت هذا التصوّر الدنيوي لمجتمع يوتوبي مثالي كما أسماه كارل بوبر.

والآن لنتساءل ما مدى الفاعليَّة التي تعطيها الماديَّة التاريخيَّة للإنسان في صناعة تاريخه؟ إن الماديَّة التاريخيَّة تنتمي نظريا إلى نظريات التاريخ المدنس حسب مفهوم سالم يفوت، إلا أنها ظلت تحتفظ ببعض عناصر التاريخ المقدس كما ذكرت سابقا. إنَّ التاريخ المقدَّس كما نعلم هو تاريخ ينطلق من لحظة تأسيسيَّة للعالم وللكائنات البشريَّة، وهي لحظة الخلق أي خلق الله للعالم والإنسان وعند هذه النقطة يبدأ التاريخ ما ذكرت سابقا. وهذه البداية ليست بداية التاريخ الإنساني وإنما بداية تاريخ فاعليَّة الإرادة الإلهيَّة في العالم والتي تسير الزمان في شكل خطي حسب مشيئتها لينتهي في لحظة اكتمال مخطَّط الإرادة الإلهيَّة.

أي فيما يعرف بيوم القيامة وتتقاطع الماديَّة التاريخيَّة مع بعض عناصر هذا التصور كما ذكرت سابقا، والشيء الذي يميِّز التاريخ المقدَّس هو انتفاء فاعليَّة الإنسان بحيث تغدو كل أفعاله افعالا للرب أو تحقيقا لمشيئته، وبهذا المعنى فإن الإنسان لا يصنع التاريخ وإنما يحقق مخطط الإرادة الإلهيَّة الذي وضع حتى قبل خلقه. أمَّا التاريخ المدنّس فإذا كان خطيا أو دائريا فهو يعطي فاعليَّة للإنسان في صناعة التاريخ حتى وإن قلَّت هذه الفاعليَّة أو كثرت. وفي الغالب يبدأ التاريخ حتى بالنسبة للتاريخ المدنس في لحظة معينة، هذه اللحظة ليست هي لحظة الخلق وإنما لحظة نشوء المجتمعات الإنسانيَّة كما ذكرت سابقا، والتاريخ كذلك لا تسيره الإرادة الإلهيَّة وإنما أفعال الإنسان. وهو أي التاريخ في الغالب لا ينتهي بقيامة أو لا ينتهي أصلا وهو في صيرورة أبديَّة كما في نظريَّة العود الأبدي، وبالعودة إلا الماديَّة التاريخيَّة نجد أنها احتفظت ببعض المفاهيم ذات الصلة بالتاريخ المقدَّس وخاصَّة مفهوم القيامة كما ذكرت، ولكن في صورة مدنسة أي صور أرضيَّة، فالتاريخ بالنسبة للماركسيَّة ينتهي بتحقُّق الشيوعيَّة التي يمكن اعتبارها فردوسا أرضيا مشابها للفردوس الديني. وكذلك فإنَّ الماديَّة التاريخيَّة رغم أنها تنفي الإرادة الإلهيَّة إلا أنها تقول بالحتميَّة التاريخيَّة وتفترض أن الاحداث التاريخيَّة تقع بالضرورة ولكنها مع ذلك جعلت هامشا لفعاليَّة الانسان في صناعة التاريخ. ويمكن القول هنا إن الإرادة الإلهيَّة استبدلت بالحتميَّة التاريخيَّة.

إن الماديَّة التاريخيَّة بتشديدها على أن هنالك قوانين اجتماعيَّة منفصلة عن الإنسان تحكمه كما تحكم القوانين الكونيَّة الطبيعة، وأنها قوانين حتميَّة لا يمكن الفكاك منها جعلت بذلك الإنسان فاعلا هامشيا للتاريخ، رغم ادّعاءها أن الفاعليَّة الأولى هي للإنسان في صناعة التاريخ، وفلا يمكن أن يكون الإنسان ذا فاعليَّة كبيرة في تصور يقول بالحتميَّة التاريخيَّة في تطوّر المجتمعات.

قائمة المراجع:

1-بليخانوف. فلسفة التاريخ: المفهوم المادي للتاريخ. ترجمة إلياس مرقص. دمشق، دار دمشق، 1957

2-سالم يفوت، الزمان التاريخي: من التاريخ الكلي إلى التواريخ الفعليَّة. بيروت، دار الطليعة، 1991

3-كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي: دراسة في مناهج العلوم الاجتماعيَّة. ترجمة عبد الحميد صبرة. الإسكندريَّة، منشأة المعارف،1959.

4-كيلله كوفالسون. الماديَّة التاريخيَّة. دراسة في نظريَّة المجتمع الماركسيَّة. ترجمة الياس شاهين. موسكو ، دار التقدم، 1976.

5-لينين. الدولة والثورة: تعاليم الماركسيَّة حول الدولة. ترجمة سلامة كيلة. بيروت، روافد للنشر والتوزيع، 2014

6-لينين. ماركس-انجلز-الماركسيَّة. ترجمة الياس شاهين. موسكو، دار التقدم. 1974

7- ماركس وأنجلز. مختارات. موسكو، دار التقدم، المجلد، ج2. 1975

[1] لينين. ماركس-انجلز-الماركسيَّة. ترجمة الياس شاهين. (موسكو، دار التقدم. 1974) ص21

[2] كيلله كوفالسون. الماديَّة التاريخيَّة. دراسة في نظريَّة المجتمع الماركسيَّة. ترجمة الياس شاهين. (موسكو، دار التقدم، 1976) ص 70

[3][3] بليخانوف. فلسفة التاريخ: المفهوم المادي للتاريخ. ترجمة الياس مرقص (دمشق، دار دمشق، 1957) ص46

[4] نفس المصدر. ص51

[5] ماركس أنجلز. مختارات. (موسكو، دار التقدم، ج2، 1975) ص7

[6] نفس المصدر. ص8

[7] سالم يفوت، الزمان التاريخي: من التاريخ الكلي إلى التواريخ الفعليَّة (بيروت، دار الطليعة، 1991)، ص11

[8] نفس المصدر. ص 11

[9] نفس المصدر السابق. ص17

[10] كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي: دراسة في مناهج العلوم الاجتماعيَّة. ترجمة عبد الحميد صبرة (الإسكندريَّة، منشأة المعارف،1959) ص96

[11] لينين. الدولة والثورة: تعاليم الماركسيَّة حول الدولة. ترجمة سلامة كيلة (بيروت، روافد للنشر والتوزيع، 2014) ص161

[12] نفس المصدر السابق، ص 164

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى