
المادية التاريخية والقيامة الدنيوية: دراسة في التصوُّر الماركسي للزمن التاريخي(1-2)
أ. الطيب علي حسن
مقدِّمة:
إنَّ الماديَّة التاريخيَّة أو التفسير المادي للتاريخ هي المكوّن الثاني من مكوّنات الفلسفة الماركسيَّة حسب التقسيم الكلاسيكي في أدبيات الماركسيَّة نفسها، ويمكن تعريفها بأنها تطبيق الماديَّة الجدليَّة التي تمثِّل الجانب الأول للماركسيَّة على الحياة الاجتماعيَّة، وهذا التطبيق يفرض تصوّرا معيّنا للتاريخ يختلف جذريًّا عن المعنى الذي كان سائدًا قبله وعن التصوّرات الأخرى التي تبلورت في السياق الحداثي نفسه.
وهذا ما لحظه لينين أحد كبار منظِّري الماركسيَّة حيث قال ” لقد كان علم الاجتماع وعلم التاريخ قبل ماركس يكدِّسان في أحسن الحالات وقائع خام مجموعة كيفما اتّفق، ويعرضان بعض الجوانب من حركة تطور التاريخ. لقد شقَّت الماركسيَّة الطريق أمام دراسة واسعة شاملة لعمليَّة نشوء تشكيلات المجتمع الاقتصاديَّة وتطوّرها وانهيارها وذلك بتحليلها مجموعة الميول المتناقضة وردّها الى ظروف المعيشة والإنتاج واضحة المعالم لمختلف طبقات المجتمع وبإبعادها اختيار الافكار “القائدة” أو تأويلها على نحو ذاتي واعتباطي، وبكشفها عن جذور جميع الأفكار وجميع الميول المتباينة في أوضاع القوى المنتجة الماديَّة دون استثناء”[1] ويتجلَّى هذا التصوّر الجديد للتاريخ ليس فقط في استبدال التحقيب التاريخي القديم؛ أي ذلك التحقيب الذي يتضمَّن تقسيمات تستند إلى الشخصيات المركزيَّة في صناعة الأحداث التاريخيَّة أو الأبطال كما يطلق عليهم في الأدبيَّات التاريخيَّة.
وكذلك التحقيب القائم على الأسر الحاكمة والممالك؛ بتحقيب تاريخي جديد يستند إلى أنماط وأشكال الإنتاج، وإنما حتى على مستوى تحديد أهم العوامل التي تدفع التاريخ بالتطوّر إلى الأمام، وبذلك لم يعد التاريخ تاريخا سياسيا فقط كما كان سائدا في السابق، وإنما غدا تاريخا اجتماعيا يعنى بدراسة شكل أنماط وعلاقات الإنتاج وأدواته داخل الجماعات المنتجة، وهذا ما يعرف بالبنية التحتيَّة في الماديَّة التاريخيَّة، وللبنية التحتيَّة هذه إفرازات تتجلَّى في البناء الفكري الذي يتلاءم معها وهو ما يعرف بالبنية الفوقيَّة، التي تتلخَّص في أشكال وأنظمة الحكم والقوانين والفلسفات والدين و…الخ. وأصبح علم التاريخ بذلك دراسة لأشكال البنى الاجتماعيَّة التي يفرزها البناء التحتي.
وتجدر الإشارة إلى أن التفسير المادِّي للتاريخ وتصوّره للزمان وفاعليَّة الإنسان فيه، يندرج داخل إطار نظريات الزمان الحداثيَّة، لأن الحداثة بلورت مفهوما جديدا للزمان يختلف جذريا عن التصوّر الديني الذي كان سائدا في فترة العصور الوسطى وما قبلها، وكذلك يختلف جذريًّا عن التصوّر الطبيعي للزمان التاريخي الذي بلورته الفلسفات الطبيعيَّة أو الديانات الوثنيَّة وخاصَّة اليونانيَّة. وهذا الاختلاف الجذري ينبغي ألا يفهم بمعنى القطيعة، لأنّ الزمان التاريخي الحداثي يتضمَّن بعض عناصر التاريخ الموجودة في التصوّر الديني والطبيعي، لكن مع إعطاء هذه العناصر مضامين مختلفة يمكن أن نطلق عليها مضامين حداثيَّة لأنَّها ترتبط بالحداثة. وهذا ما سأحاول إثباته عبر مفهوم القيامة الدنيويَّة أو الفردوس الأرضي الذي تطرحه الماديَّة التاريخيَّة، وهو مشابه للفردوس أو القيامة الدينيَّة.
القسم الأول: عرض موجز الماديَّة التاريخيَّة:
إنَّ الماديَّة التاريخيَّة أو المفهوم المادِّي للتاريخ يتَّخذ من مقولتي البناء التحتي والبناء الفوقي أساسًا له، في فهم التاريخ وتقدّمه، ولا يمكن فهم هذه الرؤية دون فهم هاتين المقولتين، فما هو البناء التحتي؟ وما هو البناء الفوقي؟ يمكن القول هنا أن البناء التحتي “هو مجمل علاقات الإنتاج، أي العلاقات في ميدان الإنتاج والتبادل والتوزيع. وعلى أساس بناء تحتي معين تنبثق جميع أشكال العلاقات الاجتماعيَّة الأخرى، والأفكار والنظريات، ومطامح الناس، وكذلك المؤسّسات السياسيَّة وغيرها من المؤسَّسات الأخرى القائمة في المجتمع.
أي ما يحدّده مفهوم البناء الفوقي”[2] ويمكن اختصار البناء التحتي فيما يسميه ماركس بالأساس الاقتصادي ويسمّيه أو فيما بليخانوف بالوضع الاقتصادي. والبناء التحتي هذا هو ما يحدِّد البناء الفوقي في التصوّر المادِّي للتاريخ. وكما يظهر من التعريف السابق للبناء التحتي فإنَّ البناء الفوقي هو مجموع العلاقات الاجتماعيَّة والنظريات والمؤسَّسات السياسيَّة والحقوقيَّة والفكريَّة والدينيَّة و…الخ التي ينتجها البناء التحتي. ومن هنا جاءت تسمية هذه النظريَّة بالتفسير المادي للتاريخ. فهذه الرؤية تتَّخذ من الأساس المادِّي الاقتصادِّي قاعدة لدراسة وتفسير كافة جوانب تطوّر المجتمعات وبالتالي مسيرة التطوّر التاريخي ككل. وهذا ما قرَّره بليخانوف أحد كبار منظري الماديَّة التاريخيَّة حيث قال: “إنَّ الوضع الاقتصادي لشعب ما، هو الذي يحدِّد وضعه الاجتماعي، والوضع الاجتماعي لهذا الشعب يحدِّد بدوره وضعه السياسي والديني وهكذا دواليك”[3] والآن لنتساءل ما هي أهم العناصر التي تشملها البنية التحتيَّة والتي تتَّخذها أدوات لتفسير التطوّر التاريخي؟ يمكن القول إنَّ من أهم هذه العناصر هي مفهوم نمط الإنتاج الذي يضمّ أدوات ووسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج التي يفرضها نمط الإنتاج على القوى المنتجة فيه. ومن دون فهم هذه العناصر لا يمكن أن نفهم كيف تفسِّر الماديَّة التاريخيَّة التطوّر التاريخي وتصوّرها للزمان التاريخي.
هنا لابد من البدء بتعريف العنصر الأكثر أهميَّة في البناء التحتي وهو نمط الإنتاج أو التشكيلة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في بعض أدبيات الماركسيَّة، وسأستعمل هنا مفهوم التشكيلة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لأنه يحيل أيضا إلى البناء الفوقي. ولأنه كذلك يتيح لنا وصفه بأنه الإطار الجامع للبنيتين التحتيَّة والفوقيَّة، فكل تشكيلة اجتماعيَّة تحتوي على بناء فوقي وتحتي. ولكنها مع ذلك تتحدَّد بنمط إنتاج معيَّن هو الأساس الذي تأخذ تسميتها منه، فعلى سبيل المثال انتظمت تاريخ المجتمعات، تشكيلات اقتصاديَّة واجتماعيَّة مثل التشكيلة الرأسماليَّة والإقطاعيَّة والعبوديَّة وغيرها.
وهذه التشكيلات تسمَّى بحسب نمط الإنتاج السائد فيها، ولذلك يعرفها كيلله كوفالسون بأنها ” مجتمع محدَّد، ملموس تاريخيا، يمثِّل نظاما من الظاهرات والعلاقات الاجتماعيَّة في وحدتها العضويَّة وتفاعلها على أساس أسلوب معين للإنتاج، يتطوَّر نظامه بموجب قوانينه الخاصَّة”[4]فعلى سبيل المثال تحوي التشكيلة الرأسماليَّة نمط إنتاج متفرِّد له أدوات وسائل وعلاقات إنتاج مختلفة، عن تلك التي للتشكيلات الاقتصاديَّة الأخرى، وبالتالي بناء فوقي مختلف عن البناء الفوقي للتشكلات الأخرى. وكما ذكرت في المقدِّمة فإنَّ التحقيب الماركسي يتَّخذ من التشكيلات الاقتصاديَّة أساسًا له.
إنَّ من أهم العناصر الأخرى التي تندرج ضمن مفهوم نمط الإنتاج أو مفهوم التشكيلة الاقتصاديَّة هو عنصر وسائل الإنتاج، وهو الآلات التي يتمّ عبرها إنتاج وسائل الحياة الماديَّة، أي السلع والخدمات وكل ما هو على شاكلتها ويمِّت لها بصلة، وهنالك أيضا عنصر القوى المنتجة الذي يتلخَّص في من ينتجون الحياة الماديَّة عبر العمل باستخدام وسائل الإنتاج. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تطوُّر هذه القوى المنتجة وفقا لماركس نفسه، مشروط بتطوُّر وسائل وأدوات الإنتاج. فعلى سبيل المثال يعتبر العمال في التشكيلة الرأسماليَّة أكثر تطوّرا من العمال في التشكيلة الإقطاعيَّة. وذلك راجع في الأساس إلى التقدُّم الهائل في وسائل وأدوات الإنتاج في التشكيلة الرأسماليَّة بالمقارنة مع التشكيلة الاقطاعيَّة.
وهنالك عنصر آخر هو الأهم، لأنّه ذو صلة بعمليَّة التطوُّر التاريخي للمجتمعات وفكرة الزمان التاريخي نفسها في الماديَّة التاريخيَّة. وهو عنصر علاقات الإنتاج والذي يشير إلى الشروط العلائقيَّة التي يتمّ ضمنها الإنتاج وتتطوَّر داخلها القوى المنتجة. فكل تشكيلة اقتصاديَّة اجتماعيَّة لها نوع معين من العلاقات الإنتاجيَّة التي تفرضها على المجتمع الذي تسود فيه. وعلاقات الإنتاج هذه تتمتع باستقلال عن الناس المنتجين للحياة الماديَّة حيث نجد ماركس يقول” إنَّ الناس أثناء الإنتاج الاجتماعي لحياتهم، يقيمون فيما بينهم علاقات معينة وضروريَّة، مستقلَّة عن إرادتهم، وتطابق علاقات الإنتاج هذه درجة معينة من تطوّر قواهم المنتجة الماديَّة.
ومجموع علاقات الإنتاج هذه يؤلِّف البناء الاقتصادي للمجتمع أي الأساس الاجتماعي الذي يقوم عليه بناء فوقي وسياسي وتطابقه أشكال معينة من الوعي الاجتماعي”[5] فعلى سبيل المثال تقوم العلاقات الإنتاجيَّة في التشكيلة الرأسماليَّة على قاعدة العمل المأجور الذي ينشأ بدوره على علاقة استغلال بين العامل والرأسمالي، وهذين يفرضان بدورهما شكلا معينا حتى للعلاقات الاجتماعيَّة داخل المصنع وخارجه. والآن لنتساءل هنا كيف يتقدَّم التاريخ وفقا للماديَّة التاريخيَّة في ضوء المفاهيم المشروحة آنفا؟ إنَّ التاريخ وفقًا لهذه الرؤية يتقدَّم عبر التناقض الحتمي الذي يحدث بين تطوُّر القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج التي تعمل داخلها هذه القوى المنتجة. يقول ماركس شارحا هذه النقطة “عندما تبلغ قوى المجتمع المنتجة درجة معيّنة من تطوّرها، تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج الموجودة أو مع علاقات الملكيَّة – وليست هذه سوى التعبير الحقوقي لتلك- التي كانت إلى ذلك الحين تتطوَّر ضمنها، فبعد ما كانت هذه العلاقات أشكالا لتطور القوى المنتجة، تصبح قيودا لهذه القوى المنتجة وعندئذ تفتح عهد الثورة الاجتماعيَّة، ومع تغيُّر الأساس الاقتصادي يحدث انقلاب في كل البناء الفوقي الهائل”[6]. إنَّ هذا التقرير يدفعنا إلى طرح مسألة أخرى هي من الأهميَّة بمكان، فإذا كان تغيّر الأساس الاقتصادي لتشكيلة معيَّنة، يحدث تغيرا هائلا في البناء الفوقي. فمن هو فاعل هذا التغيُّر الجذري في الأساس الاقتصادي؟ وبمعنى آخر من هو الذي يدفع بالتاريخ إلى التقدُّم؟ إنَّ الإجابة هنا، هي الطبقات وفقا للماديَّة التاريخيَّة، فالتاريخ وفقا للماديَّة التاريخيَّة يتحرَّك بواسطة صراع الطبقات، الذي يجد أصله في التمايز الاجتماعي الناشئ عن الفوارق الاجتماعيَّة التي يفرزها نظام المليكة ونمط الإنتاج السائد وعلاقاته الإنتاجيَّة.
ولذلك تختلف أشكال الطبقات من طور تاريخي إلى آخر وحتى شكل الصراع وأدواته، فعلى سبيل المثال كانت الطبقات في العصر العبودي هي طبقتي العبيد والأحرار، والأقنان والإقطاعيين أو النبلاء وفي النظام الرأسمالي البرجوازيَّة والبروليتاريا. وهذه الطبقات هي في حالة تناحر دائم كما تقرِّر الماديَّة التاريخيَّة، وهذا التناحر يجد بذرته في الناقض الحتمي بين علاقات الإنتاج وتطوُّر القوى المنتجة، وهذا التناقض يؤدِّي بدوره إلى تناقضات داخليَّة كليَّة ومتسارعة داخل التشكيلة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المعينة، سيؤدِّي في النهاية إلى انهيارها ونشوء تشكيلة اقتصاديَّة اجتماعيَّة جديدة، تحوي علاقات إنتاجيَّة مختلفة عن السابقة قادرة على استيعاب تطور القوى المنتجة الصراع إلى فترة معينة، وعندما تعجز عن استيعابها كليا يبدأ الصراع الطبقي من جديد في اتخاذ اشكال أكثر حدَّة، محركا التاريخ بشكل أكثر تسارع، وعندما تتصاعد التناقضات الناجمة عن هذا الوضع تكون النتيجة الحتميَّة هي انهيار هذه التشكيلة القديمة وقيام تشكيلة جديدة وهكذا دواليك.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن الماديَّة التاريخيَّة تقرِّر أن التشكيلة الرأسماليَّة ستنهار وفق التحليل أعلاه، وسيؤدِّي هذا الانهيار، حتميا إلى نشوء ما يعرف بالتشكيلة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الشيوعيَّة، التي ستنهي صراع الطبقات وبذلك تكون الطور الأخير من أنماط التطوّر الاجتماعي التاريخي. وسبب كون المجتمع الشيوعي هو آخر أشكال التطور التاريخي للمجتمعات أتٍ من كون الماديَّة التاريخيَّة، تجعل الصراع الطبقي المحرِّك الأساسي للتاريخ، وأهم خصائص المجتمع الشيوعي هي انتفاء الصراع بين الطبقات، الذي يتجلَّى في زوال الدولة، التي تعدّها الماركسيَّة أداة قهر طبقي في يد الطبقات المسيطرة، وبانتهاء الصراع الطبقي يكون المحرّك الأساسي للتاريخ قد انتفى بدوره. وإذا كان الأمر كذلك فما هو التصور الذي تبلوره الماديَّة التاريخيَّة للزمان؟
إنَّ الماديَّة التاريخيَّة ترى أن الزمان خطي، فهي تقرر أن هنالك نقطة بداية ونقطة نهاية للتاريخ، أمَّا بدايته فهي ما تسميه المجتمع البدائي الذي يقوم على مشاعيَّة الإنتاج، وهذا المجتمع ليس طبقيا ولذلك نجد أن التطوّر التاريخي فيه بطيئا وبالكاد يكون ملموسا. كما أنه كان يحمل في داخله بذرة فنائه وفقا لقوانين التطور الاجتماعي التي تقرِّرها الماديَّة التاريخيَّة، لصالح نشوء مجتمع طبقي سينشأ بعد انهياره مباشرة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الماديَّة التاريخيَّة مع أنها تقول بخطيَّة الزمان إلا أنها تقرِّر إن كل طور من أطواره هو دائرة مكتملة تعقبها دائرة أخرى، تبدأ صيرورة كل منها بعد اكتمال الدائرة السابقة لها نتيجة للتناقضات المتصاعدة التي تحدث فيها كما ذكرت سابقا. وعلى هذا فإنَّ كل تشكيلة اقتصاديَّة هي دائرة مكتملة. وهذه النقطة بالذات هي ما تثير إشكال تباين الزمان التاريخي في المجتمعات وفقا للماديَّة التاريخيَّة. فهي تقرِّر أنه بالإمكان تواجد عدَّة أنماط إنتاج في وقت واحد في أماكن مختلفة من العالم. وبذلك أزمنة مختلفة ومتحايثة، وإلى الآن لا يوجد حلّ جذري لهذا الإشكال.