
مقدمة:
ظل السودان منذ الاستقلال يبحث لنحو ستين عاما عن نظام سياسي مستقر دون جدوى. فقد تعاقبت على حكمه ثلاثة أنظمة ديمقراطية لمدة أحد عشر عاماً فقط وثلاثة أنظمة عسكرية دام حكمها زهاء الأربعين عاماً، وما زالت البلاد تبحث عن دستور دائم ترضى عنه القوى السياسية في المركز والأقاليم ويضع البلاد على طريق الاستقرار والتنمية. كانت الأنظمة الديمقراطية التي اتسم حكمها بالقصر في فتراتها الثلاث (1954-58؛ 1965-69؛ 1986-89) هشة التكوين وضعيفة الأداء، فهي لم تفلح في إرساء قواعد متينة لحكم البلاد تستجيب لتطلعات أهل الجنوب في الحكم اللامركزي، ولم تبذل جهداً واضحاً في تنمية المناطق المتخلفة مما أدى إلى حرب أهلية طويلة مع الجنوب وإلى نزاعات إقليمية وتمرد مسلح ضد المركز، ولم تتمكن تلك الحكومات من وضع أسس اقتصادية سليمة توائم بين التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية حتى تسير البلاد في طريق النهضة والرفاهية؛ بل إنها لم تستطع في فتراتها الثلاث أن تضع دستوراً دائماً للبلاد بسبب الخلاف بين القوى السياسية على نظام الحكم ومرجعياته الفكرية والآيدولوجية، وأدى الصراع على السلطة إلى أزمات متلاحقة.
وبسبب ضعف الحكومات الديمقراطية وزوال هيبتها لم تنجح حتى في حماية نفسها من مغامرات العسكريين الطامحين في السلطة، ولم يهب الشعب الذي انتخبها للدفاع عنها ضد الانقلابات العسكرية التي أطاحت بها لأن أداءها لم يكن مقنعا لعامة الناس. وبالطبع هناك أسباب حقيقية تفسر ضعف أداء الحكومات الديمقراطية، منها قصر المدة التي حظيت بها في السلطة وحداثة تجربة الحكم الوطني الذي جاء بعد ستين عاماً من الاستعمار البريطاني الذي عزل الشمال تماماً عن الجنوب وشكّل إدارات أهلية في الأقاليم على أسس قبلية، ولعدم توفر الأغلبية النيابية لحزب واحد في النظام البرلماني جاءت تكوينات كل تلك الحكومات إئتلافية من عدة أحزاب متنافرة تاريخياً وذات توجهات وطموحات متباينة من خلال ديمقراطية تنافسية، الأصل فيها غلبة حزب واحد على بقية الأحزاب. وعلى حداثتها نشأت الأحزاب السودانية على أسس طائفية أو إقليمية أو قبلية أو عقائدية تفتقد جميعاً النهج الديمقراطي والثقافة الديقراطية ومؤسسية الأجهزة الحزبية، فلم يكن سلوكها أو أداؤها مما يرسخ للنظام الديمقراطي أو يجعله جاذباً للشباب والطبقة الوسطى.ولكن يحمد للحكومات الديمقراطية أن الانتخابات الخمس التي أجرتها في عهدها كانت نزيهة وعادلة ومقبولة إلى حدٍ كبير لكافة القوى السياسية؛ وأن سجلها لم يشوه بانتهاكات واضحة لحقوق الإنسان، ولم تسع لتسييس القوات النظامية أو الخدمة المدنية أو الجهاز العدلي أو تستغل موارد الدولة لمصالح حزبية، وإن حاولت الأحزاب العقائدية تشكيل خلايا لها داخل الجيش لتستعين بها في الاستيلاء على السلطة، وهو نهج للحكم كان سائداً في كثير من الدول العربية والإفريقية والآسيوية.
وتعاقبت على حكم البلاد ثلاثة أنظمة عسكرية دام حكمها لنحو أربعين عاماً (1958-64؛ 1969-85؛ 1989-2012)، جاء الحكم العسكري الأول نتيجة لتسليم السلطة لقيادة الجيش في نوفمبر 1958م من رئيس الوزراء المدني (عبد الله خليل) الذي أوشك أن يفقد منصبه بسبب تشكيل تحالف جديد داخل البرلمان كان سيطيح به، وكان الثاني انقلاباً عسكرياً من القيادات الوسطى في الجيش المتأثرة بالتجربة الناصرية ودعوتها للاشتراكية والقومية العربية، وجاء الانقلاب الثالث نتيجة تدبير وتنظيم من الحركة الإسلامية السودانية (الجبهة الإسلامية القومية) المتأثرة بفكر الأخوان المسلمون في مصر. وشاركت الأحزاب السياسية بدرجات متفاوتة ولمدد قصيرة في تأييد ودعم الحكومات العسكرية، ولكن القرار السياسي بقي بيد الإنقلابيين العسكريين باستثناء فترة الإنقاذ الأولى إذ سيطرت القيادة المدنية للجبهة الإسلامية على مقاليد السلطة؛ وفي كل الحالات انقلبت العصبة العسكرية على الأحزاب والقيادات التي جاءت بها للحكم أو دعمتها لتمسك بالسلطة كاملة وتضعها في يد قائد فرد أبعد عن السلطة حتى من شاركوه من الضباط في صنع الإنقلاب. وقد كان المناخ السياسي في عمومه بالدول العربية والإفريقية مواتياً للحكومات العسكرية والأنظمة الشمولية نسبة لهشاشة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ولضعف أداء الحكومات الديمقراطية التي جاءت عقب الاستقلال، والتي واجهت مشكلات اقتصادية وسياسية ونزاعات إثنية لم تستطع معالجتها بالقدر الكافي.
وقد كان من سمات الأنظمة العسكرية التي حكمت السودان لأربعة عقود، أنها تبدأ عهدها بتعطيل الدستور وحكم القانون وتحجر على الحريات العامة وتحظر نشاط الأحزاب السياسية والاتحادات المهنية والنقابات العمالية المنتخبة وتقيد حرية الصحافة، وتقمع المعارضين المدنيين عبر القوة المفرطة بواسطة أجهزة الأمن والشرطة والمحاكم الاستثنائية وتدابير الطوارئ والأحكام العرفية والفصل من الخدمة العامة، مما أدى إلى إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتعطل بذلك التطور الديمقراطي في البلاد الذي بدأ واعداً عند مطلع الاستقلال. وعرف الحكم العسكري بتجييره للقوات النظامية والأجهزة العدلية والخدمة المدنية لمصلحة السلطة العسكرية القائمة بدلاً من مصلحة البلاد القومية، وبإحالته للصالح العام كل من يشتبه فيه من ضباط القوات النظامية أوقيادات الخدمة المدنية أو السلك القضائي بأنه معارض للنظام. وبلغت تلك الإجراءات التأمينية ذروتها في عهد سلطة الإنقاذ التي توفرت لها كوادر مؤهلة في شتى قطاعات الدولة حتى تماهت الحدود بين أجهزة الدولة والحزب الحاكم، وأصبحت سياسة “التمكين” لعناصر الحزب في أجهزة الدولة منهجاً رسمياً معلناً على رؤوس الأشهاد. وأدت تلك السياسات الإقصائية إلى ضعف المؤسسية وتدني الأداء في أجهزة الدولة بدرجة كبيرة بسبب تقديم الولاء للنظام على الكفاءة، وإلى انتشار الفساد في الخدمة المدنية لأن أهل الولاء الذين تسنموا القيادة كانوا فوق المحاسبة.
وانتهجت جميع الحكومات الإنقلابية العمل العسكري حلاً لمشكلة الجنوب، على الأقل لفترة من الزمن حتى استيأست منه حاولت اللجؤ إلى معالجة سياسية بنصف قناعة، مما وسع الشقة بين أهل الشمال والجنوب وقاد لخسائر هائلة في الأرواح والممتلكات، وأدى في النهاية إلى انفصال جنوب السودان في يوليو 2011م في عهد الحكم العسكري الأخير؛ وفقد السودان بذلك ثلث مساحته وربع سكانه وثروات معدنية وزراعية ومائية هائلة. وكانت الفترات العسكرية مرتعاً خصباً للفساد والرشوة واهدار المال العام والمحسوبية واستغلال النفوذ، والتفاوت المريع بين الصرف على الأجهزة الأمنية التي يستند عليها النظام والصرف على التنمية والخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن. وضاق الشعب ذرعاً بالحكم العسكري فهب ضده بقواه المدنية والسياسية واستطاع الإطاحة به مرتين، الأولى في ثورة أكتوبر المجيدة ( 1964) ضد حكم الرئيس ابراهيم عبود، والثانية في انتفاضة جماهيرية مشهودة في (أبريل 1985) ضد حكم الرئيس جعفر نميري. ولا زال الحكم العسكري الحالي رغم طول بقائه في السلطة يعاني من النزاعات العسكرية الجهوية والاحتجاجات الجماهيرية ومن عدم الاستقرار السياسي والاداري، ومن العزلة الإقليمية والمحاصرة الدولية والأزمات الاقتصادية. وليس مستبعداً أن ينتفض الشعب السوداني ضد الحكم القائم مرة ثالثة كما فعل بسابقيه خاصة وأن الربيع العربي ضرب مثلاً في نجاح الثورات الجماهيرية على الحكومات الاستبدادية. وخلاصة تجربة السودان خلال العقود الستة منذ الاستقلال أنه لا يمكن أن يحكم بمركزية قابضة ولا بحكم استبدادي شمولي، عسكرياً كان أم مدنياً، وكلاهما من سمات الأنظمة العسكرية بحكم هيكلتها التراتيبية وتدريبها الصارم على طاعة الأوامر العليا دون نقاش أو مراجعة. وخيار السودان الذي لا بد منه هو النظام الديمقراطي اللامركزي الذي يتبنى تحقيق العدالة الاجتماعية على مستوى الأفراد والأقاليم والمجموعات العرقية مهما كانت مشكلات التطبيق التي تعترضه. ولكن كيف للسودان أن يؤسس ديمقراطية فيدرالية مستدامة؟ هذا ما تحاول الورقة الإجابة عليه.
مشكلات النظام الديمقراطي في السودان:
إذا كان النظام الديمقراطي التعددي هو الأفضل لأهل السودان، وأن الحكم العسكري أو الشمولي غير مقبول لديهم بدليل ثورتهم الشعبية عليه مرتين في 1964 وفي 1985 فلماذا إذن لم تدم الديمقراطية أكثر من إحدى عشر سنة في حين تطاول الحكم العسكري لأربعين عاماً؟ لا بد أن هناك أسباباً موضوعية، سياسية واجتماعية، أدت لضعف النظام الديمقراطي مما أغرى المغامرين العسكريين بالإنقلاب عليه دون أن تهب الجماهير للدفاع عنه. يعزى نجاح الإنقلاب العسكري في الإستيلاء على السلطة، رغم بعض المحاولات الفاشلة، على حفظ سريته ودقة الإعداد له وتجنيد قوة مؤيدة له في أسلحة الجيش المختلفة، بالإضافة إلى توفر الظرف السياسي المواتي المتمثل في تدني شعبية الحكومة الديمقراطية وغفلتها عن حماية نفسها. أما طول بقاء الحكومات العسكرية فلا يعتمد على رضا الجماهير عنها بقدر ما يعتمد على مدى طاعة القوات النظامية في الأمن والشرطة والجيش لها، واستعدادها لإحباط أية محاولة عسكرية أو مدنية ضدها، وكسب قدر من التأييد السياسي في أوساط بعض القطاعات الشعبية مثل رجال الإدارة الأهلية ورجال الأعمال وشيوخ الطرق الصوفية مما يضفي عليها قدراً من المسحة الجماهيرية التي تدعيها، وتحسين علاقاتها مع بعض القوى الإقليمية والدولية لتكسب تأييدها، وتستعين بها في معالجة مشاكلها الاقتصادية والأمنية وتدفع عنها ما تتعرض له من هجوم من الدول الغربية والمنظمات الحقوقية.
ما هي المشكلات الموضوعية التي تسببت في ضعف النظام الديمقراطي وسقوطه مرة بعد أخرى؟
طبيعة تكوين السودان باتساعه الجغرافي (مليون ميل مربع قبل انفصال الجنوب) مع ضعف وسائل الاتصال والمواصلات ووعورة الطرق بين أقاليمه المترامية، وحدوده المصطنعة المتداخلة سكانياً مع الجيران، وحداثة جمع كيانه الوطني في بلد واحد على يد الاستعمار التركي (1821م) أولاً ثم البريطاني (1898م) ثانياً بعد أن كان ممالك متفرقة لقرون عديدة، وتنوعه العرقي والديني والثقافي في أقاليم متباعدة ذات مستويات اجتماعية وثقافية متباينة. أدى كل ذلك لصعوبة حكمه مركزياً من عاصمة البلاد أو أن ينفرد بحكمه حزب واحد أو اثنان ولو نالا أغلبية برلمانية كبيرة. وأدى التنوع العرقي والثقافي إلى تمرد وصراعات ونزاعات مسلحة في جنوب السودان (1955) وجنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وشرق السودان، وهي كلها مناطق متخلفة لم تجد حظاً مناسباً في اقتسام الثروة والسلطة. وكانت مشكلة الجنوب هي أكبر مهدد للديمقراطية والاستقرار السياسي في البلاد مما شجع العسكر لاستلام السلطة بدعوى دحر التمرد وإنقاذ البلاد.
عدم توفر الشروط والظروف الاجتماعية والثقافية التي يتطلبها نجاح النظام الديمقراطي في السودان بالدرجة الكافية، الوضع الاقتصادي المناسب الذي يمكن الدولة من الوفاء بالتزامتها المالية الأساسية تجاه نفقات وتكلفة أجهزة الدولة المختلفة،وتقديم الخدمات الضرورية للمواطنين (الصحة والتعليم والماء والغذاء)، وتحقيق قدر معقول من المشروعات التنموية والاستثمارية الذي يؤدي إلى نمو اقتصادي بدرجة مرضية؛ وحجم مقدر للطبقة الوسطى من مهنيين ومنتجين ومثقفين وعمالة ماهرة لها مصلحة وارتباط باستمرار النظام الديمقراطي؛ وانسجام عام في التكوين الاجتماعي للأمة يجعل أهدافها القومية متقاربة؛ أحزاب سياسية ناضجة ترتبط وتمثل قطاعات وفئات اجتماعية بعينها؛ وانتشار وقبول في أوساط المجتمع للسلوك الديمقراطي ولاحترام السلطة والالتزام بحكم القانون؛وتوفر قدر من الوعي السياسي يمكن الناخب من تحديد خياره الانتخابي على أساس برنامج للحزب قابل للتنفيذ لا على أساس العرق أو الطائفة أو العلاقات الاجتماعية أو المنفعة الذاتية. ومعظم هذه الشروط غير متوفرة في المجتمع السوداني.
طبيعة تكوين الأحزاب السودانية وثقافتها السياسية جعلتها ضعيفة الالتزام بالنهج الديمقراطي داخل أجهزتها الحزبية، وفي قناعتها بحرية النشاط السياسي للأحزاب المنافسة لها، وبقبولها التداول السلمي للسلطة حسب الفترات الانتخابية التي يحددها الدستور، وبشكها وعدم ثقتها في التزام القوى الأخرى بأسس وقواعد النظام الديمقراطي. فالأحزاب التقليدية الكبيرة (الأمة والاتحادي الديمقراطي) التي حكمت البلاد طيلة الفترات الديمقراطية الثلاث تنحصر بصورة غالبة في شمال السودان المسلم وهي ذات قواعد طائفية دينية تتبع توجيهات مرشدها الديني دون أن تطالبه بحقوق ديمقراطية؛ وأحزاب جنوب السودان ذات طبيعة قبلية تحالفية تخضع لرغبات السلاطين والزعماء القبليين وطموحات قياداتها المتعلمة من أبناء القبيلة وهي تحالفات قصيرة العمر في معظم الأحوال؛ والأحزاب المنافسة للأحزاب التقليدية في الشمال وتحوز على تأييد النخب المتعلمة هي أحزاب عقائدية في المقام الأول (إسلامية أو يسارية) تؤمن بأيدلوجيتها الفكرية وتتعصب لها أكثر مما تؤمن بالنظام الديمقراطي وتلتزم به، وقد كانت تقف من وراء دعم الانقلاب العسكري الثاني والثالث. فأنّى لأحزاب بهذه الطبيعة والتكوين أن تكون سنداً لاستقرار النظام الديمقراطي وديمومته في بلد متخلف من بلدان العالم الثالث.
ومن نماذج الممارسات غير الديمقراطية في سلوك الأحزاب السودانية منذ الاستقلال: اتفاق زعيمي الختمية والأنصار في عام 1956 على إسقاط حكومة الأزهري بعد شهور من إعلان استقلال البلاد، وقد كان حزب الأزهري (الوطني الاتحادي) هو الوحيد الذي فاز بأغلبية برلمانية في أول انتخابات في البلاد ولم يتكرر ذلك في كل الانتخابات الديمقراطية التالية؛ تسليم رئيس وزراء حزب الأمة السلطة لقيادة الجيش في نوفمبر 1958 تفاديا لسحب الثقة منه في تحالف برلماني جديد؛ تحالف أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق على تعديل الدستور وإسقاط عضوية نواب الحزب الشيوعي من البرلمان في عام 1965؛ رفض الحكومة تنفيذ حكم المحكمة العليا التي قضت ببطلان إسقاط عضوية الشيوعيين؛ تغيير الحزب الاتحادي لتحالفه مع حزب الأمة في 1967 للجناح المنشق من ذلك الحزب ثم العودة مرة أخرى للجناح الآخر وحل البرلمان بصورة غير دستورية لإجراء انتخابات جديدة تقوي موقف الحزب الاتحادي وتضعف موقف حزب الأمة المنشق؛ بروز ظاهرة انشقاقات الأحزاب وشراء النواب لتأييد هذه الحكومة أو تلك؛ دعم الأحزاب اليسارية (الناصري والبعثي والشيوعي) لإنقلاب نميري في 1969؛ الإنقلاب العسكري للحزب الشيوعي على نظام نميري في يوليو 1971؛ تأييد الأحزاب الجنوبية لنظام نميري بعد اتفاقية أديس أببا في 1972 والتي منحتهم حكماً ذاتياً في الجنوب وقدراً من حرية العمل السياسي والانتخابي؛ محاولات الجبهة الوطنية (أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق) الإنقلاب المسلح على نميري في 1975 وفي 1976؛ مصالحة حزبي الأمة وجبهة الميثاق لنظام نميري في 1977 دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير في شمولية النظام العسكري؛ تكتل الأحزاب في انتخابات 1986 ضد مرشح الجبهة الإسلامية القومية (د. حسن الترابي) في دائرة الصحافة مما أدى إلى سقوطه؛ إنقلاب الجبهة الإسلامية القومية على الديمقراطية الثالثة في يونيو 1989؛ محاولة حزب البعث العربي الإنقلاب على نظام الإنقاذ في 1991؛ تعاطي الأحزاب السياسية مع نظام الانقاذ بدرجات متفاوتة خاصة بعد اتفاقية السلام الشامل في 2005 والتي سمحت بقدر لا بأس به من التعددية الحزبية والحرية السياسية رغم بقاء السيطرة التامة للحزب الحاكم في شمال البلاد.
ولعب العامل الخارجي الإقليمي والدولي دوره في تشجيع ودعم الإنقلابات العسكرية والنزاعات المسلحة، كان على رأس تلك الدول مصر في عهد عبد الناصر وليبيا في عهد القذافي والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، كل منها دعم الحكم العسكري المتعاطف معه كما دعم المعارضة العسكرية ضد النظام الذي لا يواليه.
تدل كل هذه الممارسات الحزبية القصيرة النظر على ضعف التزام الأحزاب السياسية بالنهج الديمقراطي السليم، وبقلة صبرها على مفارقة كراسي الحكم ولو أدى ذلك لذهاب النظام الديمقراطي نفسه، واستعدادها للتعاطي مع الأنظمة العسكرية لو منحتها قدراً من المشاركة في الحكم. كثير من هذه المشكلات والسلوكيات لن تزول من المجتمع السوداني في المدى القريب أو المتوسط، ولذا لا ينبغي انتظار زوال هذه المشكلات بصورة تامة حتى يمارس السودان نظاماً ديمقراطياً تعددياً يقوم على التفويض الانتخابي الحر ويراعي كل حقوق الإنسان والمرأة والأقليات. فالبديل للديمقراطية هو الحكم العسكري أو الشمولي الذي يزيد من تلك المشكلات بدلاً من حلها أو تخفيفها. ما هي إذن الوسيلة الناجعة لممارسة الديمقراطية التعددية الانتخابية التي يمكن أن تتعايش وتتعاطى مع مشكلات المجتمع السوداني المذكورة آنفا،ً دون أن يقود ذلك إلى صراع أو استقطاب سياسي حاد لا تحتمله الأجهزة الدستورية والقانونية الهشة فيودي ذلك بالنظام الديمقراطي كلية كما حدث في فترات الديمقراطية الثلاث.
تدعو هذه الورقة إلى تبني نظام الديمقراطية التوافقية على المدى المتوسط في السودان (ما بين عشرين إلى ثلاثين سنة) حتى نضمن استمرار الديمقراطية واستقرارها لمدة مناسبة يعتاد فيها الناس على قبول التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وعلى المنافسة السياسية المقننة دون تطرف، وعلى ترسيخ السلوك الديمقراطي ونشر الثقافة الديمقراطية بين قطاعات المجتمع المختلفة خاصة الطبقة الوسطى تتمسك بالديمقراطية أكثر من غيرها. ونحسب أن مثل هذه التجربة إذا تم الأخذ بها في جدية وصدق تعمل تدريجياً على حلحلة المشكلات التي ساهمت في ضياع النظام الديمقراطي لسنوات طويلة منذ الاستقلال، وتمهد الطريق لتأسيس ديمقراطية ناضجة في المستقبل.
ما هي الديمقراطية التوافقية؟
ظهر مفهوم الديمقراطية التوافقية (Consociational Democracy) في عقد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عقب الحرب العالمية الثانية لتجيب على سؤال محوري: كيف نجعل النظام السياسي ديمقراطياً ومستقراً خاصة في المجتمعات التي تحفل بالصراعات على أسس عرقية وثقافية ودينية؟ وهو مفهوم جديد يطرح بديلاً للديمقراطية التقليدية التنافسية التي راجت في الدول الغربية حيث المجتمعات متجانسة سكانياً ومتطورة اقتصادياً. بل هناك شكوى حتى في الدول الغربية من احتكار السلطة بين الأحزاب الكبيرة (محافظين وعمال في بريطانيا، جمهوريين وديمقراطيين في أمريكا، اشتراكيين ومحافظين في ألمانيا وفرنسا وايطاليا) وهي أحزاب تمتلك المال الوفير الذي يمكنها من تمويل الحملة الانتخابية المكلفة، والتنظيم القوي المنتشر في أنحاء البلاد، والآليات الانتخابية المحترفة. وكان أكثر من كتب وروّج لهذا المفهوم هو بروفيسر آرند لايبهارت (Arend Lijphart) أستاذ العلوم السياسية الممتاز (Professor Emeritus) بجامعة كلفورنيا، ورئيس الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية (1995-96) والذي استقى أفكاره الأولى عن الموضوع من أطروحته عن النظام السياسي في هولندا التي تطبق قدراً من الديمقراطية التوافقية. وكان من أوائل كتبه في هذا المجال: سياسة الاحتواء 1968؛ الديمقراطية التوافقية 1969؛ الديمقراطية في المجتمعات المتنوعة 1977.
(The Politics of Accommodation; Consociational Democracy; Democracy in Plural Societies)
وقد نال لايبهارت جائزة جوهان اسكايت (Johan Skytte) المتميزة في العلوم السياسية عام 1997م، وبجانب مصطلح التوافقية (consociational) استعمل لايبهارت مصطلح “الديمقراطية الإجماعية” (Consensus Democracy) بصورة مرادفة للتوافقية، ويبدو لي أنه أخذ كلمة “الإجماع” من المبدأ المشهور في الفقه الإسلامي فالكلمة الانجليزية المرادفة لا تستعمل في مجال السياسة التي تقوم على الصراع والتنافس في العرف الغربي أكثر منها على الاتفاق والإجماع. وقد نظّمت الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية بالتعاون مع معهد الدراسات الإنمائية بجامعة نيروبي في يوليو 2011م مؤتمرا كبيراً عن: الديمقراطية التوافقية في إفريقيا، دام لمدة أسبوعين وحضره أكثر من مائة أستاذ وخبير في العلوم السياسية من شتى أنحاء العالم، وقدمت فيه عشرون ورقة بحثية استفاد كاتب هذه الورقة من بعضها. وكان القصد من ذلك المؤتمر الكبير هو الترويج للديمقراطية التوافقية على أساس أنها الأنسب للدول الإفريقية المنقسمة عرقيا وثقافيا ودينيا؛ وكان السودان أحد الأمثلة التي دار نقاش حول تجربتها المرة، وقد شارك الدكتور عبده مختار من جامعة أمدرمان الإسلامية في ذلك المؤتمر وكتب عنه ورقة هي إحدى مصادر هذا المقال. تهدف الديمقراطية التوافقية إلى احتواء النزاعات والاحتكاكات السياسية بين المجموعات المتعددة والمنقسمة في داخل الوطن الواحد،عن طريق آليات ومؤسسات تؤدي إلى المشاركة في السلطة بين النخب التي تمثل تلك المجموعات بقصد استدامة الديمقراطية في ذلك البلد. فالانقسامات السياسية الحادة تشكل أكبر عقبة لتحقيق الديمقراطية واستقرارها لأنه من الطبيعي أن تعمل الأقليات المحرومة على تخريب الديمقراطية التي لا تجد منها شيئاً؛ وبدون احتواء الأقليات واستيعابها لا أمل في نظام ديمقراطي مستقر في مجتمعات تعددية منقسمة فيما بينها.
وتستند الديمقراطية التوافقية على أربع ركائز رئيسة هي: تحالف حكومي عريض تمثل فيه كل المجموعات السياسية ذات الوزن المقدر في البرلمان؛ تمثيل نسبي واسع يستوعب مختلف المجموعات السياسية والاجتماعية عند توزيع مقاعد البرلمان ومناصب الخدمة المدنية؛ الاستقلال المناطقي عبر نظام فيدرالي أونحوه؛ حق النقض للأقليات في القرارات الإدارية والسياسية الكبيرة التي تهمها. وهذا يعني أن الديمقراطية التنافسية التي تؤدي إلى أغلبية حزب واحد أو اثنين يتولى/ يتوليان السلطة لتنفيذ برنامجه/برنامجهما الانتخابي غير وارد في الديمقراطية التوافقية، لأن ذلك ما يكرس حكم الأغلبية وينفي وجود الأقليات الأخرى ولو كانت ذات حجم مقدر في الكثافة السكانية. ويزداد الخطر على النظام الديمقراطي في أعقاب النزاعات المسلحة الأهلية التي يتطلب تجاوزها بناء مؤسسات سياسية توافقية تحول دون العودة للحرب. ويقول لايبهارت إن النتيجة الأساسية التي خرج بها من تحليل المؤسسات السياسية في 118 بلداً بين عامي 1985 و 2002 أن نظام التمثيل النسبي والاستقلال المناطقي (اللامركزية) كان لهما الأثر الأكبر في استدامة السلام في أعقاب النزاعات المسلحة بتلك البلدان. والديمقراطية التوافقية معمول بها في عدد من البلاد بدرجات متفاوتة وأحيانا في بعض أجزاء البلاد مثل: كندا، هولاندا، سويسرا، السويد، لبنان، اسرائيل، النمسا، بلجيكا. وكما هو معلوم فإن لبنان هو أكثر البلاد العربية ديمقراطية رغم أن مؤسساته السياسية والإدارية والنظامية تقوم على محاصصة طائفية دينية لكنها مع ذلك استمرت منذ الاستقلال إلى اليوم لقبول المجتمع لتلك المعادلة السياسية. وقد نجح السودان في وقف الحرب الأهلية في الجنوب مرتين عن طريق اتفاقية أديس أببا في 1972م واتفاقية السلام الشامل في 2005م، ومنحت الاتفاقيتان الجنوب حكماً ذاتياً واسعاً (أقرب للاستقلال في الاتفاقية الثانية) ومشاركة مقدرة في السلطة المركزية. ولكن النظام العسكري ارتد عن اتفاقية أديس أببا مما أعاد الحرب الأهلية مرة ثانية، وارتدت حكومة الإنقاذ عن منهج الاحتواء السياسي الذي بدأته مع الحركة الشعبية لتحرير السودان مما أضرم الصراع المسلح مرة ثانية في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور.
وأحسب أن الديمقراطية التوافقية تنسجم مع تعاليم الإسلام الذي يجعل الإجماع المصدر الثالث للتشريع بعد القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويدعو للشورى الملزمة في الشأن العام، ويؤسس شرعية الحكم على البيعة التعاقدية بين الحاكم والمحكومين، ويعرّض الحكام للمحاسبة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويساوي بين الناس أمام القاضي المستقل، ويأمر بإنصاف وإحسان معاملة المستضعفين من الناس مثل الرقيق والموالي والخدم والمرأة والأقليات الدينية (قصة الخليفة عمر بن الخطاب مع القبطي المصري الذي تظلم له من ولد عمرو بن العاص)، ويخصص الإسلام نصيباً من الزكاة لتوليف قلوب المستجدين في الإسلام ويجوزها بعض الفقهاء لغير المسلمين.ويعطي الفقهاء اعتباراً للرأي الغالب بين الناس فيقولون: هذا ما يراه جمهور الفقهاء، وهذا ما عليه سواد الناس، وهذا حديث متواتر، وهذا حديث متفق عليه مما يعني تغليب الاتفاق الواسع على رأي الفرد أو القلة من الناس. وتشهد “صحيفة المدينة” التي كتبها الرسول (ص) في أول سنة له في يثرببسعيه الجاد للتوفيق بين كل سكان المدينة من أنصار ومهاجرين ويهود ومشركين ومنافقين وذلك على أساس المساواة التامة بينهم في الحقوق والواجبات.وقد كان الهدف الرئيس من وراء تلك الاتفاقية هو استتباب السلام في المدينة حتى يتفرغ المسلمون للدعوة الدينية وللدفاع عن المدينة في مواجهة قريش التي تتربص بهم.