
في الحياة موت وفي الموت حياة
في منطق الجدل والمفارقة لا شئ يكون ويوجد إلا بما هو تناقض، فالحياه تمتد بجذورها إلى الموت، والموت هو بذرة نشوء وكون الحياة، فلا حيوات دون الممات، والممات ذاته شيئية الحياة، أو قل إنه حاجة وفاقة الحياة، فالحياه يستحيل إلى موت وبالموت فقط تكون الحياة. هكذا إذاً تكون فكرة أن لكم في الحياة موت وفي الموت حياة !.
ولو ضرب مثلاً في ذلك، نجد أن الأمومة في جميع الأنواع علي وجه التقريب، هي نفسها فكرة التضحية بالذات لكي يكون ويولد المولود(الإبن). بل إن الام والأب معاً يموتان بالمعنى الحرفي والمجازي من أجل حياة جديدة ولكي تكون الولادة ممكنة، فعملية الولادة هي موت سريري للأم، وآلام المخاض العظيمة هي آلآم بحجم الموت. ولكن رغم ذلك الموت، تعمل كل انثي وكل ذكر المستحيل في سبيل كون المولود . في حالة الإنسان يمكن للمرأة بالذات أن تضحي بكل شيء (الحرية _ الكرامة _ الحب …) في سبيل كون الولد، أي تخسر جزء كبير من نفسها في سبيل التكاثر والتوالد. يضحي الوالدان بالوقت والنفس والجهد، وتقديم النفس للخطر والموت في سبيل ذلك المولود. فالعملية الجنسية ذاتها المفضي إلى التكاثر والتناسل وبالتالي المؤدي إلى الحياة والإيجاد هي منذ البدء عملية فَنَاء وموت وذوبان، بما أنها عملية تخارج خارج حدود الذات، فالجنس لقاء للآخر من أجل الالتئام والذوبان والفناء، أي من أجل التخلي عن الذات ومن أجل الذات نفسها وفي سبيلها، فالجنس موت لأجل الحياة، وحياة لأجل الموت. عند الجنس ولحظة النشوة يحدث نوع من فقدان الوعي ولا ندري في تلك اللحظة أن كونا نحن هم نفس الذوات آم لا؟ نصبح وقتذاك غير الذي كنا ! أي نصبح خارج انفسنا من أجل ذاتنا الأخري، فتلك هو الموت بعينه ورأسه وانفه. ولذا لا ندري أن كانت التأوهات والصرخات الناتجة عن العمليه الجنسية هي تأوهات لذة ام صراخات الآلآم؟ اهي ألم اللذة آم لذة الألم؟ فالجنس فيه من الألم مثلما فيه من اللذة شئ، مثل المخاض أيضا فهي ألم ولذة، تعب وراحة، فرح وحزن، امتلاء وفراغ، إلفة وغربة، وبالتالي موت و حياة. فهناك ألم لذيذ وتلك هي الموت الذي في الحياة، وهنالك لذة في الألم، وتلك هي الحياة الذي في الموت. عملية إنتاج الحيوان المنوي والبويضة هي عملية موت في سبيل الحياة؛ فالحياه مراحل وكل مرحلة هي تجاوز وتخطي ونفي للمرحلة السابقة، فأن يولد طفل ويكون، علي طفل الرحم أن يموت، وأن يحيا طفل الرحم علي الزاجوت الموت، وكي يكون الزاجوت علي البويضة والحيوان المنوي الموات وهكذا دواليك. ويموت الطفل الذي فينا من أجل الشب (الشاب) ، ولكي يكون الكهل يتم قتل الشاب، وهكذا تكون دورة الحياة بما هي تجاوز وتخطي، ووجود وعدم ، ونشوء وفساد وبالتالي موت وحياة.
من ناحية أخري ومن المنظور النفسي، تكون في كل الكائنات نزوع نحوا التدمير والخراب _ السادو مازوش ، وهي المتعة واللذة الي حد النشوة التي نجدها في التدمير والهتك والخراب والبوار، مثلما نجدها في البناء والإصلاح، فالمتعة التي نجدها في الخراب والعبث بالأشياء يأتي من أن ذلك الخراب(الموت) يؤدي بدوره إلى الصلاح والفلاح (الحياة)، تلك هي تركيب وتعالق الموت بالحياة.
ففي كثير من القوانين والأعراف البشرية تكون حكم الإعدام (القتل) حاضر ووارد. فالقوانين وجدت خصيصاً من أجل المحافظة علي الحياة، ولكن لكي تكون ذلك ممكناً علينا قتل الحياة(الإعدام) لكي تكون الحياة ممكناً، فهنا قتل في سبيل الإحياء!. وكيف نفسر الصراع الدامي والحامي بين الأنواع المختلفة، فهناك آلف بل الملايين، بل البلايين من الكائنات الحية تموت في سبيل أن تحيا الأخري منها. فالصراع بين الأنواع والكائنات هي صراع الحياة مع نفسها من أجل نفسها، الحياة تلتهم ذاتها في سبيل تغذية ذاتها. وهذا ما ذهب إليه شوبنهاور في أن الإرادة والإرادة هي إرادة الحياة، لكي تبقي ذاتها وتؤكدها عليها أن تصارع ذاتها وتجابهها من خلال صراع الأنواع. فالصراع ا في أحيانٍ كثيره لا تكون بين الأنواع المختلفة فحسب، وإنما تكون بين جنس وفصل النوع ذاتها، ومن أجل النوع. فالإنسان يصارع الإنسان من أجل نوع الإنسان، والأسود في صراع مع الأسدود من أجل مثال الأسدود، وكل ذلك من أجل تأكيد الحياة في نهاية المطاف.
اكثر من ذلك هنالك كائنات تلتهم ذاتها مثل الهيدرا لكي تكون وتولد من جديد، بل هنالك من تأكل فلزات اكبادها في حالة الإحساس بخطر فقدان الحياة. إذاً يجب أن يموت شيء ويفني ويزول لكي يبقي شيء آخر. فهناك كائنات تتكاثر من خلال الانقسام والانشطار الذاتي، فالدودة التي تقسم ذاتها ألى عدة أقسام لكي يكون هنالك مولود جديد، تفعل ذلك تضحية بجزء عزيز من نفسها(تموت) لكي تبقي النوع.
تلك هي الجانب الفلسفي لنظرية التطور التي ابدعت مفاهيم مثل، الانتخاب الطبيعي، الطفرة الجينية، ملاءمة الظروف للمحيط لتقول أن الحياة هي التغيير وإلا فلا، وأن تكون الحياة هي التغيير يعني أنها الموت (اللاحياة). فعملية الانتخاب الطبيعي هي عملية قتل للأنواع وإحياء لأنواع أخرى، والطفرة التي تحدث نتيجة لفكرة الملاءمة مع متغيرات المحيط الطبيعي هي تجاوز النوع لذاته وتخليه عن ذاته السابقة(قبل الظروف الجديده ) من أجل الذات الآحقة. إذاً وفقاً لداروين ونظرية التطور وآلية الإنتخاب الطبيعي، تموت الملايين من الكائنات في سبيل حياة الملايين أيضا.
إذاً عند القول بأن الموت جزء من الحياة وأن الحياة اصل للموت، يعني ذلك ما يعنيه إن النقص يدب جسد الحياة والوجود ، وأن النقص واللاكمال جزء أصيل من فكرة الحياة. فالحياة يحفها ويحيط بها النقص من كل الجبهات؛ ففكرة النقص هذه هي الجهة والمصدر والينبوع الذي أتت منه الحياة والموت معاً؛ فالنقيصة والحاجة والفاقة هو سبب للنسبية والاختلاف والتنوع والتشتت وبالتالي سبب للصيرورة بماهو سبب للموت والحياه . ولكن وللمفارقة وبما أن الحياة نفسها مفارقة فأن نزعة البقاء والخلود هي مصدر الحياة ووجودها، فتلك النزعة هي من تدفع الأنثى وكل أنثي للدفاع وبشراسة عن فلذات الأكباد. فنزعة البقاء والخلود هي مصدر التكاثر وهي المغناطيس التي تجذب الذكر الي الأنثى للتزاوج والتكاثر. والمفارقة الكبري هي أن النقص (الموت) هو سبب رئيسي لدافع الخلود والبقاء والنزوع نحو الاكتمال . فالأنواع تسعي ألى تخليد نوعها والمحافظة عليها بشتي السبل وبتفاني منقطع النظير، لذلك للإحساس بوجود النقص والتناهي، فتلك النقص والإحساس بالتناهي واللاكتمال هو من يدعوا ألى وجود الجديد. فلابد من مولود يحمل أسم وجين الوالدين وأن لم يتطابق معاهما.