
ما يتبادر إلى الأذهان، وما يخطر على الخواطر من الوهلة الاولي، هو أن نظرية التطور تكون نظرية علمية بيولوجية تخص علوم الأحياء فحسب؛ وهذا ما يجعل غض طرف البصر عن الأبعاد المعرفية الأخرى للنظرية دائمه ومستمرة، من جهة إنها على تماس وتداخل وتقاطع مع الحقول المعرفية والعلمية الاخري. فنظرية التطور تتقاطع وبشكل مفصلي وأساسي مع الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والأنثربولوجيا والسسيولوجيا (الدراوينية الاجتماعية) والسايكولوجيا (علم النفس التطوري) والاركيولوجيا. والأهم من ذلك كله وفوق كل ذلك هو البعد الفلسفي للنظرية، فهي نظرية فلسفية في الصميم، ومنذ البدء.
وهنا تكون مسألة العلاقه بين العلم والفلسفة حاضرة، فعلي الرغم من أنهما يتشابكان ويتعاونان، إلا أنهما ايضاً يختلفان في الطريقة والمسلك، وبالتالي الآليات والأدوات، في الاستخراجات والدلالات ، وعليه تكون الإختلاف في زوايا وأبعاد النظر والمشاهدة. فالعلم يعمل بالطريقة والكيفية التي تجعل الشيء (موضوع المعرفة) متعيناً تعين العين، حيث تكون محسوساً ومشاهداً وقابلاً للتجريب والقياس بالمعنى الإمبيريقي. مما يجعل طريقة العلم هي التعامل مع ماهو جزئي ومنفصل ومفرد- عنصر؛ كل ذلك لكي يسهل القبض علي الشيء ووضع اليد عليه، بما يجعله دقيق وواضح، ومن ذلك فحسب يكون جنوح العلم الى البساطة والوضوح والدقة. ولكي يكون ذلك لابد من إهمال ونسيان ماهو كلي وشامل وكل بعد تأملي حدسي، وكل تمفصل واندماج بين ماهو ذاتي وماهو موضوعي. وهذا نفسه يجعل العلم ينزعج ويرتبك أشد الإرتباك أمام سؤال لماذا؟ وسؤال الماهية والتكوين والصيرورة؟ وبالتالي سؤال المعنى والقيمة؟ ذلك لأن الذي يريح العلم ويكون اساسياً عنده هو سؤال الكيف؟ وليس سؤال الماهية؟ ومن هنا يأتي مقولة هايدغر الشهيرة( العلم لا يفكر )، لا يفكر في ما عساه أن يكون ماهية الشيء، بما أن هذا السؤال سؤال تأملي في الاساس ولا يخضع لمعايير التجريب والقياس والدقة والوضوح والبساطة. ومن أجل ذلك يردد الإتجاه العلموي كثيراً أن سؤال ما هو؟ سؤال متافيزيقي لا معني له ولا طائل من وراءه.
ولكن وعلى النقيض من الأسلوب والطريقة العلمية تعمل الفلسفة من ينبوع سؤال الماهية، حيث سؤال الشمول والكل قبل سؤال الجزء المنفصل. فالفلسفة هي محاولة إستكناه الفيزياء وإستنطاق البعد الذي يجعل الفيزياء فيزياء دون غير ، والشيء شيئاً ، أي شيئية الشيء، وبالتالي طبيعية الطبيعة ووجودية الوجود، أي سؤال الشيئية قبل الشيء معنى لا يكون الشيء عند الفلسفة إلا بشيئيته، ولا يكون الموجود إلا بوجوديته، ولا يكون الفرع إلا بجزره، والثمار حيث هو بذوره، والشجرة ماهي إلا تربته، والجنين لا يكون غير رحمه.
ولذلك فإن الدلالة الفلسفية لنظرية التطور يذهب بنا إلى تخوم وحواف النظريه العلمية، وإلى المعني المقصي والمستبعد والمنسي والغير مسائل والمفكر فيه. هنالك معني مخفي ومهمل مركون في الركن ومنزوي في الزاوية تكون هي حجر الزاوية التي أهملها البناؤن (العلماء). وعليه فإن الدلالة الفلسفية والتأويل الفلسفي للنظرية تحاول الذهاب بالنظرية إلى نهاياتها وحواف معانينيها وسيميائاتها. ذلك لأن سؤال ماهية؟ لماذا؟ سؤال لاغنى عنه في عملية التفلسف وإنتاج المعنى والدلالة. فعلى سبيل المثال لماذا هنالك وجود بدلاً من اللاوجود( العدم )؟ ولماذ الحياة بدلاً منها؟ وعليه فإن السؤال الذي يتبع الأسئلة السابقة هي ما الوجود وما العدم ؟ وما الحياة وما الموت؟ ما عسى الحياة أن تكون؟ وبالتالي ما الذي يكون كوناً للوجود ؟ وحياة للحياة؟ هذه إسئلة فلسفية بإمتياز؛ بل الفلسفة لا تكون دونها وتتغذي عليها. ولكنها أكثر الأسئلة إقلاقاً للعلم. فتلك النوعية من الأسئلة تربك العلم وتجعله أصم وابكم واعمي، تجعله (لا يفكر) وغير قادر على العمل وقد شلته بالمرة. ليس العيب والختل في تلك الأسئلة كما يصورها العلم ، وإنما الختل والمشكل في أسلوب العلم وطريقته؛ فلابد للفسفة أن تتدخل دوماً لكي تنقذ العلم من فضحية اللاعلم (التجريد). مثلما ما أن العلم كثيراً ما تدخل لكي ينقذ الفلسفة من فضيحة اللافلسفة (التجريب)
كثيراً ما ارتبط نظرية التطور باسم داروين، وكأن النظريه بدأت مرة وإلى الأبد مع داروين وانتهت عنده. ولكن في ذلك مفارقة وتناقض، ولكن يعبر عن الأسلوب العلمي بإمتياز، وهو نسيان التاريخ (الصيرورة) وإهماله، أي نسيان الربط ما بين الحاضر والماضي؛ فالحاضر ما هو إلا إحضار وتمثيل للماضي (لقد حضر الماضي في الحاضر ) وما الماضي إلا وأن الحاضر قد مضي. أي أن العلم ولكي ينتصر للأسلوب الإستقرائي الإمبيريقي، يجب أن يهمل التاريخ ويدير الظهر عليه لكي يكون المنهج فاعلاً وإلا فلا. علي عكس من ذلك فإن الفلسفة لا تكون إلا من خلال التاريخ بشكل عام وتاريخها وماضيها بشمر أخص، أي لا تكون الفلسفة إلا علي خطاياها وآثامها وفضائحها. غير أن العلم يتنكر لخطاياها وآثامها والموبقات التي ارتكبه، وتلك هي نقطة ضعفه، من جهة الظن بأنها نقطة قوة، علي العكس من الفلسفة فإنها تتباهى بأخطاءها وجهلها في امتلاك الوجود والحقيقة وتلك هي نقطة قوة من حيث الظن بأنها نقطة ضعف، ومن هنا تكون هناك فلسفات في كل موضوع يتم تمثيلها فلسفياً، بينما تكون هناك علم فقط في محاولة تمثيل أي موضوع.
ولذا ليس بداروين أول من بلور نظرية التطور، بل هنالك عدة تأملات سابقة علي داروين وعصره حول الحياة، وفكرة وجود أصل وفصل واحد لجميع الأنواع والموجودات، وتمرحلها في ارتقاءها وكيفية نشوءها وفناءها. ولكن فقط يمكن القول بأن داروين مفصلي في حياة نظرية التطور، فالمؤكد أن النظريه قبل داروين ليس كمن هو بعده. فداروين كثف النظريه من خلال الجهد الكبير الذي بذله في البحث عن الأدلة وإبداع مفاهيم جديده وتأويل جديد لآليات عمل التطور، وبالتالي ضخ دماء جديدة وقوية في دورة حياة النظرية، وهذا ما أكسب اسم داروين أهمية وصدي وبريق . ولكن تبقي نظرية التطور قبل داروين وما بعده شيء علي اختلاف مع رؤاه في كل مرة . ولذا النظرية بعد داروين قد أخذت أبعاداً اخري وكثيرة، مختلفه ومهمة من حيث المضمون والشكل، أي في جسدها ولبوسها، ويجب أخذ كل هذا في الحسبان وفي المقام حين التفكير في ماذا عسى أن تكون نظرية التطور.