
في مقال لعبدالله الفكي البشير نشر في مايو 2010م أشار إلى حديث البروفسير محمد إبراهيم أبوسليم (1927م-2004م) في دراسته عن محمد أحمد المحجوب والتي ضمنها كتابه: أدباء وعلماء ومؤرخون في تاريخ السودان، الذي نشرته دار الجيل، بيروت، عام 1991م، عن ضعف قوة المتعلمين في المجتمع، وعن العوامل التي أدت لذلك الضعف. وقال واصفاً المحجوب: (كان مترفعاً على الناس لإحساسه القوي بتفوقه ومقدراته ومكانته، ولأنه لا يؤمن إلا بالخاصة، وهم المثقفون عموماً والعلماء خاصة…) أيضاً، وسم الدكتور عبدالله علي إبراهيم إحدى مقالاته بوسمٍ تضمن وصفاً لعلاقة النخبة بالواقع. وكان وسم المقال: صفوتنا: ضيوف ثقلاء على الواقع. وقال ضمن حوار تلفزيوني بقناة النيل الأزرق الفضائية: هناك الكثير من الشواهد التي تُبين أن هناك فجوة كبيرة بين الصفوة وبين مزاج غمار الناس. وقال الدكتور منصور خالد في شأن النخبة السودانية الكثير الكثي. وتحدث آخرون غيرهم. أشار البروفسير محمد عمر بشير في كتابه: تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900م-1969م، إلى أن (التعليم الذي حظي به المتعلمون لم يستطع أن يطور ملكاتهم النقدية. إذ خَلَّفَ إتجاهاً عقلياً يبلغ في دركه الأسفل الحسد. وفي أحسن صوره إحساساً بالانحراف صوب السفسطة والرومانسية).
هناك الكثير من النقد الموجه إلى طبقة المتعلمين السودانيين أو النخبة من النخبة نفسها التي قام بإعدادها المستعمر الانجليزي /المصري ليؤول إليها أمر إدارة البلاد بعد جلاءه، لكن ما يفتقر إليه هذا الاتجاه هو “التأسيس” التاريخي الذي يتتبع الاسباب التي جعلت النخبة تسلك هذا السلوك الفوقي والإستعلائي على غمار الناس ويوسم جل أفعالها بالانفصال الكامل عن المواطنين. من وجهة نظري إن الأمر يرجع الي المؤسس نفسه (المستعمر الانجليزي المصري)، فالاستعمار هو من خلق هذه الطبقة الأفندوية لتحل محله في غيابه وتواصل مشروعه الاستعماري. استمرت النخبة السودانية في سياسة المستعمر عبر الاستعلاء علي غمار الشعب السوداني كما رسم لها المستعمر، ولكي يضمن المستعمر سيطرته عليهم دق بينهم أسافين الفرقة وزرع أسباب الصراع كما أشار البروفسير محمد إبراهيم أبوسليم في وصف النخبة من حيث (ضعف أجهزتها السياسية، وطغيان الطائفية، والتدخلات الخارجية، وفقدان الاتجاه، وأصبح العمل السياسي محصلة للشللية والطموحات الشخصية وعراك القوى والمناورات)، ولتتبع هذا الخيط نلقي نظرة علي تكوين طبقة الافندية السودانية وكيف تم اختيارها وماهي أدوات إعادة إنتاجها بما يتماشي مع سياسة المستعمر.
طبقة الأفندية في السودان تشير إلى مجموعة من المثقفين والموظفين الذين نشأوا خلال الفترة الاستعمارية الإنجليزية (1898-1956). هذه الطبقة تشكلت بشكل رئيس بسبب التعليم الذي تلقوه، حيث تم إرسال عدد من السودانيين إلى الخارج للدراسة، مما أوجد طبقة جديدة من النخبة التي كانت تتحدث اللغة الإنجليزية وتفهم الثقافة الغربية.ساهم الأفندية السودانيون في تسهيل حكم المستعمر الإنجليزي من خلال توفير المعرفة المحلية والدعم الإداري. كانت هذه الطبقة تتولى العديد من المناصب الوظيفية في الحكومة الاستعمارية، حيث عملوا كموظفين ووسطاء بين السلطات البريطانية والمجتمع المحلي. استخدم الأفندية مهاراتهم التعليمية والتقنية للإسهام في بناء البنية التحتية وتعزيز النظام الإداري، مما ساعد المستعمرين على فرض سيطرتهم بشكل أكثر فعالية.
عدد من القبائل السودانية ساهمت في مساعدة المستعمر الإنجليزي خلال فترة الاستعمار، وأبرزها قبائل الجعليين والدينكا والهدندوة. الجعليين، على سبيل المثال، كان لهم دور بارز في دعم القوات الإنجليزية خلال الغزو، إذ أسهموا في توفير الوسائل اللوجستية والمعلومات عن المناطق المحلية. كذلك قبائل الدينكا والهدندوة ساهمت في دعم الحكومة الاستعمارية من خلال تلبية احتياجات القوات البريطانية أو المشاركة في القوى العسكرية التي أشار إليها الإنجليز في بعض الأحيان. هذه القبائل كانت تُستغل أحيانًا من قبل الاستعمار لتحقيق مصالح معينة، مما أوجد تباينًا في مواقف القبائل اتجاه الاستعمار وتأثيره على مجتمعاتهم.كان لقبيلة الشايقية دور في مساعدة المستعمر الإنجليزي خلال فترة الاستعمار. فقد ساهمت الشايقية في دعم القوات البريطانية في حملاتها ضد القوى الثورية مثل المهدية. أستخدمت الشايقية خبراتهم المحلية ومواردهم لتسهيل حركة الإنجليز وتوفير الدعم اللوجستي، مما ساعد في تحديد مواقع القادة الثوريين. ومع ذلك، كان لهذه العلاقة تعقيداتها وتأثيرات على مستقبل القبيلة والمجتمع السوداني بشكل عام، حيث نشأت توترات داخل المجتمع نتيجة للتعاون مع الاستعمار.
كلية غردون، التي تأسست في السودان عام 1902م، كانت واحدة من الأدوات الرئيسية التي استخدمها الاستعمار البريطاني لدعم حكمه في المنطقة. كانت الكلية، التي سميت على اسم اللورد تشارلز غوردون، تهدف إلى تدريب وإعداد النخبة المحلية للقيام بالأدوار الإدارية والحكومية تحت النظام الاستعماري.
إليك بعض الطرق التي ساعدت بها كلية غردون الاستعمار البريطاني:
- تدريب النخبة المحلية: كانت الكلية مصدرًا لتدريب الأفراد المحليين الذين سيتولون المناصب الإدارية والوظائف الحكومية في ظل الحكم الاستعماري. هذا ساعد في تسهيل الإدارة والتحكم في المستعمرات بطريقة أكثر كفاءة.
- توفير الكوادر المؤهلة: بفضل التعليم الذي تقدمه، كانت الكلية تزود الإدارة الاستعمارية بكوادر مؤهلة وقادرة على تنفيذ السياسات البريطانية بفعالية. كانت هذه الكوادر تلعب دورًا مهمًا في تحقيق الأهداف الاستعمارية في المنطقة.
- تعزيز النفوذ الثقافي: من خلال التعليم الذي قدمته، ساعدت الكلية في نشر القيم والثقافة البريطانية بين النخبة المحلية. هذا ساعد في تقوية الهيمنة الثقافية والسياسية البريطانية في السودان.
- دعم الاستقرار السياسي: من خلال تدريب الأفراد المحليين وتعليمهم كيفية إدارة الشؤون العامة، ساهمت الكلية في تعزيز الاستقرار السياسي في المناطق التي كانت تحت الحكم البريطاني.
باختصار، كانت كلية غردون جزءًا من استراتيجية الاستعمار البريطاني لضمان فعالية حكمه وتحقيق أهدافه في السودان، من خلال تقديم التعليم والتدريب للنخب المحلية التي ستساعد في إدارة المنطقة بشكل يتماشى مع المصالح الاستعمارية.
كان هناك تمييز في اختيار الطلاب للالتحاق بكلية غردون، حيث كان يتم اختيارهم بناءً على خلفيات قبائلية واجتماعية معينة. هذا التمييز كان له أغراض سياسية وإدارية محددة:
- اختيار النخب القابلة للتعاون: غالبًا ما كان يتم اختيار الطلاب من قبائل أو مجموعات كانت تُعتبر أكثر استعدادًا للتعاون مع الإدارة الاستعمارية. هذا يعني أن بعض القبائل التي كان لها علاقات جيدة مع البريطانيين أو التي كانت تتسم بالاستقرار كانت تُفضل أكثر.
- تعزيز السيطرة: عبر اختيار قبائل معينة، كان الاستعمار البريطاني يسعى إلى تعزيز السيطرة على مناطق معينة. تدريب أفراد من قبائل معينة قد يساعد في ضمان ولاء تلك القبائل ودعمها للإدارة الاستعمارية.
- توزيع السلطة: كانت الكلية تسهم في توزيع السلطة بطرق استراتيجية بين مختلف المجموعات القبلية. هذا يمكن أن يساعد في تحقيق توازن قوى يدعمه الاستعمار، مما يسهم في تقليل احتمالات الثورة أو الاضطرابات.
- تسهيل الإدارة: من خلال تدريب أفراد من قبائل أو مناطق معينة، كان من الأسهل للإدارة الاستعمارية تطبيق سياساتها وإدارتها بشكل أكثر فعالية في تلك المناطق.
بشكل عام، كان هناك تأثير ملحوظ للسياسة القبلية على اختيار الطلاب في كلية غردون، حيث كانت تُستخدم كأداة لتعزيز الهيمنة البريطانية وضمان استقرار النظام الاستعماري.
في عهد الاستعمار البريطاني، كان هناك تفضيل لبعض القبائل على غيرها في اختيار طلاب كلية غردون، وهذا كان يعكس السياسة الاستعمارية لتسهيل الإدارة وضمان الاستقرار. القبائل التي شكلت أغلب طلاب كلية غردون كانت غالبًا من المناطق التي كانت تحت سيطرة الاستعمار البريطاني والتي كانت تعتبر أكثر ولاءً أو تعاونًا. من بين هذه القبائل:
- قبائل النوبة: كانت تعتبر من القبائل الأساسية التي قدمت عددًا كبيرًا من الطلاب إلى الكلية. كان لدى النوبة علاقات تاريخية مع البريطانيين، مما جعلهم خيارًا مفضلًا.
- قبائل الدنكا: قبائل الدنكا من جنوب السودان كانت أيضًا من بين الجماعات التي تم اختيار أفرادها للدراسة في كلية غردون.
- قبائل الشايقية: كانت الشايقية من قبائل شمال السودان، وكان لهم دور ملحوظ في النظام الإداري الاستعماري.
- قبائل البجا: في شرق السودان، كانت قبائل البجا أيضًا من بين الجماعات التي تم تدريب أفرادها في الكلية.
هذا التفضيل لم يكن عشوائيًا، بل كان جزءًا من استراتيجية الاستعمار البريطاني لإدارة المنطقة من خلال دعم النخب التي من الممكن أن تكون أكثر قابلية للتعاون والمساعدة في تنفيذ سياسات الإدارة الاستعمارية.من الجدير بالذكر أن هناك أيضًا استثناءات وتفاوتات، حيث كان هناك طلاب من قبائل أخرى، لكن التوجه العام كان نحو تعزيز السيطرة من خلال اختيار أفراد من قبائل معينة.
كان هناك طلاب من دارفور الذين التحقوا بكلية غردون، وإن كان عددهم أقل مقارنة ببعض القبائل الأخرى التي كانت أكثر تواجداً في نظام التعليم الاستعماري. في فترة الاستعمار البريطاني، فيما يتعلق بالقبائل التي كان لها تمثيل من دارفور في كلية غردون، فقد كان الطلاب غالباً من القبائل الكبيرة أو المؤثرة في المنطقة. من بين القبائل التي كانت ممثلة:
- قبيلة الفور
- قبيلة المساليت
- قبيلة الزغاوة
على الرغم من أن هذه القبائل كانت ممثلة، إلا أن وجودهم في كلية غردون كان أقل بكثير مقارنةً ببعض القبائل الأخرى التي كانت تُفضل بشكل أكبر. كان هذا يعكس التركيز الاستعماري على قبائل معينة لأسباب تتعلق بالاستقرار والسيطرة السياسية، بالإضافة إلى العلاقات التاريخية والولاء للإدارة الاستعمارية.
خلال فترة الاستعمار البريطاني في السودان، كانت الفرص التعليمية للقبائل الرعوية في دارفور محدودة بشكل عام. ذلك لأن سياسات الاستعمار البريطاني كانت تركز بشكل أكبر على تطوير التعليم في المناطق الزراعية والحضرية، حيث كان هناك اهتمام أكبر بتدريب النخب التي يمكنها المساهمة في إدارة النظام الاستعماري.
تلاحظ من السرد التاريخي أعلاه بان المستعمر و بحسب دراسته للمجتمع السوداني إختار قبائل بعينها بامكانها مساعدته في تثبيت حكمه من حيث كونها اكثر تعاونا و استقرارا، بمعني آخر إختار المستعمر القبائل التي تمتهن الزراعة وليس القبائل الرعوية، من بين هذه القبائل إختار طبقة الافندية التي يسعي إلى الاستفادة منها في تسيير دولاب دولته، ونجح في هذا الشأن وأنتج طبقة الأفندية أو النخبة وحرص على أن تكون نسخة منه لتواصل مسيره.
بعد خروج المستعمر الذي تم باتفاق ثلاثي يشمل الانجليز والمصريين والأفندية ، آلت إدارة البلاد إلى تلك النخبة المصنوعة، ومن اليوم الأول دبت الخلافات بينهم كما أشار بروفسور أبو سليم في إشارته السابقة وزاد عنف الصراع وحدته، بمجيء النظرياتش العالمية والإقليمية (الشيوعية والأخوان المسلمون، والبعثيون) إلى السودان كما اشار عبدالله علي الفكي في المقال المشار إليه آنفاً.
58 عاما من الاستعمار الانجليزي – المصري خلقت طبقة اجتماعية حكمت السودان حتى يومنا هذا (70 عام ) لم يحدث أي تغيير في طريقة تفكيرها المصنوع بواسطة المستعمر، ولم يتغير استعلائها و مجافاتها لواقع غمار الناس ولم تتغير بنيتها القبلية. والحرب التي تشتعل أوارها اليوم في بلادنا تشير بوضوح أن طبقة الافندية ومجتمعها القبلي لازالوا عند محطة المستعمر لم يغادرونها أبدا.
المراجع ذات الصلة:
- “The Sudan: A Modern History” by Lord Kitchener
- “The History of the Sudan” by J. M. Roberts
- “The Egyptian Sudan: Its History and Monuments” by Sir Reginald Wingate
- “Colonial Education in Africa: The Case of Sudan” – دراسة أكاديمية
- “Sudan: The Last Years of British Rule” by John Gallagher
- “The Sudan: A Modern History” – تأليف: لورد كيردليك.
- “Sudan: The Last Years of British Rule” – تأليف: جون غالاغر
- “The Role of Education in British Colonial Rule in Sudan” – مقالة أكاديمية.
- “Education and Society in Sudan” – تأليف: محمود محمد أحمد
- “Colonial Education and its Legacy in Sudan” – دراسة أكاديمية
9 اغسطس 2024