
مراكز البحث العلمي … أهميتها أدوارها، ووجهة نظره لبعض القضايا الراهنه
حوار مع الدكتور عبدالله الفكي البشير
عبد الله الفكي البشير؛ باحثٌ وكاتبٌ سوداني. نال دكتوراه الفلسفة في التاريخ (2017) من كلية الآداب، جامعة الخرطوم بالسُّودان. ويعمل حالياً “خبير سياسي أول” في مجال الدبلوماسية والعلاقات الخارجية، وأستاذ الفكر الإسلامي المعاصر والفهم الجديد للإسلام.
تجيء كتاباته ضمن مشروع بحثي ينطلق من رؤية نقديَّة للإِرثِ السِّياسي والفِكْري في السُّودان – بشكلٍ خاص- وفي الفضاء الإسْلامي والإنساني بشكلٍ عام. ويسعى المشروع، وفي إطار انشغاله بفحص الفكر الإسلامي، وسُبل تحقيق التغيير وبناء السلام، في ظل تحديات البيئة الإنسانية الجديدة، التي فرضت الحاجة لتفكير جديد يتسم بالإحاطة والشمول والدقة، يسعى المشروع إلى الإسهام في إعادة النظر في المفاهيم والمدلولات، وإعادة تَوصيف العناوين واللافتات السِّياسية والفكرية والثَّقافية، بما يحقق السلام وكرامة الإنسان، وإنجاب الفرد الحر والمسؤول.
لديه مشروع بحثي مفتوح ومستمر، محوره وموضوعه الفهم الجديد للإسلام، الذي طرحه المفكر السوداني محمود محمد طه عام 1951. نشر البشير العديد من الأوراقِ العلميَّة، والمقالات الصحفية، وصدرت له بعض الكتب.
نص الحوار:
بطبيعة الحال تحتاج الحكومات وقوي المجتمع المدني الي من يوجهها ويضئ أمامها الطريق، ثم يحلل ويقيم ما تقدمه ينتقد قصورها ويصوب أخطائها، وهو ما تقوم به مراكز البحث العلمي والدراسات، كيف تنظر الي الفوارق بين مراكز البحوث والدراسات في العالم الغربي ومحيطنا الإفريقي والعربي؟ والي أي مدى تؤثر في تحديث المجتمع المدني والسياسي؟
أشكركم على تجسير التواصل معي عبر هذه الأسئلة التي تدعو لاستنهاض المروءة العلمية، واستشعار الواجب الثقافي والوطني تجاه السودان والإنسان. وأهنئكم على انطلاق منصة براكسس، وستجد منا كل الدعم والمساندة في سبيل تنمية الوعي وخدمة التنوير.
إن واجب الحكومات هو تنمية الإنسان ونهضة المجتمعات، وفي هذا الواجب ينبغي أن يصب دور المجتمع المدني، غير أن إحداث النهوض وتحقيق التنمية في عالم اليوم أصبح يعني استخدام العقل، وتطبيق العلم والفكر، الأمر الذي يحتم إجراء الدراسات والبحوث العلمية، ويعظم من دور المراكز البحثية. ولمَّا كان تطبيق العلم والفكر هو السبيل إلى إحداث التغيير الذي يقود إلى ترقي المجتمعات ونهوضها، فإن الفوارق كبيرة بين مراكز البحوث والدراسات في العالم الغربي، ومحيطنا الإفريقي والعربي، ليس في حجم الإنتاج وعلميته فحسب، وإنما في ضعف إيمان القادة ومتخذي القرار، بالعمل وفقاً للدراسات العلمية، فضلاً عن ثقتهم المفرطة في سقوفهم المعرفية، والتي تكون بالضرورة خفيضة أمام تعقيدات نهوض المجتمعات ومتطلباته.
إن خيارات النهوض والتنمية للمجتمعات، يجب أن تقوم على أساس العقل، وإدخال العلم في المناشط البشرية من أجل التخطيط وتحقيق الأهداف والالتزامات، كون “العلم وسيلة إلى الحياة”، كما يقول المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه، والعلم هو وقود الفكر، و”الفكر هو الإدراك الدقيق، اللطيف، الذي يميز بين الأشياء”، وهو وظيفة العقل، وبالعقل تقع الزيادة في النهوض والترقي. لا جدال في أن غياب مراكز الدراسات البحوث، وضعف استخدام العقل والتوظيف للعلم والفكر ينتج عنه تأخر نهضة المجتمعات، والتخلف في تحديث المجتمع المدني والسياسي. ويزداد الأمر تعقيداً في بيئات التعدد الثقافي، حال السودان، حيث أنها أكثر البيئات حاجة لاستخدام العلم والفكر، فمتى ما غاب العلم في نهضة مجتمعاتها، وقد ظل غائباً في السودان، حل الظلم والظلام، وتمكن الجهل، كما هو الحال اليوم في السودان، وكلما زاد الجهل أنتشر الشر، ومن ثم تفشى الصراع والحروب والتشظي. ربما يكون من المفيد الإشارة إلى أنني تناولت موضوع الحاجة لاستخدام العقل، وتطبيق العلم والفكر من أجل التنمية والنهوض بالمجتمعات، بتوسع في كتابي: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حرية- محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، ويمكن الرجوع إليه.
إن غياب العلم والفكر عن التخطيط، وفي الأداء السياسي، واقع موروث في السودان منذ قيام دولة ما بعد الاستعمار، وأوضح ما يكون في الممارسة السياسية، فإنك نادراً ما تجد حزباً سياسياً يعتمد في عمله على الدراسات والبحوث، أو لديه مركزاً بحثياً فاعلاً، ولهذا تجد جل السياسيين السودانيين يتحدثون في أكثر القضايا تعقيداً، بلا بيانات أو أرقام أو رصد أو وقائع أو دراسة علمية، وإنما من خيالاتهم، الأمر الذي جعل التربية السياسية في السودان تقوم على حسن النية و”طق حنك”، بلا علم وبلا فكر. بالطبع هناك استثناءات ولكنها تكاد لا تذكر لقلتها. الشاهد أن حسن النية لا يكفي في الإصلاح والنهوض، وإنما العلم والمعرفة، كون النهوض، يقتضي العمل بعلم ومعرفة وفهم.
بناء على تجربتكم وخبرتكم، كيف تنظر الي إسهامات مراكز الدراسات السودانية_ مركز الأيام، مركز محمود محمد طه، مركز الخاتم عدلان_ وكيف تقيم فاعلية هذه المراكز في الفضاء السياسي والاجتماعي؟
لا شك أن هذه المراكز أسهمت إسهامات متفاوتة في تنمية الوعي وخدمة التنوير، من خلال ما قدمته من فعاليات وحوارات ومنشورات وبناء قدرات للشباب، إلى جانب ما اتاحته من منابر حوارية وفرص للمثقفين لأداء واجبهم الثقافي والوطني والأخلاقي، فضلاً عن بناء الشراكات المحلية والإقليمية والدولية في سبيل خدمة قضايا السودان. وفي تقديري أن هذه المراكز، ومعها أُخر، كانت من مغذيات ثورة ديسمبر المجيدة. فلقد سدت هذه المراكز فراغ كبير في التوعية والتنوير، كونها مثلت فعل مقاومة للنظام البائد ولسياساته، ولخطابه السياسي والإعلامي. بالطبع إن المطلوب منها، يجب أن يكون أكثر مما تم تقديمه، غير أنه لا يفوت علينا الظروف القاسية التي كانت تعمل فيها هذه المراكز. لقد شهدت هذه المراكز مضايقات أمنية، بلغت حد الإغلاق لبعضها، إلى جانب ضعف الإمكانيات، والحروب المستمرة عليها، سواء من السلطة السياسية أو السلطة الدينية. لذلك لم تجد هذه المراكز البيئة الصالحة، والمناخ الصحي لأداء دورها المنشود في خدمة المجتمع، وتنمية الوعي، وتوجيه الرأي العام، وإنتاج الدراسات والبحوث.
باعتبارك أستاذ للتاريخ كيف تنظر إلى الحرب الدائرة الآن أسبابها؟ والي أي مدى تختلف عن كل حروب السودان؟ وهل ستنجح في بناء الدولة وإنهاء معاناة السودانيين التاريخية من النظم المركزية؟
تمثل هذه الحرب مرآة تعكس واقع حال السودان، وهي امتداد لحروب الدولة السودانية. كما أنها تأكيد على تراكم المظالم، جراء التنمية غير المتوازنة، والتهميش للجماعات والثقافات، والفشل في إدارة التعدد الثقافي. ويفيد اندلاع الحرب في العاصمة الخرطوم، كذلك، بأن السودان، في ظل ضعف الأحزاب السياسية وإدمانها للعمل الفوقي، وفي مشهد تقاعس المثقفين عن واجبهم الثقافي والوطني، فضلاً عن تركة حكم الإسلام السياسي، يسير، للأسف، في وجهة الَتخَلّق عبر الحرب والتدخلات الخارجية. غير أن الأمل معقود على الثورة الشعبية السلمية، والتي لا تزال حية، بقيادة الشباب، صوت المستقبل، الفاعلون الجدد، في حماية السودان من التمزق، ومن هيمنة المنتصر في الحرب.
وتؤكد الحرب، بأن حكم الإسلام السياسي، والذي امتد في السودان لثلاثين عاماً (1989- 2019)، لم يكن سوى رجوع للوراء، ونكبة على السودان والإسلام، كما أن تركته، كما هي حرب اليوم، ليس فيها سوى العنف والتقسيم للبلدان والحروب، فضلاً عن تغلغل الهوس الديني في المؤسسات القومية، كما هو الحال في القوات المسلحة السودانية، ومختلف مؤسسات الدولة. وتقدم هذه الحرب دليلاً ناصعاً على أن الدولة التي تشكِّل المليشيات لتسد مسد القوات المسلحة، وتقوم بأسوأ الأدوار نيابة عنها، لتقاتل شعبها، ولتملأ فراغاً عسكرياً عبر توظيف الصراعات القبلية، كما فعلت دولة الإسلام السياسي في السودان، لهي دولة ضعيفة وعاجزة. ومن المؤكد أن أول من يدرك ذلك الضعف والعجز هو تلك المليشيات التي سدت ذلك الفراغ. وهذا ما يعيشه السودان اليوم، حرب آثار حكم الهوس الديني، حرب قادة الجيش ضد صنيعتهم “قوات الدعم السريع”. وحتماً سيترك حكم الإسلام السياسي آثاراً يصعب تجاوزها حتى مع مرور الأيام.
بالنسبة لسؤالك عن: الي أي مدى تختلف عن كل حروب السودان؟ على سوء الحرب وقبحها أياً كانت، لابد من الوقوف عند أخلاقيات الحرب لدى حركات الكفاح المسلح، سواء الحركة الشعبية لتحرير السودان، سابقاً، والآن الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال بقيادة الحلو، وغيرها من الحركات، وضرورة الاعتراف لها بأنها في حربها ضد القوات المسلحة السودانية، لم تدخل المدن والقرى، إلا في حالات نادرة جداً، وكانت محكومة بظروف خاصة، وهذا يكشف عن المرجعيات الأخلاقية لهذه الحركات، وهي مرجعيات تنقصنا معرفتها والوعي بها. فهي لا تدعي ولم تردد شعار لا إله إلا الله، كما هو حال طرفي الحرب اليوم، وهو شعار له حرمته وقدسيته، غير أن كل الأفعال مفارقة له، بينما كانت حركات الكفاح المسلح أكثر التزاماً بأخلاقيات الحرب تجاه المدنيين، وتجاه مدنهم وقراهم وممتلكاتهم.
كذلك تميزت هذه الحرب باقتصادياتها، حيث الموارد وتعبئتها ودعم المجهود الحربي، والتي كانت من خلال توظيف الفقر، واستغلال حاجة الشباب، وشراء القادة والزعماء. وهو أمر واضح لا يحتاج لتبيين. إلى جانب قبح الحرب ووقاحتها التي تجلت في التدمير المتعمد للبنية التحتية والموارد الاقتصادية والاستراتيجية للدولة. ويضاف إلى ذلك تميزت هذه الحرب بالتدخلات الخارجية مع الطرفين، وبصورة سافرة، وإن كان التدخل الخارجي لم يغب عن السودان. ثم إنها حرب الجبناء، و”الجبان خوَّاف”، كما يقول المفكر محمود محمد طه، كون المحاكم تنتظر الكثير من قادتها، كما أن هناك مخالفات وجرائم، خاصة الجرائم التي ارتكبت في فترة النظام البائد، وقد تم ارتكابها قبل الحرب، وهي جرائم حاضرة في الذاكرة والسجلات. بالطبع لا يسع المجال للتفصيل ورصد المزيد.
ومع ذلك فإنه من المؤكد أن السودان مقبل على مرحلة جديدة كلية: مرحلة ما بعد الحرب. وفي هذه المرحلة لا مستقبل لقادة طرفي الحرب في سودان المستقبل. والمستقبل سيكون للشباب، أصحاب سلاح السلمية، شوكة ثورة ديسمبر المجيدة. ولن يكون المستقبل لأصحاب سلاح العنف من الممثلين لثأرات الماضي والجهل والقديم. لكن من المهم أن نتذكر بأن نهاية الحرب، لا تعني انتهاء مشاكل السودان، وإنما بداية العمل من أجل بناء سودان المستقبل. هذه المرحلة الجديدة تحتاج من الجميع العمل والعمل ثم العمل. وتتطلب من الأحزاب السودانية أن تتحرر من إرث العمل الفوقي وتصحيح علاقتها بالجماهير. وتحتاج الأحزاب، في ظل الوعي الثوري، الذي كشفت عنه ثورة ديسمبر، إلى تحرير نشاطها ورؤيتها من إرثها، لا سيما تمكن ثقافتي العمل الفوقي والاستقواء بغير الجماهير في سيرتها ومسيرتها. وهناك حاجة إلى إعادة النظر في طبيعة علاقة الأحزاب مع الجماهير ونبض الشارع. ويجب على الأحزاب أن تدرك بأن التغيير الحقيقي لا يتحقق إلا بإشراك الجماهير، فلقد انتهى عهد العمل الفوقي، وعهد الوصايا على الجماهير والعقول والحقوق. ولابد من عقلنة التشخيص، وفكرنة الأداء السياسي، بإدخال العلم والفكر في العمل والتخطيط.
في العام 2022م صدر كتابك “المؤسسات الإسلامية وتغذية التكفير والهوس الديني” الذي تناولت فيه الأدوار السلبية التي تلعبها الجماعات الدينية في السياق السوداني، كيف تقييم أدوار رجال الدين بعد اندلاع الحرب في السودان؟ ولماذا لم نشهد انحيازاً واضحاً من الجماعات الدينية لصالح السلام والتعايش في السودان؟
السياق السوداني سياق قوامه تعدد ثقافي نادر المثيل، بينما ظل الحاكمون له أحاديي النظرة الثقافية بصورة تكاد تناقض تركيبته الثقافية، وتصادم إرثه الحضاري، كما ورد آنفاً، مما نتج عنه، تراكم المظالم والتهميش للجماعات والثقافات، الأمر الذي أدى إلى الصراعات والحروب. ولم يقتصر الأمر على دور السلطة السياسية، وإنما كان للسلطة الدينية التي يمثلها رجال الدين، دور كبير، وعلى طول المدى، في تمزيق النسيج الاجتماعي وتهديد وحدة البلاد، بل انقسامها مؤخراً، عبر دعوتهم ودعمهم لتطبيق الشريعة الإسلامية. وغني عن القول إن تطبيق الشريعة الإسلامية بكل صورها التي طبقت في القرن السابع، يجعل من المواطن غير المسلم مواطن درجة ثانية، كونها لا تساوي بين المسلم وغير المسلم، ولا تساوي بين الرجال والنساء. كذلك لعب رجال الدين، سواء عبر مؤسساتهم مثل هيئة علماء السودان، ومعهد أم درمان العلمي/ جامعة أم درمان الإسلامية، وغيرهما، أو عبر انتماءاتهم الحزبية، الإخوان المسلمين أو الأحزاب السلفية أو الطائفية، أو عبر امتداداتهم الخارجية في مصر والسعودية، وغيرهما، أدواراً خطيرة في محاربة التجديد الديني، والمشاريع الفكرية الخلاقة. كما قاموا بمؤامرات مستمرة عبر تحالف ديني عريض، ضد الفهم الجديد للإسلام للمفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه وتلاميذه الإخوان الجمهوريين والأخوات الجمهوريات. وقد فصلت كل ذلك في الكتاب الذي أشرت إليه في سؤالك أعلاه، مع رصد وجرد للمواقف بمنهج توثيقي صارم. للمزيد، إلى جانب الكتاب أعلاه، أنظر: عبد الله الفكي البشير، الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف.
ظل رجال الدين في السودان، على الدوام ضد التغيير، وبقوا أوفياء للقديم، كونهم من أصحاب الامتياز. كانت الامتيازات التي يحصلون عليها، تحدد مواقفهم، فلقد كانوا ضد ثورة ديسمبر المجيدة، التي كانت تنشد التغيير والتحرير. وعندما اندلعت الحرب، انحازوا للحرب، من أجل مصالحهم، وهم يحلمون بعودة النظام البائد، ولم ينحازوا لصالح السلام. إن مواقف رجال الدين في السودان كانت على الدوام مغذية لمهددات وحدته وتعايشه، وفي تقديري أنهم يمثلون الخطر الماثل أمام سودان المستقبل، سودان ما بعد الحرب. ولهذا لابد للمثقفين ومؤسساتهم من القيام بعمل كبير ومكثف ومستمر لمحاصرتهم بالعلم والفكر، ومواجهتهم بتاريخهم وسجل خدماتهم ومؤامراتهم.
البعض يربط بين الحرب الدائرة الآن وبين مقولة الأستاذ محمود محمد طه عن نبوءة تجربة حكم الإخوان المسلمين، التي تحدث فيها عن سيطرتهم على السودان اقتصاديا وسياسياً، ثم أكد على انتهاء أمر السلطة فيما بينهم، واقتلاعهم من أرض السودان، هل ترى في هذه الحرب التي اندلعت في أبريل من العام الماضي تجسيداً لما قاله الأستاذ محمود؟
لقد أصبح مع مرور كل يوم تتكشف لنا صحة آراء المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه في نقد جماعات الهوس الديني، وفي غيرها من القضايا، وكلها الموثقة في كتاباته وأحاديثه منذ خمسينات القرن الماضي. ولكن علينا أن ندرك بأن الاحتفاء الأناني بصحة أقوال المفكر محمود محمد طه وأحاديثه، كما درج الكثير من المثقفين، له استحقاق، وعليه واجب، كون الاحتفاء الأناني بصحة الأقوال بما يخدم توق المثقفين وأحلامهم، فعل ينقصه النبل، وهو لا يكفي في التعبير عن الاحترام والاحتفاء، ذلك لأن صحة تلك الأقوال والكتابات، يجب أن تدفعنا إلى القيام بالواجب الأخلاقي والوطني والثقافي تجاه فكر محمود محمد طه وسيرته الفكرية، وذلك بإعادة قراءته، والعمل على هدم السردية التكفيرية التي نسجها رجال الدين حوله. وهي سردية باطلة نشهد الآن، ومع صباح كل يوم جديد، التأكيد على بطلانها، كونها سردية نسجت بكسل العقول وتناسل الجهل، وحان وقت هدمها. ولا ينبغي أن يقف واجبنا عند هدمها فحسب، وإنما علينا العمل على بناء سردية جديدة تقوم على العلم والفكر والأخلاق والمسؤولية الفردية، وذلك عبر الإقبال الجاد على دراسة فكر محمود محمد طه، وفتح الحوارات الواسعة والمستمرة والمكثفة عنه. وإذا ما فعلنا سنجد أنفسنا أمام منجم فكري ضخم وعامر بصحة الأقوال والحلول، ليس فقط تلك التي تخاطب قضايا السودان، وإنما قضايا الإنسانية جمعاء، ومطالب الإنسان المعاصر.
لقد قاد المفكر السوداني محمود محمد طه أكبر حركة نقد لجماعات الهوس الديني، مثل حركة الإخوان المسلمين، وغيرها من الجماعات الإسلامية. وأوضح في كتاباته وأحاديثه، بأن هذه الجماعات ليس لديها فكر أو مذهبية للحكم، وإنما تنطوي على هوس ديني، يمثل خطراً على السودان والإنسان، وعلى السلام العالمي. وحذر من خطر وصولها للحكم. وقد جاء الحديث الذي عُرف بحديث السوفات السبع، نسبة لما اشتمل عليه من تكرار لمفردة “سوف” سبع مرات، معبراً عن ذلك النقد والتحذير من الخطر. يقول نص حديث السوفات: “من الأفضل للشعب السوداني أن يمر بتجربة حكم جماعة الهوس الديني. وسوف تكون تجربة مفيدة للغاية. إذ ولا شك سوف تكشف لهذا الشعب مدى زيف شعارات هذه الجماعة. وسوف تسيطر هذه الجماعة على السودان اقتصادياً وسياسياً، ولو بالوسائل العسكرية. وسوف يذيقون الشعب الأمرين. وسوف يدخلون البلاد في فتنة تحيل نهارها إلى ليل. وسوف تنتهي فيما بينهم. وسوف يقتلعون من أرض السودان اقتلاعاً”.
هنا من المهم التوضيح بأن حديث السوفات السبع، لم يكن هو أول حديث يقول به المفكر محمود محمد طه، في نقد الهوس الديني وجماعة الإخوان المسلمين، فلقد كتب نفس المعاني في كتاباته منذ خمسينات وستينات القرن الماضي. ففي 6 ديسمبر 1958، كتب، قائلاً: “دعاة الفكرة الإسلامية في هذا البلد كثيرون ولكنهم غير جادين… ولكني لا بد أن أقرر أن في عملهم خطراً عظيماً على الإسلام وعلى سلامة هذه البلاد”. وكتب في 8 يناير 1965، عن مصير البلد إذا ما آل الأمر لدعاة الفكرة الإسلامية، قائلاً: “لرجعوا بهذه البلاد خطوات عديدات إلى الوراء ولأفقدوها حتى هذا التقدم البسيط الذي حصلت عليه في عهود الاستعمار ولبدا الإسلام على يديهم وكأنه حدود وعقوبات على نحو ما هو مطبق الآن في بعض البلاد الإسلامية ولكانوا بذلك نكبة على هذه البلاد وعلى الدعوة الإسلامية أيضاً”. كما أصدر عقب ثورة أكتوبر المجيدة التي اندلعت في السودان في 21 أكتوبر 1964، بياناً في 12 نوفمبر 1964، تحدث فيه عن الجماعات الإسلامية باعتبارهم الخطر الماثل على البلاد، وعلى التحول الديمقراطي، فوصفهم، قائلاً: “انهم يجهلون الإسلام جهلاً يجعل الإسلام على مفهومهم خطراً يهدد حرية هذه البلاد”. وأضاف، قائلاً: “إن هؤلاء الدعاة يشكلون خطراً على البلاد”. كما أطلق عليهم بعض الأوصاف، فعلى سبيل المثال لا الحصر، قوله عن الإخوان المسلمين: “إنهم يفوقون سوء الظن العريض، وكلما أسأت الظن بالإخوان المسلمين تجد أنك تحسن الظن بهم”.
من المهم الإشارة إلى أنني تناولت الإجابة عن سؤالك هذا، وكذلك حديث السوفات السبع، بتوسع وبتوثيق في كتاب لي جديد هو حالياً تحت النشر، وسيصدر قريباً بعنوان: محمود محمد طه: نحو فهم جديد للإسلام، عن دار محمد علي للنشر، بتونس.
في رأيك ما هي الجذور التاريخية لحرب الخامس عشر من أبريل؟ أو بصيغة أخرى ما هي أبرز الأخطاء التي حدثت في تاريخنا السياسي، أفضت الي هذه الحرب؟ وما الأدوار التي ينبغي أن تقوم مراكز البحث العلمي لتفادي الأخطاء مستقبلاً؟
تُعد هذه الحرب، حرب 15 أبريل، حرب الخرطوم، هي امتداد لحروب الدولة السودان. وهي كذلك تقدم البراهين على تقصير المثقفين في أداء واجبهم الثقافي والوطني والأخلاقي. كما أنها كشفت عن حقيقة أنه ليس لدينا سودان متفق عليه، وإنما هناك حالة بحث عن السودان. وحالة البحث عن السودان هذه، هي التي جعلتنا نعيش أزمة بناء جماعي، منذ قبل الاستقلال عام 1956 وحتى تاريخ اليوم. كذلك تؤكد هذه الحرب بأن الدولة السودانية ظلت تسير في نفس الوجهة التي ترسمها القادة منذ الاستقلال عام 1956. لقد ترسم القادة وخلفهم جل الأحزاب السياسية، وجهة تصادم تركيبة السودان الوجدانية، وتناقض آركيوليوجيته الثقافية، وتناطح إرثه الحضاري، وهي تتوق لإيجاد مرتكز حضاري خارج السودان ضمن الحاضنة العروبية بدلاً عن ذاته السودانية الإفريقية. لقد اندلعت الشرارة الأولى للحرب في جنوب السودان يوم 18 أغسطس 1955، وأضحت تتوسع، في ظل غياب الرؤية، وقصر النظر، وسياسات التهميش للجماعات والثقافات، مع تراكم المظالم، فانكوى جنوب السودان بلظاها، حتى انفصل، واحترقت دارفور، ومناطق جبال النوبة، والنيل الأزرق، ولا تزال. وتقدم هذه الحرب تفسيراً للتفاعلات الجيوسياسية المتلاحقة في المنطقة وما وراءها، لا سيما المحيط الأفريقي الذي ظل مهملاً، في الأفق السياسي السوداني. ويجب الاعتراف بذلك. لقد كشفت هذه الحرب مدى جهلنا بالمحيط الأفريقي، وإهمالنا له، لما يشبه التبرؤ منه، على حساب السير في الوجهة العروبية. كان المفكر محمود محمد طه، قد لفت انتباه القادة والسياسيين منذ خمسينات وستينات القرن الماضي، إلى أهمية تفاعل السودان مع المحيط الأفريقي، حيث امتداداته الأفريقية، قائلاً: “الحقيقة عمل السودان كبلد أفريقي أعظم من عمله كبلد عربي”. لقد وضح جلياً بأن استقرار السودان ووحدته، مرهون بتصحيح علاقاته مع المحيط الأفريقي، وبدوره كبلد أفريقي، الأمر الذي يخدم الوعي بذاتيته، فضلاً عن تواضع جميع الأطراف للاتفاق على السودان.
وتعود أسباب الحرب إلى مشاكل مزمنة ظل السودان يعيشها منذ قيام دولة ما بعد الاستعمار، فالمقدمات لانطلاق الدولة المستقلة لم تكن صحيحة، وقد لخص لنا الأستاذ محمود محمد طه ذلك، فقد كتب في العام 1954، قائلاً: “إن البوارق التي تطالعنا لا تدل على أن هذا الشعب سيكون خيراً حظاً مع حكامه السودانيين منه مع حكامه الأجانب.. ولا يظنن أحد أنى من المتشائمين، كلا!! فليس للتشاؤم في دنياي مجال، ولكنى ما أحب لنفسي أن تنخدع عن الحقائق، فتنساق في ركب أمل لم تستقم له المقدمات”. وإلى جانب المقدمات الخاطئة، هناك أزمة القيادات، فالكثير من القيادات السياسية كانت ولا تزال دون مستوى قامة السودان على طول المدى منذ الأربعينات وحتى تاريخ اليوم. وعن هذا أيضاً كتب الأستاذ محمود محمد طه في أكتوبر 1958، قائلاً: “فلقد طالما نادينا بأن حركتنا الوطنية جاهلة وأنها يجب أن تقوم على دراسات وبرامج ومذهبية وأننا ما ينبغي أن نكتفي بالشعارات الجوفاء في محاربة الاستعمار… ذلك بأننا بمثل هذا المنهج المعيب خليقون ألا نجد أنفسنا مستقلين ولا أحراراً حتى ولو جلا المستعمرون ولكن صيحاتنا ضاعت وسط الضجيج المحموم الذي يثيره أنصاف المثقفين من أدعياء السياسة وأدعياء الوطنية”. ولم يختلف واقع اليوم كثيراً، فلا يزال كثير ممن يسيطر على المشهد السياسي، ويتصدى لقيادة البلاد هم من “أنصاف المثقفين من أدعياء السياسة وأدعياء الوطنية”. وإن كان ثمة اختلاف فإننا اليوم أكثر مغالطة للحقائق، وأكثر انكاراً لمظالم الآخرين، وأكثر خوفاً من الاعتراف بالأخطاء. لكن ما يجب أن ندركه أن تصحيح المسار ومعالجة الأخطاء يبدأ بالاعتراف بالأخطاء وتسميتها بكل شجاعة وعلمية.
وفي واقع الأمر لدينا سجل ضخم من الفشل، كما أن مسارنا السياسي والفكري ينطوي على إرث مفارق للعلم والفكر، وهو يقوم على الثأرات السياسية، فضلاً عن عدم الاعتراف بالواقع الماثل، وهو واقع التعدد الثقافي، دعك من حسن إدارته. ولهذا فنحن في حاجة لعمل كبير وكثير جداً في مختلف المجالات، وعبر الآليات العصرية، حيث مراكز البحث العلمي. وهنا تأتي أهمية سؤالك: ما الأدوار التي ينبغي أن تقوم مراكز البحث العلمي لتفادي الأخطاء مستقبلاً؟ إن مراكز البحث العلمي بما تقوم به من دراسات وتشخيص للقضايا عبر العلم والفكر، وبما تتيحه للإنتاج الفكري، فإنها تُسفلت المسار لقيام الدولة العصرية. كما أن التعاطي العلمي مع القضايا وفي المسار السياسي، عبر ما تنتجه مراكز البحوث والدراسات، يساهم في محاصرة الجهل، ويضع شروطاً جديدة للممارسة السياسية. وغني عن القول ان ممارسة السياسة في مجتمعات التعدد الثقافي، إذا ما فارقت العلم والفكر، تسوق إلى التشويه والصراع والحروب. كذلك نحتاج لمراكز الدراسات والبحوث في فتح الكثير من الملفات، لا سيما ملف الذاكرة الاستعمارية، وقد تأخرنا كثيراً في العمل من أجل تفكيك المعرفة الاستعمارية Colonial Knowledge وكنس ما ترتب عليها، من أجل استكمال الاستقلال. وهو الأمر الذي لم يجد اهتماماً يذكر في السودان، في حين فرغت الكثير من الدول التي خضعت للاستعمار، من محو آثاره. فقد وضعت تلك الدول دراسة المعرفة الاستعمارية من أولويات مراكزها البحثية ومؤسساتها الأكاديمية. ثم قامت تلك المؤسسات بجعل برامج دراسات الاستعمار، أحد معطيات بيئتها البحثية وجزءاً من مناهجها الدراسية. ولا جدال في أن المعرفة الاستعمارية تسربت إلى حياة وفكر وعقول الشعوب التي خضعت للاستعمار، لا سيما في السودان. لقد ظلت تلك المعرفة تفعل فعلها في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتشكيل الأحزاب، وصناعة القادة، ومن ثم بقيت تتحكم في مسار السودان السياسي.
ولا يزال الإرث الاستعماري حاضراً وبقوة، في السودان، في العديد من المجالات. فعلى سبيل المثال، لا الحصر الثنائية التي ابتلى بها السودان، سواء في المواقف أو في التفسير، هي غرس استعماري بامتياز. وقد كشف لنا ذلك السير جيمس روبرتسون (1899- 1989)، آخر سكرتير إداري للسودان، فقد كتب في مذكراته، قائلاً: إنهم كحكام “شجعوا على التنافس المحموم بين الطائفتين الدينيتين وزعيميهما”، وهي سياسة يعترف بآثارها السلبية على السياسة السودانية، ويقول بأنها لا تزال ماثلة في الحياة السياسية السودانية. هذا الحديث، مقرونا بالطبع مع معطيات أخرى، يعين على تفسير الصراع العنيف بين طائفتي “الختمية” و “الأنصار” وبين زعيميهما، وبين المثقفين وهم يسعون لاسترضاء الزعيمين، منذ قيام مؤتمر الخريجين، وحتى أصبح ذلك الصراع والتنافس المحموم، فيما بعد، ثنائية تتسم بها الممارسة السياسية السودانية، حتى تاريخ اليوم، وكما هو الحال في الحرب الدائرة الآن، يختزل، للأسف، جل السياسيين والمثقفين، المواقف والتفسير في ثنائية جيش أو دعم سريع. إن هذه الثنائية الموروثة والمعتمدة في مسار السودان السياسي، تغيب أبعاد حرب اليوم وحجمها وتقاطعاتها، وهي حرب لها أسباب أعمق وأكثر وأشمل من أن تفسرها أو تعبر عنها هذه الثنائية. نحن في حاجة لتحرير العقول والفضاء السوداني، ولا يكون ذلك إلا بالعمل البحثي والعلمي الجاد والمستمر والمكثف.
يضاف إلى ذلك، وكما وردت الإشارة آنفاً، إن إحداث النهوض والتغيير وتحقيق التنمية والتخطيط السليم يعني تطبيق العلم والفكر، بكل صوره، ويعني توظيف البحث العلمي، من أجل تيسير حياة الإنسان، وإبراز القوى المودعة في بنيته. كما أن التغيير والنهوض للمجتمعات الذي يتم عن طريق الإقناع، والفكر، هو التغيير مأمون العواقب، والثابت، الذي يطرد كل حين ولا ينتكس.
لقد طالعنا مقال منشور بسودانايل يتهم فيه الجمهوريين بشكل عام وشخصك على وجهة الدقة بابتداع مصطلح دولة 56 الرائج مؤخراً ومن ثم يعتبرك كاتب المقال محمود عثمان زروق بأنك وفرت المشروعية الفكرية للدعم السريع في هذة الحرب كيف ترد على ذلك؟
هذا المقال الذي تشير إليه يقدم دليلاً عملياً على أهمية أسئلتك محور حوارنا هذا، كون المقال يُعبر تعبيراً بليغاً عن أهم ما ينقصنا في أداء الواجب الثقافي والوطني، من أجل تنمية الوعي وتشخيص القضايا وخدمة التنوير، ألا وهو العلم والمعرفة والبحث العلمي. فهذا المقال، مقال خديج، وهو نموذج للكتابات المضللة، وهي كثيرة للأسف، فهو لا يستوفي الشروط العلمية، كما أنه جاهل بالتطور الفكري والسياسي للسودان، ومفارق للخيال التاريخي. فابتداع مصطلح دولة 56 “شرف لا ادعيه وتهمة لا أنكرها”، غير أن ابتداع المصطلح ومن باب الأمانة وللتاريخ، لا يرجع إلى عبد الله الفكي البشير، على الرغم من نقدي المستمر لدولة 56، ولا أزال، ولن أنفك. كذلك لا يرجع ابتداع المصطلح للإخوان الجمهوريين، على الرغم من أنهم أكثر من نقد دولة 56، نقداً علمياً مكثفاً ومستمراً وموثقاً في كتاباتهم وأحاديثهم.
بل أن ما قدموه من نقد يكاد يكون بلا نظير في الفضاء السوداني. كما أنهم طرحوا حلولاً علمية وعملية لمشاكل السودان، وحذروا منذ أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي من هذا المصير الذي آلت إليه البلاد. وقد ذكرت ذلك في كتابي: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، 2021. إن مصطلح دولة 56 وارد في نقد الكثير من المثقفين، وظل المصطلح حاضراً في خطاب حركات الكفاح المسلح، قبل ظهور قوات الدعم السريع، واشتملت عليه أدبياتها. وفي الواقع كل أطراف حرب 15 أبريل، ليست أصيلة فيما ترفعه من شعارات، سواء شعار “الله أكبر”، أو دولة 56، أو التحول الديمقراطي، أو الدفاع عن الشعب، أو الحرص على المؤسسة العسكرية للدولة الجيش، أو شعارات المهمشين والتهميش… إلخ. وكان يمكن لكاتب المقال المشار إليه أعلاه، وبقليل من البحث أن يصل لهذه النتائج والخلاصات. وفي تقديري أن صاحب المقال، ومثله كُثر، يحتاج للاطلاع وللمزيد من البحث، قبل أن يتقدم للنقد. ذلك لأن العمل في تنمية الوعي وخدمة التنوير وتشخيص القضايا عبر الكتابة، يتطلب استخدام العلم والفكر وتوظيف البحث العلمي، كما أن للنقد استحقاق وشروط. وقد لخصها الأستاذ محمود محمد طه، في ثلاثة شروط، هي: الصدق في النقد، والعلم بموضوع النقد، والمسؤولية عن النقد. فالوفاء بهذه الشروط، يعني السير في وادي الكتابة بعلم وفكر وورع. ذلك لأن الكتابة مسؤولية أخلاقية، وواجب ثقافي يشترط العلم والورع والحذر، خاصة في مجتمعات التعدد الثقافي كحال السودان.
ويجب علينا أن ندرك بأن مصطلح دولة 56، هو تعبير عن إرث دولة 56 بما اشتمل عليه من تراكم للمظالم، وهضم للحقوق: الحقوق الثقافية، والاقتصادية، والتنموية، واللغوية، والدينية، … إلخ، إلى جانب غياب العدالة والمساواة بحق المواطنية، فضلاً عن التهميش والتغييب والاقصاء لبعض الجماعات والثقافات، وخروج البعض عن السجلات الوطنية. لذلك يجب علينا التركيز على القضايا والمشاكل التي أدت لنسج المصطلح، كما يجب علينا أن نعترف بهذه المشاكل، ونتداعى لبحثها وتشخيصها، ومن ثم وضع العلاج والحلول لها.
ولهذا فإن قول الكاتب في مقاله المشار إليه أعلاه، بأنني وفرت المشروعية الفكرية للدعم السريع لشن الحرب، قول ينقصه العلم، وينطوي على عجلة في الاتهام، وجرأة ساذجة في إطلاق الأحكام، أنظر لعنوان المقال: “الجمهوريون هم من اخترعوا مصلح (دولة 56)”. ما هكذا تكون الكتابة عن شؤون السودان، وما هكذا يُدرس تاريخ السودان، لاسيما تاريخ الأفكار، والذي يعرف كذلك بتاريخ العقليات وتاريخ الذهنيات. مثل هذه الكتابات الفطيرة والساذجة، وهي كثيرة، تعمق الصراعات، وتغذي الحروب. ولهذا، يقع على المثقفين الأحرار واجب العمل بالعلم والفكر والبحث العلمي، من أجل تحرير العقول والفضاء السوداني من مثل هذه الخزعبلات. والحق أنه نتيجة لمثل هذه الكتابات “المكلوجة” والقراءات المتعجلة، وضعف الالتزام بالشروط العلمية، ومن ثم استخلاص النتائج “الملولوة” الخادمة للأمنيات المتحاملة والظالمة لنفس أصحابها وللآخرين، كان لابد أن أن تشتعل الحرب الشاملة في السودان، وكان لابد للجهل أن يسد مسد العلم، وكل ما زاد الجهل، كما ورد آنفاً، انتشر الشر.