أدب وفلسفة

لِمَ اللعب؟

خالد تورين

اللعب هزل بالجِد وجِدٌ بالهزل، ذلك لأنه واقعي ومجازي، حقيقي وخيالي، وهم ومتحقق، إمكان وفعل. في اللعب ينسكب إمكانات الذات في العالم ويُنثر، لينحل العالم في رغبة الذات ويذوب الذات في العالم من خلال ممكناته. اللعب مقامرة الذات بما لديها من ممكنات ليكسب ويخلق عالماً ويكشف وجوداً يرى فيه نفسه. ولذلك هو ليس بالعبث بل فعل وجودي بامتياز، بل هو أكثر الأفعال الوجودية أهمية وقرباً من الكينونة، وفيه يتطابق الذات مع كينونته “الحرية”، لذلك هو أكثر الأفعال استدعاءً للحرية بل لا يكون أبداً إلا بالفعل الحر، ولذا جوهر اللعب يتماهي مع الحرية.

 

لكي نلعب علينا الاستماع فقط لصوت واحد وهو كيف لنا أن نخرج ونستدعي ما في أنفسنا من ممكنات (إبداع، خلق، ابتكار… إلخ). ومن أجل ذلك هو أكثر الأفعال إثارة وتشويقاً ودرامية ومأساوية أيضاً، وهو كذلك أكثر الأفعال التي من خلالها نصل إلى قمة النشوة والغبطة عند الانتصار، وبنفس القدر إلى قمة اليأس والإحباط عند الخسارة. الانتصار هو تأكيد وإثبات لوجود الذات بالجدارة، والخسارة هي إعدام للذات وبالتالي الإحساس بتفاهتها وعدم قيمتها.

 

إذاً في اللعب مفارقة، والوجود ليس شيئاً غير إنها المفارقة! مفارقة اللعب مثلما أنها مفارقة الوجود تكمن في أنها هزل وجد، مرونة وصلابة، لطافة وكثافة. فإذا كان الوجود غير اللاعب ينتمي إلى الوعي، فإن الوجود اللاعب يكون من جنس اللاوعي، فالوعي شد وحزم، وإلجام، قيد، خنق، وضيق وكبت، تحفظ، انكماش، انزواء، بينما اللاوعي (اللعب) إطلاق وسراح وفسحة، ولا مبالاة وانطلاق، مساحة، حرية، تمدد، ثورة.

 

ففي اللعب شَبَق، وإثارة وتوتر، ذلك لأن اللعب يجعل العلاقة مع الوجود داخلية وليست خارجية. عند اللعب فقط نستدعي الوجود إلينا، يكون الوجود جزءاً منا، لنا لا علينا، نستضيف الوجود ونكون ضيوفه من خلال اللعب. ولذا من خلال اللعب يتم إزالة الغربة والوحشة عن الوجود، بما أننا نبدع مع اللعب. ولذا اللعب قرب من الوجود وألفة معه، وسكن إليه. ولذا اللعب فن، وفي الفن شَبَق، وفي الشبق دعوة للاجتماع والفناء والذوبان، وما اللعب إلا دعوة لذوبان الواقع والممكن، الوجود بالفعل والوجود بالقوة. ولذا أداة الفن الخيال مثلما هي أداة اللعب.

 

في اللعب مزج ولقاء بين السماء (الموهبة) والأرض (الظرف)، بين الحيوان المنوي (الإمكان، البذرة، الخيال) والبويضة (الحال، الواقع، التربة). ومن هنا عن طريق اللعب (الفن) فقط، يكون التأرجح بين الإنسان وممكناته، بين وعيه ولاوعيه، بينه وبين إلآهه، بين عقله وجسده. فالإنسان لا يكون إلا بأن يرى ذاته (إبداعاته) خارجه، لابد له من أن يخلق مرآة يرى فيها نفسه، واللعب خير وسيلة لذلك، إنه المرآة الصافية التي نرى فيها أنفسنا.

 

ماذا يفعل الإنسان لكي يوجد ويكون؟ إنه يرمز الوجود، يجعل من الوجود وجوداً، أي يشكل الوجود، أي يخلقه ويبتكره، وإلا كان الوجود غريباً، لغيره وليس له، ولا يكون الإنسان إلا في وطن وسكنه، واللعب هو الوسيلة الأنجز لترميز الوجود، جعل الوجود مرآة لرؤية الذات والشهود عليه. والشهود على الذات هو إمكان القرب منه وألفته، ومن هنا فإن اللعب قرب وضيافة ولصق وإنجلاء. ولذا الإنسان حيوان لاعب أكثر من غيره، للعلاقة الفريدة بين الإنسان والوجود. فوجوده هو وجود المفارقة، وجود الوجود هو الوجود المفارق.

 

ولأن اللعب هو ضيافة الوجود، فإنه فعل الأقصى والشد والتوتر العالي. فعندما نلعب فنحن نكون في أقصى وجودنا، ونذهب إلى تخومه وحافته، ولا يكون ذلك إلا بالكم النوعي والنوع الكمي، ومن هنا فإن اللعب استنفار وجودي لكافة القوى الوجودية، وتصعيد إلى أقصى حد ممكن. ولذلك اللعب قلق وتوتر وإثارة وتلاعب بالأعصاب. ولذا لا يمكن تحمل اللعب إلا فترة قليلة، فزمن اللعب وخاصة اللعب النوعي قليل، لأن الوعي لا يستطيع تحمل لاوعيه أكثر مما يحتمله مثل النشوة الجنسية، هي محاولة الخروج من الذات، ولذا شد لكل شيء فينا، محاولة إلغاء، موت الوعي، والدخول الكامل إلى اللاوعي، ولكن هيهات، فنحن بين ذلك سبيلاً. وهل الجنس شيئاً آخر غير أنه لعب؟ وهل الوجود شيئاً غير اللعب؟

 

إذاً الواقع رتيب، ممل، لأنه مكرر، ويعيد نفسه، ولا جديد، ولا إدهاش، وبالتالي غريب، ومن أجل كسر الرتابة والملل، والوحشة والتكرار، يكون اللعب. فاللعب إدهاش وسحر، لأنه كسر للتكرار المؤتلف والإتيان بالتكرار المختلف، ولذا اللعب هو القديم المتجدد، بينما الواقع هو الجديد المتقادم.

 

في اللعب إيجاد للمعنى وفي نفس الوقت فقدانه، فاللعب متعة ونشوة وغبطة، غبطة الذات من ذاتها (إمكاناتها)، العبث يجعلنا نبدع، وبالتالي يحررنا ومن هنا ننتشي حين اللعب. ولذا عندما يتحول العمل إلى لعب يكون ممتعاً، ويقودنا إليه بالحب لا بالكره، وهل الحب شيئاً آخر غير اللعب؟ وفي نفس الوقت اللعب فقدان وضياع للمعنى، لأنه حجاب للوعي، وبالتالي حجاب لحاجة اليومي، حجاب للحياة الكمية والتكرار المؤتلف لحياتنا، وتكرار المؤتلف وحياة الكم والعدد لا تكون إلا بالسلطة الخارجية (الوقار، الجد، الحزم، الكبت، العبودية، المنع، التحريم، الحساب)، ومن هنا يكون اللعب على حساب السلطة الخارجية وتكون اللعب في حالة الاحتكام إلى منطق السلطة الخارجية، عبث، لا طائل من وراءه، لا نفع من خلاله، ضياع للوقت، وهدر للطاقات، وبالتالي هي مذمة وذميمة.

 

ولكن وعلى العكس من ذلك فإن اللعب وفق منطق السلطة الداخلية هو النوعية في الوجود، متعة الروح ونوعيته وليس كمّه المستمر، المفارقة والتخطي، وليس السكون والتكرار.

 

اللعب لا يكون إلا مع آخر “غير”، في اللعب استدعاء ضروري وواجب للآخر، لكي يكون مرآة الذات، وهذا تأكيد بأن وجودنا هو في الأساس وجود مع الآخر، لا يكون الذات ويصير إلا في علاقته مع الآخر، الذات يوجد عندما يقارن نفسه مع الآخر ويمتحنه. ومن هنا فإن اللعب مفارقة كون الذات يكون عن طريق ممكناته، وهذا يعني الأنانية والبخل، وبين كون ذلك الإمكان لا يكون إلا مع وجود الآخر، فالآخر يكون حصان طروادة لتمرير أجندة الذات، وفيه يتحول الذات إلى الآخر ويكون هو غيره، أي لا يكون الذات هو هو إلا لأن هو غيره.

 

ومن هنا فإن اللعب صداقة وعداوة، حب وكره، سلم وحرب. ولذا شريك اللعب هو صديق (حب) وعدو (كره)، لا يكون اللعب إلا إذا هنالك جو من الصداقة أي اللطف والحب، والقبول، والتشارك، وهذا ما يتعارض مع الأنانية، ويتماشى مع الإيثار والتكامل. وفي ذات الوقت لا يكون اللعب إلا مع شيء من المنافسة، والمنافسة هي التفضيل والإقصاء، ورفض الآخر وبالتالي الحرب عليه. إذاً المنافسة هي مهماز لكي يكون الذات، والمنافسة فيها التفاضل بدل التكامل والأنانية بدل الإيثار.

 

فإذا كان اللعب لا يكون إلا مع الصداقة والعداوة معاً، فإن الصداقة هي في الأساس عداوة مقلوبة والعكس صحيح. ومن هنا فإن التعبير عن الحب دائماً ما يكون عن طريق اللعب (المزاح)، فالمزاح هو تعبير عن الصداقة والعداوة في الآن ذاته، فالمزاح وكأنه صراع الذات مع الآخر ولكنه لا يكون إلا مع الصديق والقريب، لا يكون المزاح مع الغريب، لذلك لأنه من الصعب اللعب مع الغريب، لأن اللعب في الأساس هو محاولة جعل الغريب قريباً ومألوفاً، ولذا نلعب مع المألوف والأكثر قرباً لنا، لأن مع الصديق (القريب) حرية، وفسحة ومساحة، لأنه أصبح داخلنا وليس خارجنا، على العكس من ذلك الغريب البعيد يستحيل اللعب (المزاح) معه، لأنه في خارجنا وليس جزءاً منا.

 

في اللعب توحيد والتئام لشيء فينا (الجسد/ الروح، الخيال/ الواقع، الوجد/ العقل، الجزء/ الكل، الفرد/ الجماعة). وأكثر الألعاب إثارة وتشويقاً ومتعة هي التي توحد بين تلك، ولا تفصل بينهم. فكرة القدم هي من الألعاب الأكثر إثارة وتشويقاً ومتعة، ومتابعة، لأنه يجمع بين كل المتناقضات. فكرة القدم هي وحدة عميقة بين فعل الجسد وفعل العقل، فعل العقل والحدس، الفرد والجماعة. فاللعب الجيد هو البرزخ الذي يكون بين فكرة العقل وتنفيذ الجسد، بين الخطة الكلية واستراتيجية اللعب والتي تكون جماعية وبين مهارة وإبداع اللاعب الفرد وهي فردية، بين خطة المدرب ومواهب اللاعبين. كرة القدم لا تكون إلا بالفريق (بالجماعة) ولكن لا تكون كذلك إلا بمهارات وقدرات كل لاعب على حده. تلك هي سيمفونية الوجود أيضاً، معزوفة الوجود هي في المفارقة بين الفرد والجماعة، بين القبلي (الخطة) والبعدي (المهارة)، بين الواقع والخيال، تلك هي حال اللعب من جنس حال الوجود.

 

ومتى تكون لعبة الكرة قمة في المتعة والإثارة (عندما نقول هذه المباراة جميلة والهدف جميل والمشهد جميل والمراوغة جميلة)؟ تكون فقط عندما تكون المفارقة! جمالية المباراة في مفارقته، بين الممكن والواقع، بين العقل والخيال، بين المتوقع والمرجو. فالهدف الجميل يكون في المفارقة بين كونه مستحيلاً وقد وقع، بين ضئالة إمكانه وبين وقوعه، عندما تكون الكرة من مسافة بعيدة تدخل الشباك فتكون هناك مفارقة بين بعده من المرمى وقربه في الوقت ذاته، أو بين السرعة والدقة، أو عندما يكون في الزاوية المستحيلة، المستحيلة أصبحت واقعة ولذا يكون الهدف جميلاً، أو عندما يأتي الهدف من خلال عدة تمريرات في المساحة الضيقة، ويكون هناك مقلب وعدم توقع للدفاع والحراسة، يكون الهدف جميلاً، جميلاً لأنه مباغت، غير متوقع ولكنه أصبح واقعاً. وهكذا يمكن فهم جماليات اللعب بالمفارقة، واللعب مفارقة والجمال مفارقة والوجود مفارقة والله مفارقة.

 

ولأن مرحلة الطفولة هي أكثر المراحل قرباً من الكينونة وهي بكارة الوجود وفيها تكثيف كبير لإمكاناتنا، يكون اللعب خير وسيلة في تلك المرحلة للتعبير عن ذواتنا، لأنها مرحلة الالتئام بين كل شيء فينا، العالم لا ينفصل عنا ولا ننفصل عن العالم في حالة الطفولة. ولذا الطفل هو حيوان لاعب، وحيوان يعبث بالوجود. عند الطفل الوجود عبث، لأن الوجود عنده جميل وصافي وبريء. فاللعب براءة وتلقاء وتدفق وينبوع، ولذا فكل لعب هو شيء من البراءة والتلقاء، بعيد عن التصنع والتكلف والتعسف. ومن هنا فإن عالم الطفولة هو ضد كل سلطة خارجية، ضد منطق الحلال والحرام، والعيب واللا يجوز. فاللعب هو تدفق الينبوع دون إقفال، وبالتالي الطفولة ضد كل وقار وهيبة وجلال، مثل اللعب فإنه جميل دون أن يكون جليلاً، ممتع وجذاب وفاتن وساحر، دون أن يكون مخيفاً ورهيباً. إذاً في اللعب يتطابق الوجود مع ماهيته وهو الفعل الحر، ومن هنا فإن الوجود لعب واللعبة وجود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى