أدب وفلسفة

سؤال الحرية تحت ظلال الدولة الحديثة

بقلم: خالد تورين

 سؤال الحرية تحت ظلال الدولة الحديثة

بقلم: خالد تورين

ما يبدو  لأول وهلة هو ٲن الحرية والدولة علي طرفي نقيض، باعتبار ٲن الحرية هي مقاومة السلطة ولا تتٲسس إلا علي أنقاضها،  وباعتبار ٲن  الدولة هي التمثل الأكثر بروزا ووضوحاً للسلطة.

وبالتالي النتيجة هي إما الحرية أو الدولة “السلطة”. ومن أجل ذلك، ذهب الاناركيون والشيوعيون إلي رفض الدولة والغاءها مقابل الحرية الكاملة والمساواة التامة. ذلك لأن الدولة حسب الٲناركية مهما كانت شكلها ولونها فهي مصادرة للحرية التي بدونها لا يكون الإنسان إنساناً. فالسلطة بأشكالها المختلفة ” الدين، الدولة، الٲسرة، المؤسسة في عمومها ” هي ٲُس العبودية “اللاحرية ” (1). وفي نفس الاتجاه ذهبت الشيوعية إلى ٲن نشوء الدولة تزامن وترافق مع نشوء الملكية الخاصة والتي بدورها أدى إلى ظهور الطبقات والتفاوت؛ مما كان سبباً مباشراَ في ظهور الاستغلال “عدم المساواة ” والعبودية ” وغياب الحرية “؛ وبناءً عليه لا تكون المساواة التامة والحرية الكاملة إلا بالغاء المكلية الخاصة، مما يؤدي تلقائياَ أوأوتوماتيكياً إلى إلغاء طوابع وملاحق الملكية الخاصة والتي تتمثل في “الدولة، الٲسرة، الطبقة “، وبالتالي تتلاشي تلقائياً كل من التفاوت والاستغلال والعبودية، وتكون الحرية والمساواة. (2)

ولكن ما توصلت اليه الأناركية والشيوعية تبدو يوتوبيا أو أقرب إلي الحلم واللاواقع، لماذا؟ لأن الاناركية والشيوعية علي السواء أغفلتا وفاتت عليهما الطبيعة المزدوجة للوجود البشري؛ الإنسان لايكون إلا بالحرية، وفي الوقت ذاته لا يوجد إلا بمعية السلطة!  تلك هي المفارقة التي لابد منها. ما يؤكد ويسند ذلك هو أن الإنسان عبر تاريخه المديد والعامر ظل ينشد ويتوق توقاً عارماً الي الحرية والمساواة، وفي نفس الوقت ظل يبذل الجهد المضعف في تأسيس السلطة ونسج خيوطها. فبقدر التغني والعزف علي ناي الحرية، يكون شد وتثبيت أركان السلطة قوياً.  يعود ذلك الازدواج والتأرجح الي شرط الإنسان الوجودي؛ فالإنسان موجود لكي يوجد، وكائن لكي يكون. أي عليه أن يصنع وجوده ويبني نزله ومسكنه الوجودي. مما يدلل علي ذلك هو أن وجوده ليس معطي ومغلق، وإنما خلاق ومفتوح، مما يعني أن وجوده دوما مخالف وعكس علي ما هو عليه، فالإنسان لكي يوجد عليه أن يخذل نفسه دائما، عليه أن يتجاوز ذاته، لكي يولد عليه دوماً أن يموت؛ ولكي يصلح عليه أن يفسد، ولكي يكون حراً عليه أن  يقيد ويكبل!  هذا هو منطق تأرجح الانسان بين الحرية والسلطة.

فالحرية تأتي للإنسان من كونه قد وهب وسُلم الأمانة ” الوعي، الإرادة  المسئولية، الاستخلاف “؛ مما يعني أن وجوده محكوم “بالاختار، الرهان، الممكن”؛ مما يجعل الإنسان يبحث دوماً عن وجوده الفريد والخاص والحميم. وفي سعيه الدؤوب يبحث عن مسكنٍ يسكن إليه ومأوي يأويه. إذاً الفردانية والخصوصية سمة الإنسان قوامها تلك الامانة. ولكن هذه الأمانة ” الحرية “، قد سلمت للإنسان ووهبت له علي طبق من الإكراهات ” اللاحرية “؛ تأتي تلك الإكرهات من كون وجود الإنسان مشروط بالزمان والمكان، نتيجة الحركة والانبثاق والانزلاق والانفصال مما أدى إلى الظهور والتشتت والاختلاف. وبدورها كانت الصيرورة ” النشوء والفناء” , وبالتالي أصبح الوجود نسبي، علائقي، مشروط ، ومحدود. ومن هنا يأتي الإكراه في وجود الإنساني ” الإكراه البيولوجي والنفسي والاجتماعي والسياسي”، ومن هنا تأتي السلطة.

كثير من أهل التصوف والباطن فطنوا إلى تلك المفارقة الوجودية الكبرى، والتي فيها نبحث عن الحرية “ذواتنا / الله ” من خلال وجودنا المشروط والمكره، فكانت نتيجتهم وتقريرهم النهائي هو أن لا حرية إلا في اللاجود؛ أي في (الموت/ العدم/ الفناء)، مما يعني التخلص والتبرئه من كل علاقة وسياق وكل زمان ومكان من اجل كسب المطلق ” الحرية “. أي أن لا حرية في هذا العالم الظاهري. وبالتالي علينا الانسحاب والتسلل والاهتداء حيث توجد الحرية عند “الذات/الله “. ويحدث ذلك من خلال تقنيات ” الزهد/الترك التخلي/ نكران الذات.

الحرية في محراب الدولة الحديثة

أعتقد وأظن بأن سؤال الحرية يتطابق مع ماهيه وجوهر الدولة الحديثة الي حد بعيد، فمع الدولة الحديثة تكون السلطة وقد انعكست علي نفسها ووعت ذاتها علي حسب التعبير الهيجلي (3). ذالك لأن الدولة الحديثة بالمعني الليبرالي التي سادت؛ ما قامت إلا للاجابة علي سؤال الحرية والمساواة، وهي أيضاً سمة الدولة الحديتة بالمعني الاشتراكي والأناركي ايضاً. ولكن مأثرة الدولة الليبرالية في أنها فطنت لمفارقة “الحرية/السلطة ” التي تحدد وتشرط الوجودي الإنساني. ومن أجل ذلك حاولت أن تبقي علي طرفي المعادلة “الحرية/السلطة”. علي عكس ما ذهبت اليه الاشتركية والأناركية بإلغاء السلطة في سبيل الحرية والمساواة. وأيضاً علي النقيض مما ذهبت اليه الدولة ما قبل الحديثة “الامبراطوريات والملكيات ” علي الغاء الحرية والمساواة في سبيل السلطة.

إذاً الدولة الحديثة في شكلها ولبوسها الليبرالي حاولت أن تأسس الدولة “السلطة ” علي أرضية وقاعدة الحرية؛ بمعني أن الدولة تقوم إذا قامت علي مشروعية أساسها الحرية والمساواة.  ومن أجل ذلك برزت مفاهيم “العقد الاجتماعي/المواطنة/ حقوق الانسان/ العلمانية ” لأول مرة مع ظهور وبروز الدولة الحديثة،  فاصبح منطق السلطة ” الدولة تقوم علي اللاسلطة ” الحرية”، فاصبحت السلطة منبعها ومبعثها الشعب “المواطنون وكل المواطنون “. أي تنتقل السلطة من أسفل إلى أعلي وليس العكس على ما كان عليه في سالف الزمان ماقبل الدولة الحديثة. حيث كانت شرعية السلطة تكون من السلطة نفسها وليست من المواطنون.  فاصبح المشاركة والمواطنة تعني أن الكل “الشعب” سواسية وعلي درجة ومستوي واحد من حيث الحقوق والواجبات. وبالتالي إلغاء العلاقات الهيراركية/التراتبية والرأسية واحلال محلها العلاقات الافقية.

إذاً الدولة الحديثة الليبرالية تريد إقامة السلطة من أجل الحرية! أي أن السلطة التي تكون هي سلطة الحرية، بما أن الحرية لا تكون إلا في ضوء الشرط الانساني  شرط العلاقات والحدود والاكراهات. ومن أجل ذلك كان الشعار الذائع الصيت ” تنتهي حرية الفرد عندما تبدأ حرية الآخرين “. فالقانون والتشريعات في الدولة الحديثة تقوم علي فكرة الحقوق والواجبات. والحقوق هي أن نتمثل الحرية والمساواة في اقصي حد ممكن.  والواجبات هي أن نقيد الحرية والمساواة الي أقل حد ممكن؛ كل ذلك في سبيل تحقق العدالة في أقصي حد ممكن.  إذاً لاوجود لحرية مطلقة علي ما ذهبت عليه الاناركية والشيوعيية؛ طالما هنالك علاقات وتغاير ونسبية وزمان ومكان تحكم وتحيط بالوجود.

في نقد مفهوم الحرية الكائنة تحت ظلال الدولة الحديثة

يُعد مفهوم العقد الاجتماعي بمثابة القاعدة والركيزة التي قامت عليها الدولة الحديثة. وبما أن الدولة الحديثة هي بنت الحداثة أو العصر الحديث؛ فإنها ما فتئت تتأثر بالمفاهيم التي قامت عليها الحداثة وتأثر فيها ايضاً. فمفهوم العقد الاجتماعي الذي صاغه كل من “هوبز ولوك ورسو ” علي اختلاف رأي وجهة نظر كل واحد منهم، قامت علي مفهوم وفلسفة محددة حول الذات والآخر والمجتمع قوام هذه الفلسفة هي “الكجيتو الديكارتي/ الانا افكر الديكارتي “. فمفهوم الكجيتو أو الأنا أفكر الديكارتي يقوم علي أن هنالك ذات مفكرة أو أن الذات لا توجود إلا لأنها مفكرة، وبما أنها مفكرة فهي عارفة والمعرفة يتطلب موضوعاً ” أخراً” للمعرفة وبما أن الذات عارفة فهي فاعلة بسبب معرفتها وبالتالي ايجابية، مقابل آخر خارج الذات ” ما عدا الذات ” منفعلة وسلبية؛ وبما أنها فاعلة فهي مستقلة عن غيرها ومركزية (4). هكذا تكون تكون علاقة الأنا بالآخر علاقة ذات وموضوع، موجب وسالب، فاعل ومنفعل، مركز وهامش. وهي أيضاً علاقة خارجية وميكانيكية وقسرية وشيئية.  وتبعاً لذلك جاء مفهوم العقد الاجتماعي الذي قام وتأسس منذ البداية علي مفهوم للذات والآخر قوامها  الانفصال والاستقلال والجوهرانية كما هو حال الكجيتو.  ومن أجل ذلك نجد أن هوبز المنظر الأول لمفهوم العقد الاجتماعي ذهب إلي أن الإنسان كان حرا ومستقلاً قبل السلطة والقانون،  وحريته هنا توازي أنانيته المفرطة. فالانسان هنا لا يعرف إلا أناه الخاص به وذاته المطلقة. وكل شئ هنا من أجله وبالتالي هو كل شئ. ولكن هذه الحالة تؤدي إلي حرب الكل ضد الكل. فالانسان ذئب لأخيه الإنسان.  فيضطر الإنسان اضطراراً ويتنازل من حريته وأنانيته من أجل النظام والقانون؛ لكي يحافظ على حياته وذاته (5). ومن أجل ذلك قام العقد الاجتماعي؛  فالعقد هنا إذا نتيجة طارئة وظرفية، كأننا مجبورون علي استضافة الآخر. وفي هذه الحالة يكون ضيفاً ثقيل. وعلي نفس المنوال والشاكلة ذهب جان جاك روسو الي أن في البدء كانت الحرية وكانت الاستقلالية؛ فأجبر الإنسان على أن يدخل في علاقات اجتماعية، مما أدي به إلى أن يتنازل عن حريته مقابل النظام والقانون(6). وكأننا نحن مجبرون علي العيش سوياً.

كل ذلك ” العقد الاجتماعي القديم ” يطرح اليوم على طاولة النقد، فهنالك دعوة ملحة الي عقد/عهد جديد يقوم على مراجعة الأسس والمفاهيم المعرفية والسياسية التي قامت عليها الحداثة. وبالتالي أسس ومفاهيم الدولة الحديثة؛ وأولى تلك المفاهيم هو مفهوم العقد الاجتماعي. فنجد ذلك عند كل من “ريكور، وهبرماس‘ تاريلور، جون راؤلز …الخ ” . ومنها أيضا تلك المفاهيم التي يجب إعادة بناءها لكي يكون هنالك إعادة شاملة لكافة المفاهيم الاخري هو مفهوم الذات والموضوع، والأنا والآخر، والداخل والخارج. أي مراجعة وفحص لمفهوم الكجتو الديكارتي بأعتبارها الأساس الذي تشكلت بها المفاهيم الاخري.  فالكجيتو الديكارتي اخطأت حين رأت في الذات جوهراً ثابتاً قاراَ؛ وبالتالي مستقلة استقلالاٌ مطلقاٌ عما عداها وغفلت بأن علاقة الذات والموضوع أ والأنا والاخر؛ ليست بالعلاقة الخارجية أو الفيزيائية. وإنما علاقة داخلية وكيميائية صميمية يحمل كل منهما الاخر في جوفه ورحمه. بمعني أن لا فكاك للذات من الآخر والعكس بالعكس. أي الذات لا يقوم ولا تفكر إلا في الاخر وبالاخر. ومن هنا تأتي مقولة ريكور “الذات عينها كآخر “. ومن هنا ننتقل من مفهوم الذات إلي مفهوم التذات كما عند هابرماس،  فتكون الذات هي الآخر وقد خرجت؛ والآخر هو الذات وقد دخلت!.

وبذلك يعاد النظر في مفهوم العقد الاجتماعي والديمقراطية ذاتها.  فيكون العقد الاجتماعي ليس عقداً لاحقاً وتالياً‘ وبالتالي عقداً طارئاً وظرفياً ملته ظروفاً خارجة عن كيانناً ليس كالعقد التجاري، وإنما عقداً وجودياً يقوم منذ البدء علي أن الذات مشروط ومعقود بالآخر. فلا وجود منذ البدء للحرية خارج الآخر، ومن هنا تنتفي علاقة الذات وموضوع أناوآخر، أوفاعل/منفعل.

وبها أيضا يتم الانتقال من الديمقراطية الموسمية والميكانيكية، التي استلهمت العقد/العهد القديم، إلى الديمقراطية التشاركية واليومية والتواصلية. إنها ممارسة يومية وتمرين دائم علي الحوار والانفتاح والاصغاء للآخر والنقد المستمر. وبذلك تكون الممارسة الديمقراطية تخرج من إطار السلطة الضيقة إلي كل مفاصل الحياة، وتخرج إلى فضاء الحرية والمساواة من المفهوم الميكانيكي الي الحرية التفاعلية والتشاركية والتواصلية والتداولية.

خالد تورين/اغسطس/2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى